المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

دعوة إلى إنصاف محمود محمد طه والجمهوريين (1)

دعوة إلى إنصاف محمود محمد طه والجمهوريين (1)

يتحرك الجمهوريون هذه الأيام حركة دائبة ونشطة، ويتصدون لكل من يتفوه بكلمة، أو ينبس ببنت شفة في حق زعيمهم محمود محمد طه الذي أُعدم يوم الجمعة 27 ربيع الثاني 1406ه الموافق 18 يناير 1985م، بعد حكم صادر عن محكمة الموضوع رقم (4) بأم درمان بتأريخ 8/1/1985م، وأيدت محكمة الاستئناف الحكم يوم 15/1/1985م، ونُفِّذ الحكم يوم الجمعة 18/1/1985م، بعد استتابة زعيم الجمهوريين ورفاقة الأربعة الذين أعلنوا التوبة، ونطقوا الشهادتين، أما محمود نفسه فلم يقر بالتوبة، بل رفض التعامل مع المحكمة، وخطب فيها خطبة محفوظة وموثقة في أضابير وسجلات القضائية ..

وهذه دعوة مني لإنصاف محمود محمد طه وإنصاف الجمهوريين، وليس معنى الإنصاف كيل الثناء والإغداق في المديح، وليس من معاني الإنصاف الانحياز لمن يطلب الإنصاف والتحامل على خصومه .. بل إنّ من أول مقتضيات الإنصاف بسطه على المتخاصمين بالسوية، والانتصاف لكلٍ منهما من الآخر ..

والجمهوريون اليوم يقولون إنّ خصومهم لا ينصفونهم، ومن أول شواهدِهم على عدم الإنصاف أنّ خصومهم عندما يكتبون عن محاكمة محمود محمد طه وإعدامه لا يذكرون حكم المحكمة العليا التي جاءت بعد حوالي عام من تنفيذ حكم الإعدام فيه، ونقضت حكم محكمة الموضوع (محكمة المهلاوي) .. ومحكمة الاستئناف (محكمة المكاشفي طه الكباشي)، وكان حكم المحكمة العليا الذي قد صدر بعد سقوط نظام مايو، وفي أبان الفترة الانتقالية حيث رفعت ابنة محمود محمد طه "أسماء" قضيتها يوم 25/فبراير/1986م ضد حكومة السودان ..

وكان قضاة المحكمة العليا الذين نظروا في القضية هم السيد محمد ميرغني مبروك رئيساً، والسيد هنري رياض سكلا عضواً، والسيد فاروق أحمد إبراهيم عضواً، والسيد حنفي إبراهيم محمد عضواً، والسيد زكي عبد الرحمن عضواً، والسيد محمد حمزة الصديق عضواً، والسيد محمد عبد الرحيم علي عضواً .. وهيئة الدفاع التي قدمت الدعوى مكونة من المحامين د. بيتر نيوت كوك، والأستاذ عبد الله الحسن، والأستاذ عابدين إسماعيل، والأستاذ طه إبراهيم، والأستاذ جريس أسعد، والأستاذ محمود حاج الشيخ ..

والشاهد أنّ القضية حُسِمت بطريقة درامتيكية وغير معهودة، فيما أن الدعوى مرفوعة ضد حكومة السودان فإن المحكمة الموقرة خاطبت النائب العام الذي كان هو عمر عبد العاطي المحامي إبان الفترة الإنتقالية .. وقدمت له مذكرة الادعاء، وكان رد السيد النائب العام مذهلاً، وكان في ثلاثة بنود لا غير وهي كما أوردها الأستاذ القراي في موقع سودانيز أون لاين على النت ..

ا- نعترف بأن المحكمة لم تكن عادلة، ولم تتقيد بإجراءات القانون.

2- إنّ المحاكمة إجهاض كامل للعدالة والقانون.

3- لا نرغب إطلاقاً في الدفاع عن تلك المحاكمة.

وبعد المداولات أبطلت المحكمة العليا الحكم الصادر عن محكمة الموضوع، والمؤيّد من محكمة الاستئناف وكان ذلك في عام 1986م. لعل الجمهوريين يعدون ذلك نوعاً من الإنصاف مع ما يتبع ذلك من ملاحظات لابد منها ..

إذ أنّ حكم الإعدام صدر في عام 1985م إبان حكم جعفر نميري، وبعد إعلانه تطبيق الشريعة، وبعد معارضة الجمهوريين لها، وما قالوه حولها، وبعد اعتقال زعيمهم وعدد كبير منهم  لأكثر من عام، وأطلق سراحهم بعد ذلك ليصدر المنشور الذي اعتقل بسببه الأربعة، ولم يكن معهم محمود محمد طه ولكن المحكمة رأت أن تضمه للبلاغ .. وذلك يدل على أن الغرض أو الدافع السياسي لم يكن متوفراً ..

بل إنّ الذين حاكموا محمود محمد طه لم يكونوا من أهل مايو الذين هم أهلها، بل هم من الإسلاميين الذين لهم رأي وقول ثابت وراسخ في كفر محمود محمد طه وردته، لم يكتسبوه من مايو ولا من قوانيين الشريعة التي سماها محمود محمد طه (قوانين سبتمبر) ..

ونلاحظ أيضاً أنّ المحكمة العليا اعتمدت في حكمها على النواحي الإجرائية .. ومما ذكره قرار المحكمة العليا أنّ محكمة الاستئناف اشتطت في ممارسة سلطاتها على نحو كان يستحيل معه الوصول إلى حكم عادل .. ومنها أنّ محكمة الاستئناف قررت أن تتصدى لفكر المتهمين، كما ذكرت أنّ ذلك واضح من المستند المعروض أمامها .. واستنكرت المحكمة العليا ذكر موضوع التوبة، وذكرت أنّ محكمة الاستئناف انكشف أمرها عندما وقعت عينها على ما ورد في حكم المحكمة الجنائية من إشارة التوبة ..

وتسير حيثيات المحكمة العليا على هذا المنوال مع ملاحظة أنّ محكمة الموضوع، ومحكمة الاستئناف كانتا تؤديان دورهما في ظل قوانين الشريعة التي أقرت بصورة صحيحة، ويجب أن تكون مقبولة لدى كل المحاكم شرعاً وعرفاً، فكان تصرفها أشبه بالقوانين السائدة ..

جاءت المحكمة العليا في الفترة الانتقالية، وهي فترة لا هي محسوبة في ظل القوانين الإسلامية أو في ظل القوانين العلمانية .. ولكن يبدو أنّ الظلال السياسية كانت تُلقي بظلالها هنا وهناك، وهو أمر لا مناص منه ولا مفر ..

والمدهش أنّ ممثل الحكومة لم يدافع عن موقف الحكومة، وهو موقف يعتبر سياسياً بحتاً، وكان الأحرى بالنائب العام ألاّ يُدخل السياسة في الموضوع، وأن ينظر إلى الأمر من زواياه القانونية والشرعية .. وهو أدرى الناس بأنّ الحكم صدر في ظل تطبيق قوانين الشريعة .. وهو ما أهملته المحكمة العليا تماماً ..