المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

حب المال

حب المال

الخطبة الأولى:

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسولنا أنه قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض, قيل: وما بركات الأرض. قال: زهرة الدنيا, فقال رجل: أيأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم مسح النبي جبينه وقال: أين السائل؟ فقال الرجل: ها أنا يا رسول الله, فقال عليه الصلاة والسلام: لا يأتي الخير بالشر, لا يأتي الخير بالشر, وإن هذا المال خضرةٌ حلوة وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه إلا آكلة الخضر حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت فثلطت ثم بالت ثم أكلت, وإن هذا المال خضرة حلوه فمن أخذه بحقه وضعه في حقه فنعم المعونة هو, ومن أخذه من غير حقه فهو كالذي يأكل ولا يشبع)).

هذا مثل يضربه الرسول لزهرة الحياة الدنيا, يضربه للمال الذي نتهافت عليه ونقتتل عليه ونقطع الأرحام من أجله, ونتدابر من أجله, ونتقاطع من أجله, هذا المال الذي هو خير لكنه ليس خيرًا مطلقًا؛ إذ يقول الله عز وجل عن الإنسان الكفور الجحود: وإنه لحب الخير لشديد , ويقول الله سبحانه وتعالى عن نبي الله سليمان: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب , فالمال خير لكنه قد يقتل, لكنه قد يؤخر عن الدار الآخرة, ولكنه قد يقهقرك عن جنة عدن, والرسول يقول لأصحابه: ((ما الفقر أخشى عليكم)) الرسول لا يخاف علينا من الفقر والمسكنة وتواضع البيوت وقلة الأموال وعدم الرفاهية, قال: ((ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح الدنيا عليكم كما فتحت على من كان قبلكم, فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) وفي رواية قال : ((كيف أنتم؟ إذا فتحت خزائن الروم والفرس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله, نقول بالحق والذي أُنزل, فقال رسول الله : أو غير ذلك, تنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)).

خطورة التهافت على المال والبخل والشح:

فيحذر النبي في هذا الحديث العظيم من خطورة التهافت على المال ومن خطورة البخل والشح فيه فيقول : ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)) بركات تخرج من باطن الأرض فيستفسر الرجل ويستفهم "يا رسول الله, وما بركات الأرض" فقال : ((زهرة الحياة الدنيا)), ولا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى .

فقال : زهرة الدنيا, أي بركة الأرض هي زهرة الدنيا, قال الرجل: يا رسول الله, أيأتي الخير بالشر؟ أتأتي البركة بالشر, فصمت وكانت هذه عادته إذا سئل سؤالاً لأنه ينتظر الوحي من الله فهو لا ينطق عن الهوى, وهو لا يستحضر الأجوبة العقلية وإنما يستحضر الأجوبة السماوية التي تنزل عليه فيصمت ويصيبه الرحضاء ثم يمسح عن جبينه ويقول : أين السائل؟ فيقول الرجل: ها أنا يا رسول الله فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير, لا يأتي الخير إلا بالخير, لا يأتي الخير إلا بالخير, وإن هذا المال خضرة حلوة, هذا المال كالعسل في المذاق, إذا تذوقت منه شيئًا قليلاً زادت شهيتك لكي تأكل المزيد والمزيد, فهذا المال خضرة حلوة, فإذا حصلت على شيء قليل تحب أن تحصل على المزيد.
 

شرح قوله  ((وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه)):

 ثم يضرب النبي مثلاً للشراهة والتكالب على هذا المال وأخذه من كل مكان من غير مراعاة حرمات الله يقول : ((وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه)).. الحيوانات التي ترعى في المراعي إذا كانت في الربيع وأنبتت الأرض بالخضرة والأعشاب بالحشائش, فإن بعض الحيوانات ـ بل أكثرها ـ تنكب على هذه الحشائش وعلى هذه الأعشاب فتأكل من غير مقدار وتلتهم من غير إلتفات فتأكل وتأكل وتأكل فتنتفخ خواصرها فيقول : ((يقتل حبطًا)) يمتلأ بطونها بالأعشاب التي أكلت, فمن شدة الأكل ومن كثرته تموت هذه الدواب, وإذا لم تمت هذه الدواب فإنه يلُمُ بها مرضُ يقربها من الموت, وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه أي يلم بمرض فتاك, وهكذا المال إذا أقبل عليه الإنسان فإنه يأكل ويأكل وفي نهاية الأمر ربما مات بماله, أما سمعتم عن أُناس مترفين ماتوا بين أفخاذ الغواني, أما سمعتم عن أُناس ماتوا في بلاد الكفرة وهم يشربون الخمور وهم يلعبون بأموالهم ويضعونها في أيدي الصبايا ويبخلون بها على المسلمين الذين يحترقون, أما سمعتم عن أُناس ماتوا بأموالهم وكانت شؤمًا عليهم وعارًا.

تفنى اللذائذ من مغبتها من الحرام ويبقى الذلُ والعـارُ

تبقى عواقب من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النارُ
 

انظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا:

ولذلك النبي يأمُرنا بأن ننظر إلى من هو دوننا لا أن ننظر إلى من هو فوقنا وذلك في أمر الدنيا, يأمرنا بذلك حتى لا نزدري نعمة الله علينا فنتكالب على الدنيا ونتنافس لأن من نظر إلى أصحاب الملايين وهو من أصحاب الألوف المؤلفة رأى نفسه فقيرًا وازدرى نعمة الله عليه, وإذا نظر إلى من هو دونه ممن لا يجد إلا قوت يومه فإنه يشكر نعمة الله عليه ويظن بأنه من أنعم عباد الله فيكون من الشاكرين الذاكرين, ثم النبي يضرب لنا مثلاً لمن يأخذ المال على قدر حاجته لذلك الذي يتحرى الحلال في أمواله ((وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه إلا آكلة الخضر)) إلا دويبة الأرض, هذه الدويبة تأكل على قدر حاجتها تأكل حتى إذا امتلئت خاصرتاها استقبلت الشمس لتهضم الطعام, لتهضم ذلك العشب الذي في بطنها, استقبلت الشمس فاجترت ـ تخرج شيئًا من بطنها تجتر فتهضم وتكثر في الهضم حتى يكون مفيدًا ـ اجترت وثلطت وبالت ثم إذا جاءت بعد أن أخرجت فضلات هذا الطعام أكلت بعد ذلك فتأخذ الطعام على قدر حاجتها, وهذه دويبة ذكية, دويبة خلقها الله عز وجل وجعل لها مقدارًا في الأكل فلذلك هي تحيا, وهي تسمن أكثر مما تحيا وتسمن تلك الدواب الأخرى.

 أخذ المال من حله ووضعه في حقه:

 فكذلك الذي يأخذ المال على قدر حاجته فإنه ينال حياة طيبة في الحياة الدنيا, وينال أجرًا  عظيمًا مما ينفق في الأخرى لهذا قال بعد هذا: ((وإن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو)) من أخذ المال بحقه فلا يرتشي ولا يُرابي ولا يقتطع أموال الناس ظلمًا وعدوانًا, ولا يأكل أمواله بين العباد بالباطل, فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه أخرج حق الله منه وأخرج حق عياله منه, أخرج حق الله وحق المسلمين, أخذه بحقه ووضعه في حقه لم يضعه في أيدي الصبايا الغواني؛ لم يضعه في الكرة واللهو واللعب, وإنما وضعه فيما يُرضى الله سبحانه وتعالى, فنعم المعونة هو, نعم المعونة في الدنيا, ونعم المعونة يوم القيامة, يجد المال الذي أنفقه كالجبل ينتظره, ربَّاه الله عز وجل لما وضع في كف الرحمن, ربّاه الله عز وجل فيحتاج إلى تلك الحسنات ويتعلق قلبه بتلك الطيبات التي أنفقها, فنعم المعونة له في الدنيا والآخرة.

طمع الإنسان لا حدود له:

من أخذ من هنا وهناك ولم يراقب حرمة الله عز وجل, فما إن يسمع عن أسهم تنزلها البنوك الربوية إلا ويكون من المسارعين إلا ويكون ممن يقذفون بأنفسهم في الجحيم يسارعون بوضع أموالهم في تلك البنوك, ما إن يرى رجلاً يأتي إليه لأخذ حقه في معاملة إلا ويشير إليه إما إيماءً أو تصريحًا بالرشوة فيأخذ من هذا وذلك, ويجمع الملايين ويأكل ويأكل, فيقتله الله بما له, فترى الأمراض قد توالت عليه فلا يخرج من مرض إلا ويرى نفسه في مرض, وما يعالج نفسه بألف من مرض إلا ويعالج نفسه بالملايين من مرض آخر, فيهلكه الله عز وجل بماله يقول : ((ومن لم يأخذه بحقه فإنه كالذي يأكل ولا يشبع)), يقول ـ والحديث عند مسلم وغيره ـ لما جاءه حكيم بن حزام أعطاه النبي ثم سأل فأعطاه ثم سأله فأعطاه فقال: ((يا حكيم إن هذا المال حلوة خضرة, فمن أخذه بحقه بورك فيه, ومن لم يأخذه بحقه أو باستشراف نفس ـ أي بإقبال وبسيلان لعاب ـ فإنه لا يبارك له فيه)) فما سأل حكيم بن حزام بعدها أحدًا أبدًا, بل كان الخليفة يرسل إليه بعطيته فيرفضها, والرسول يخبرنا عن شرّة بن آدم للمال, يؤيد هذا قوله تعالى: وإنه لحب الخير لشديد , يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» لو كان لابن آدم واديان من ذهب ممتلئان بصنوف الجواهر والحلي لابتغي لهما ثالثًا.. لو كان له مليوني ريال ابتغى ثلاثًا, ولو كان له ثلاثًا لابتغى أربعًا, لو كانت له عمارة لابتغى عمارتين, ولو كان له ثلاثًا ابتغى أربعًا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب.

 التوبة إلى الله :

يحتاج ابن آدم إلى أن يتوب إلى الله عز وجل من الانهماك في الدنيا ومن الشرّة في الأموال والتوبة بالفعل كما هي بالقول, فيخرج حق الله عز وجل ويتوب بأن يرجع المظالم إلى أهلها, والله لو تفكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع, ولو تذكر جائع في فضول مآلها لشبع, لو تفكر العاقل في عاقبة الدنيا وفي سكرات الموت لكان من القانعين, ولو تذكر الجائع ما يؤول إليه الطعام اللذيذ, الطعام الذي يوضع بأبهى الأشكال والألوان ما يؤول إليه من الرائحة والنتن والله لشبع.

هب أنك قد ملكت الأرض طرا               ودان لك العبادُ فكان ماذا

أليس إذن مصيرك جوف قـبر                  ويحثي التُرب هذا ثم هذا

لهذا يقول الله سبحانه وتعالى: "إنما مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرًا" وقال تعالى "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون".

قال ميمون بن مهران وكان عنده جلساؤه: "ما رأيكم بالنبات إذا ابيض؟ فقالوا: هو الحصاد.فالتفت إلى الشباب وقال: وربما أدركت الخضرة آفة فتهلكها قبل الفساد", إذا شاب الشيخ فإن هذا هو أوان فواته من الدنيا كالحامل التي بلغت تسعة أشهر فإنها تظن الولادة بين فترة وأخرى, وكذلك الشاب ربما أصابه جائحة, ربما أصابه الله بمرض فتاك فيهلكه الله قبل أن يبلغ ما يبلغ, فتوبوا عباد الله, وإياكم والانهماك في الدنيا, اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا, إنك أنت الله المسؤول إنك على كل شيء قدير