المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

مواصلاتنا: هل بقي من الكرامة شيء؟!

مواصلاتنا: هل بقي من الكرامة شيء؟!

إذا كنت من القلة القليلة التي تملك سيارة فاحمد الله الذي عفاك مما ابتلى به غيرك، أما إن كنت من الذين اعتادوا ركوب المواصلات فاسأل الله أن يجيرك في مصيبتك، ويبدلك خيراً منها؛ لأنك لا تملك قرارك ولا وقتك ولا كرامتك!

من أراد أن ينظر إلى البؤس والذل والاكتئاب في وجه أحد؛ فلينظر إلى وجوه من يقفون في محطة المواصلات، من الذين تكالبت عليهم مصائبها فلم تدع وادياً ينتهك كرامة الإنسان إلاّ سلكته!

المواصلات والانتظار:

ما دمت تستخدم المواصلات فأنت لا تملك وقتك؛ لأن تضييع الأوقات سمة بارزة في مواصلاتنا، فإن خرجت من بيتك فلا تعجب إن وقفت بالمحطة ما يقارب الساعة في انتظار المواصلات التي تشح أحياناً، أو تأتي ممتلئة، أو تنعدم، وقد يمتد انتظارك حتى يفوتك الموعد الذي تريد اللحاق به.

وقد تجد مقعداً لكن الحافلة تكثر الوقوف لتُركِب من يركَب، وتُصعِد إليها من يصعَد، ليضيع من وقتك الكثير؛ حتى صار من المعتاد أن يقول أحدنا: (تأخرتُ بسبب المواصلات)!

وقد تأتي الحافلة العامة، وتقف إلى جانبك، لكن صاحبها يتعذر بأنه لا يعمل؛ دون ذكر سبب، وقد يتعلل بأنه يريد أن يفطر أو يشرب الشاي، أو يصلح ما تعطل من عربته!

وفي البلاد الراقية تأتي كل حافلة إلى المحطة في وقت محدد دقيق يختلف من حافلة لأخرى، وتصل كل حافلة إلى محطتها الأخيرة في وقتها المحدد لها، ومن حق كل مواطن أن يرفع قضية في الحافلة التي تأخرت عن موعدها، ولو دقيقة واحدة؛ فكل شيء يسير بنظام بديع متقن.

المواصلات والسمع:

وإذا قدِّر لك أن تجد مقعداً في المواصلات، أو مكاناً تقف فيه (شماعة) فثق أنك لا تملك سمعك؛ لأن هذا الأمر متروك لسائق الحافلة، فهو الوحيد الذي يحق له أن يسمعك ما يشاء، بأي درجة من الصوت تعجبه، وحنى إن اعترضت فقد لا يأبه لك، مع أن كل بلاد العالم المتحضر يسود الهدوء في مواصلاتها العامة.

إذ يُمنع تشغيل أي صوت فيها احتراماً لخصوصية كل إنسان، فمن الناس من يريد أن يقرأ، ومنهم من يريد أن يتأمل، أو يشاهد ما حوله من مناظر، أو يفكر في أموره الخاصة، ومنهم المريض، ومنهم من لا يحب الاستماع للغناء، ومنهم من يستمع ولكن لا يعجبه الفنان الذي يصر سائق الحافلة على فرضه!

المواصلات والمال:

وإذا كنتَ ممن يتنقل عبر المواصلات فأنت لا تأمن على مالك ولا أغراضك، إذ أنك قد تفقد مالك أو جوالك أو مقتنياتك في أي لحظة، إما بالنشل ممن يستغلون الزحام من النشالين – وما أكثرهم – أو بسقوط بعض ما تملك داخل الحافلة دون إمكان العثور عليه مرة أخرى!

وقد تخسر مالك بكثرة الركوب والنزول من المواصلات المكلفة، ومن عجبٍ أنك إذا أردت أن تصل إلى منطقة قريبة قد تستغل عدة حافلات من أجل الوصول إليها، وكأن فكرة الخطوط الدائرية اختراع لم يصل إلينا حتى الآن!

المواصلات والاستغلال:

وإذا كنت من المواصلين بالمواصلات العامة فأنت معرض للاستغلال في كل لحظة؛ لأن سعر التذكرة في الحافلة ليس ثابتاً، وإنما يتغير من وقت لآخر، فقد تتركه بسعر في الصباح، وتعود لتجده قد زاد في المساء بحجة أن الوقت تأخر، أو في لحظات الذروة حين تقل الحافلات ويستغل السائقون زحام الناس وتصببهم عرقاً تحت لفحات الشمس المحرقة، وتعبهم من طول الانتظار، وبالتالي استعدادهم لدفع ما يُملَى عليهم!

كما يزيد السعر عند قلة الركاب حين يتعذر السائق بأنه سوف يرجع في رحلة العودة فارغاً من الركاب، أو بعدد قليل منهم!

ولا تسلم بعد ذلك كله من حرب نفسية حين يرفض السائق العمل – خاصة في أوقات الزحام – أو يضغط على دواسة الوقود ويجعلك تركض خلف الحافلة في مشهد مهين للكرامة! مما يدفع بالتساؤل: أين دور الجهات المسؤولة؟! وأين دور ما يسمى بالنقابات في ضبط هذه الفوضى؟!

وإذا حصلتَ على مقعد فاحمدِ الله، ولا تسَلْ بعد ذلك إن كان محطماً أو مهترئاً أو متسخاً بالأتربة أو الزيوت!

المواصلات والإيثار:

وفي المواصلات يعز الإيثار، فالقوي يركب قبل الضعيف، والصغير قبل الكبير، والرجال لا يتيحون فرصة للنساء، ومن استطاع أن يضع حقيبته أو بعض مقتنياته عبر نافذة الحافلة، أو حتى القفز عبرها إلى الداخل بحركة بهلوانية (قردية) فقد حجز مقعداً!

أما في بلاد العالم المتقدم، فالجميع ينتظمون في طابور بحسب أسبقيتهم للوصول إلى الحافلة!

المواصلات والفتن:

وإذا كنت من مرتادي المواصلات، فعليك بالتحكم في مشاعرك ما استطعت، وأن تغض بصرك فإنك لا تملك نفسك من الفتنة، فلا يكاد يسلم بصرك من الوقوع على مشاهد التبرج الفاضح والاحتكاك بين الرجال والنساء دون ضابط.

وإن أطلقت لبصرك العنان، أو انجرفت مع الإغراءات لعدت إلى بيتك محملاً برصيد وافر من الذنوب والسيئات!

ختاماً:

مواصلاتنا بحاجة حقيقية لإعادة تأهيل، وضبط، وتنظيم، وتقنين؛ حتى تكون محفزة للعمل والإنتاج، لا مثبطة للهمم ومزهدة في العطاء، وهذا هو دور الجهات المسؤولة – سواء كانت حكومية أو نقابية – أمام الله تعالى قبل مسؤوليتها أمام الناس عن هذه المواصلات التي لا تحفظ لأحد كرامته، ولا تحترم وقته، ولا تقدر خصوصيته.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم برقم 142).