تصعد أنفاس السودانيين وتهبط، مع صعود التوتر في العلاقة بين دولتي السودان وجنوب السودان، وهبوطه!!.. فبعد أكثر من خمسين عاماً من الحرب التي انتهت بتقسيم السودان إلى دولتين، وصل الأمر بالطرفين إلى حالة من (اللا سلم، واللا حرب)!!.. تأخذ مؤشرات التوتر فيها أعلى درجاتها، على الأرض تارة، بالمناوشات المسلحة على الحدود.. وبالتشنج على موائد المفاوضات […]
تصعد أنفاس السودانيين وتهبط، مع صعود التوتر في العلاقة بين دولتي السودان وجنوب السودان، وهبوطه!!.. فبعد أكثر من خمسين عاماً من الحرب التي انتهت بتقسيم السودان إلى دولتين، وصل الأمر بالطرفين إلى حالة من (اللا سلم، واللا حرب)!!.. تأخذ مؤشرات التوتر فيها أعلى درجاتها، على الأرض تارة، بالمناوشات المسلحة على الحدود.. وبالتشنج على موائد المفاوضات تارات أخرى!!..
الخميس الماضي، توصل المسؤولون في الدولتين إلى اتفاق في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بعد ثلاثة أسابيع من جولات التفاوض، شملت لقاءات قمة بين الرئيسين البشير وسلفاكير، وقعا بعدها على بروتوكول أطلقا عليه (التعاون الشامل)، يفترض فيه أنه خطوة لإنهاء الخلافات التي لم تنقطع بين البلدين.
وقد تضمن البروتوكول، ثلاث حزم من الاتفاقيات، شملت (الترتيبات الأمنية)، وما سُمي (بترتيبات ما بعد الانفصال)، بالإضافة إلى (اتفاقيات للتعاون بين الدولتين)، وتندرج تحت هذه الحزم تسع اتفاقيات تناولت الأمن، والنفط، والحدود والديون، والقضايا الاقتصادية، والتجارية، وأوضاع المواطنين.
ولكن القضيتين الأخطر، والأكثر إثارة للجدل في ملف الخلاف بين دولتي السودان، (قضية أبيي)، و(ترسيم الحدود)، لم ينجح الطرفان في حل معضلتهما، واتفقا على إرجاء التفاوض بشأنهما..
وبرغم الاحتفاء الذي قوبل به الاتفاق الأخير، على مستوى الداخل والخارج، إلّا أنه من الواضح، أن اعتباره، خطوة في طريق الحل الشامل لخلافات البلدين، هو أمر مشكوك فيه بدرجة كبيرة!!.. فبغض النظر عن عدم حسم الملفين الأساسين للنزاع، فإنه حتى القضايا التي تم التوقيع بشأنها، في الواقع تحتوي ثغرات جوهرية، توحي بأن الطرفين حرصا على التوقيع أكثر من حرصهما على التوصل لحلول حقيقية!!.. ربما بسبب تهديدهما من قبل مجلس الأمن بفرض عقوبات دولية، في حال لم يتوصلا إلى اتفاق ينهي التوتر بينهما!!.
فبشهادة المراقبين، المنتمين للحزب الحاكم في السودان، أمثال الصحفي مكي المغربي، لم يتضمن الاتفاق الأمني نصاً واضحاً، يتعلق بإلزام الجيش الشعبي بـ (بفك الارتباط مع الفرقتين التاسعة والعاشرة) – وهي المصطلح الذي تطلقه الخرطوم على قوات الحركة الشعبية قطاع الشمال، التي تخوض تمرداً مسلحاً عليها في جنوب كردفان، والنيل الأزرق!!..وقد كانت هذه القضية هي التي تقف وراء، أغلب التوترات بين الدولتين، وهي المسؤولة عن جرجرة ملف النفط إلى ساحة الصراع، حتى انتهى الأمر إلى الصدام المسلح في هجليج، وغيرها من مناطق التماس!!.
وفيما يتعلق بالتعاون المشترك، يظل ملف النفط هو الملف الأبرز، لكونه الأسرع تأثيراً على اقتصاد البلدين، وبالتالي على حياة المواطن في الشمال والجنوب .. بل على الصعيد الدولي والإقليمي..
الخلاف النفطي بين البلدين، تم التوصل فيه إلى تفاهمات سابقة، حول رسوم عبور النفط الجنوبي إلى موانئ التصدير في السودان، عبر خطوط الأنابيب، أكدتها الاتفاقية الأخيرة.. ولكن تظل هناك نقاط خلافية أخرى مثل قياس حجم الصادرات، لكل من البلدين .. ففي السابق اتهمت جوبا الخرطوم بنهب أنصبتها من النفط.. ومع ذلك نص الاتفاق نصاً عاماً حول اعتزام الطرفين (مراجعة وضمان …أنظمة قياس فعالة) تفادياً لأية خلافات مستقبلية.. ولم يحدد أيّة خطوات أو آليات ملموسة.. وترك الأمر للطرفين، يطلبان من الشركات النفطية العاملة تركيب أنظمة قياس مناسبة!!.. المشكلة أن الشركات كانت وما زالت تعتمد أنظمة قياس لحساب حجم الصادر، ولكن ذلك لم يمنع وقوع الخلاف وتبادل الاتهامات!!..
يحسب للطرفين أنهما توصلا إلى صيغة معقولة فيما يتعلق بالديون، حيث اتفق الطرفان على إعفاء كل دولة لديونها على الأخرى، سواء في قطاع النفط أو القطاعات الأخرى، كما اتفقا على العمل المشترك لإعفاء ديون السودان الخارجية في غضون عامين، وفي حال تعثر ذلك اقتسام تلك الديون مناصفة.
أما الملفان المرجآن، (أبيي) و(ترسيم الحدود).. فهما الأكثر تعقيداً، والأكثر قدرة على إعادة إنتاج الأزمة من جديد.. وفي ملف الحدود بقيت خمس مناطق مختلف فيها بانتظار الحسم المستقبلي، فيما بقي ملف أبيي بأكمله..
والإشكالية الكبرى، أن كُلّاً من وفدي التفاوض، وخاصة الوفد السوداني، ركز على ضم أصحاب صناع القرار في الدولة، ولكنه أهمل المتضررين على الأرض، من أبناء القبائل المتنازع على أرضها.. وإذا احتفظت الخرطوم بنفس التشكيلة التفاوضية، فإن أي تسوية مستقبلية يمكن أن تصطدم بأصحاب الأرض، وتزيد من تعقيد الأزمة، كما حدث في الحلول والاتفاقيات السابقة، مثل خارطة الطريق التي انتهت بحكم من محكمة العدل الدولية في لاهاي، ورغم ذلك لم يزدد فتيل الأزمة إلّا اشتعالاً.
وأخيراً حرص الطرفان على طمأنة المواطنين بالاتفاق على لجان وآليات لتنفيذ البنود المتفق عليها.. وهنا يكمن الشيطان!!..فكثير من الإشكاليات التي تم ترحيلها إلينا من اتفاق نيفاشا، كان السبب فيها هو أن آليات التنفيذ واللجان المشتركة كانت تفشل دائماً في إنجازها مهامها، لوجود الخلافات.. على سبيل المثال، ما حدث في قضية (التسريح وإعادة انتشار القوات) التي كانت ضمن بروتوكول الترتيبات الأمنية، حيث فشلت اللجنة في إلزام قوات الجيش الشعبي بالانسحاب من مناطق في الشمال، وكانت هذه هي خميرة ما عرف بالفرقتين التاسعة والعاشرة المتمردتين في السودان الشمالي.
كذلك الأمر فيما يتعلق بترسيم الحدود، التي كان مقرراً حسمها قبل إجراء الاستفتاء على تقرير المصير، ظلت اللجان تجتمع وتنفضُّ، دون أن تنجز شيئاً على الأرض، وأُجري الاستفتاء، ورضخت الخرطوم للقبول بما سُمّي آنذاك بـ (الحدود الهشة)، وانفصل الجنوب، وبقيت الحدود الهشة مصدراً للخلاف من جديد، وليتم ترحيلها عبر سلسلة من جولات التفاوض وصولاً إلى الجولة الأخيرة التي أرجأتها بدورها إلى أجل غير مسمى!!.