الإمام ابن القيم الجوزية
فصل المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام: قال تعالى 8،7:91 {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لحصير بن منذر الخزاعي لما أسلم "قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي".
وقد جعل صاحب المنازل (الإلهام) هو مقام المحدثين قال وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.
قلت: التحديث أخص من الإلهام فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان فأما التحديث: فالنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر" يعني من المحدثين فالتحديث إلهام خاص وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين كقوله تعالى 28:7 {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقوله 5:111 {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} وإما من غير المكلفين كقوله تعالى 16:29 {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة: فقد احتج عليه بأن الفراسة ربما وقعت نادرة كما تقدم والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا: أن كل واحد من (الفراسة) و(الإلهام) ينقسم إلى عام وخاص وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر وعام كل واحد قد يقع كثيرا وخاصه قد يقع نادرا ولكن الفرق الصحيح أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل وأما الإلهام فموهبة مجردة لا تنال بكسب ألبتة.
درجات الإلهام:
قال: وهو على ثلاث درجات.
الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن فليس كل خبر نبأ وهو نبأ خبر عن غيب معظم.
ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة.
قلت: أما حصوله بواسطة سمع فليس ذلك إلهاما بل هو من قبيل الخطاب وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء وهو الذي خص به موسى إذ كان المخاطب هو الحق عز وجل.
وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع: فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها أعلاها أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يقع لغير الأنبياء فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي وهو نوعان.
أحدهما: خطاب يسمعه بأذنه وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين.
والثاني: خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه كما في الحديث المشهور "إن للملك لمّة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد" ثم قرأ 2:268 {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} وقال تعالى 8:12 {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قيل في تفسيرها: قوّوا قلوبهم وبشروهم بالنصر وقيل: احضروا معهم القتال والقولان حق فإنهم حضروا معهم القتال وثبتوا قلوبهم.
ومن هذا الخطاب: واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين كما في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى ضرب مثلا: صراطا مستقيما وعلى كنفتي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن" فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة.
وأما وقوعه بغير واسطة فمما لم يتبين بعد والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل والله أعلم.
النوع الثاني من الخطاب المسموع: خطاب الهواتف من الجان وقد يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا وقد يكون شيطانا وهذا أيضا نوعان.
أحدهما: أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه.
والثاني: أن يلقى في قلبه عند ما يلمّ به ومنه وعده وتمنيته حين يعد الإنسى ويمنّيه ويأمره وينهاه كما قال تعالى 4:120 {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} وقال {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وللقلب من هذا الخطاب نصيب وللأذن أيضا منه نصيب والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة.
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني أو ملكي؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟ والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقى في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع "قيل لي وخوطبت" صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه "إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك" فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟.
النوع الثالث: خطاب حالي تكون بدايته من النفس وعوده إليها فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدا وإليها يعود. وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه وسبب غلطه: أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة: صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن ومصير الحكم لهما فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما وتشتد عناية الروح بها وتصير في محل تلك العلائق والشواغل فتملأ القلب فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة ويتفق تجرد الروح فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية فيرى صورها ويسمع الخطاب وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء ويحلف أنه رأى وسمع وصدق لكن رأى وسمع في الخارج أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز وقلة العلم واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن الشواغل.
فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب ومن سمع نفسه غيرها فإنما هو غرور وخدع وتلبيس وهذا الموضع مقطع القول وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه والله الموفق للصواب.
قال "الدرجة الثانية: إلهام يقع عيانا وعلامة صحته أنه لا يخرق سترا ولا يجاوز حدا ولا يخطىء أبدا".
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب وهذا معاينة ومكاشفة فهو فوقه في الدرجة وأتم منه ظهورا ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين وذكر له ثلاث علامات.
إحداها "أنه لا يخرق سترا" أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه خيرا كان أو شرا أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس بل يستر نفسه ويستر من كوشف بحاله.
الثانية "أنه لا يجاوز حدا" يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني.
الثاني: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية مثل أن يتجسس به على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف فهو شيطاني لا رحماني.
الثالثة: أنه لا يخطىء أبدا بخلاف الشيطاني فإن خطأه كثير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صائد "ما ترى؟ قال: أرى صادقا وكاذبا فقال: لبّس عليك" فالكشف الشيطاني لا بد أن يكذب ولا يستمر صدقه ألبتة.
قال "الدرجة الثالثة: إلهام يجلو عين التحقيق صرفا وينطق عن عين الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها".
عين التحقيق عنده: هي الفناء في شهود الحقيقة بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود وتعود الرسوم أعداما محضة فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة والناطق عن هذا الكشف عندهم: لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له وعند أرباب هذا الكشف: أن كل الخلق عنه في حجاب وعندهم: أن العلم والعقل والحال حجب عليه وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول وهذا أمر وراء الحس والعقل.
وحاصل هذا الإلهام: أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الاتحادية القائلون بوحدة الوجود: فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود ويجعلون صاحب المنازل منهم وهو برىء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة والله أعلم.