المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

حول قول الله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)
 

(1) من يُهدى للهداية؟
المنعم عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)، هم أجد الخلق بوصف وملازمة الهداية (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) .. أهل الهداية المنعم عليهم يرددون في تملقهم دعاءً لربهم بهذا الدعاء المأثور الذي ورد ذكره في القرآن: (ربنا لا تزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب). وما ذاك إلا لعلمهم بشدة فاقتهم وحاجتهم إلى هداية قلوبِهم بل وتثبيتها على الإيمان، فمن المقرر أنه (من يهد الله فهو المهتد) فالموفق من يهديه الله تعالى للهداية.

(2) إياك أن تزغ به فيزغ بك ..
أصل الزيغ: الميل, ومنه زاغت الشمس: إذ مالت، وإزاغة البصر إمالته وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال، والزيغ يوصف به القلب والبصر، قال الله تعالى في إزاعت البصر: (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر)، وفي  إزاعت القلوب (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)، والآية بستعيذ العبد بالله تعالى من زيغ القلوب (ربنا لا تزغ قلوبنا). ويعتصر القلب من خطورة (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) فالمُبادأة من أنغسنا بالزيغ (فلما زاغوا) والجزاء من جنس العمل (أزاغ الله قلوبهم)، ونظير ذلك في القرآن كثير، (نسوا الله فنسيهم)، وقوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وفي هذه القضية فعلاً وانفعالاً وإقداماً متبادلاً، أحد طرفيه بيد الإنسان نفسه، وطرفه الآخر وهو المؤثر في نتائجه وعواقبه فهو بيد الله سبحانه: (فلما زاغوا ) أي: أنهم خطوا خطوة منحرفة أوقعتهم في منحدر الزيغ، حينها وحينها فقط (أزاغ الله قلوبهم ) أي أضلهم الله وأزاحهم عن جادة الصواب؛ وما أدراك ما تعنيه هذه الإزاحة والإضلال الإلهي؟ … إنها تعني سلب التوفيق الإلهي. فما أحوجنا لمدد ومعونة وتوفيق وتأيد من بيده الهداية: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا).

 

(3) آخر مرتبة الهداية ..
لتحصيلِ هذه النعمة وإدراك عظمتها؛ شرع الله لنا أن نسأله الهداية في كل صلاة .. لا بل في كلّ ركعة .. على مدار اليوم كله حتى في وقت الضحى حتى يشغل الوقت كله بسؤال الله تعالى الهداية والثبات عليها .. فما وقف العبد بين يدي خالقه إلاّ لهج لسانه مع إستحضار قلبه : (اهدنا الصراطَ المستقيم). فمن إستحضر الهداية في الصلاة تحصل له هداية أُخرى يفصح عنها العلامة ابن القيم الجوزية – رحمه الله – فيقول: "وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي الهداية – يوم القيامة إلى طريق الجنة – وهو الصرط الموصل إليها فمن هُدِيَ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هُدِيَ هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الركاب ومنهم من يسعى سعياً ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يحبوا حبوا ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكردس في النار"

 

(4) رحمة الله والهداية ..
"قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة .. ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد .. ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال, كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة .. وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ ! وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة .. وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال ! ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) .. وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال , ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء: (وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) .. وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته .. وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله .. فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة .. فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيراً ما يدعو: (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) قلت: يا رسول الله, ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه, وإن شاء أن يزيغه أزاغه)) .. ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة .. وأن يتشبث بحماه في إصرار, وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله, لاستبقاء الكنز الذي وهبه, والعطاء الذي أولاه !.." نبض حي في إستشعار هذا الدعاء، تخرج عباراته ممن عاش في ظلال القرآن فكان حقاً أنها من صاحب الظلال.

 

(5) امتناع أبي طالب للهداية ..
يقول د محمد عمر دولة: "ورحم الله ابن حبان فقد أشار في التفرقة بين هداية البيان وهداية التوفيق، حين ترجم لقصة امتناع أبي طالب عن إجابة النبي (صلى الله عليه وسلم) بـ (ذكر ما يجب على المرء من الاقتصارِ على حمد الله جلّ وعَلا بما منَّ عليه من الهداية، وترك التكلف في سؤال تلك الحالة لمن خُذل وحُرِم التوفيق والرشاد)، وروى عن سعيد بن المسيب قال: (لما حضر أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (( يا عم قل (لا إله إلا الله)؛ أشهد لك بها عند الله، قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ قال: فلم يزل النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرضها عليه ويُعيد له تلك المقالة؛ حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول (لا إله إلا الله)؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك! فأنزل الله (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)، وأنزلت في أبي طالب: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) ".