الشيخ د.محمد بن عبد الكريم
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية ،المتعزز بعظمة الربوبية، يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير المستقيمين على الهدى بعد النبيين أما بعد :
فمن الكلمات الجامعة التي تتمحور حولها حزمة من المفاهيم ِ الأصوليةِ المهمة مصطلح "الإستقامة" .حيث دلت الكلمة على جامع أوصاف الإسلامِ ولذلك وردت في القرآن تصريحاً كقوله تعالى: ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا [وقوله تعالى:] إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ وقوله تعالى: ]ولذلك فادع واستقم كما أمرت[ وقوله : ]وأن لو استقاموا [، ولا أدل للمتأمل على أهمية هذه الكلمة ، وعظيم أثرها في التوجيه نحو الإسلام خاصة في الرعيل الأول من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أحال الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه حين سأله عن الإسلام لا يحتاج جوابه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيادة بيان أو إضافة مقالٍ لإزالة إيهام أنّ النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بإحالته إلى الإستقامة بعد أمره إياه بالإيمان فقال صلى الله عليه وسلم:((قل أمنت بالله ثم استقم )) .
فالآيات الكريمات مع ضميمة هذا الحديث دلت على أهمية هذا المفهوم القرآني ، وأنه الأساس الإيماني لجميع شعب الإسلام الأخرى .
إنّ الإستقامة في لغة العرب مصدر (استقام ) على زنة استَفْعَل وهو فعل ماض مزيد ؛ مشتق من الفعل الثلاثي(قام)،وفعل قام جاء في لغة العرب على معانٍ شتى أهمها :
تلك المعاني التي دل عليها فعل(قام)من الاعتدال والقصد,والمواظبة والثبات والمحافظة والملازمة : هي التي دلت عليها أيضا كلمة الاستقامة.ولذا عرف أرباب اللغة الاستقامة بأنها : الإعتدال , يقال استقام له الأمر . وقال تعالى:] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [أي في التوبة إليه دون الآلهة , وقام الشيء واستقام : اعتدل واستوى، والسدد بفتحتين : الاستقامة والاستقامة في كل شئ بحسبه ، والخط لمستقيم هو أقرب موصل بين نقطتين , ومنه الصراط المستقيم وهو القصد والدوام والإحسان ,والاستقامة كما قيل:الوسط والاعتدال والفضيلة بين الطرفين،فإذا عدي بـ ( إلى ) فمعناه التوجه قال تعالى:] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [ أي في التوجه إليه دون الآلهة,فإذا عدي بالباء كان معناه المدح كقول القائل استقام فلان بفلان : أي مدحه وأثنى عليه , وتعديته باللام يفيد الدوام لأن الشيء إذا انقاد واستمرت طريقته فقد استقام لوجهة كما في الحديث :(( إستقيموا لقريش ما استقاموا لكم أي دوموا لهم في الطاعة واثبتوا عليها ))، واطرد الأمر أي استقام .
معنى اسم الله تعالى ]القيوم[ :
قال الخطابي رحمه الله: القيوم القائم الدائم بلا زوال يقال هو القيم على كل شئ بالرعاية له ويقال : قمت بالشيء إذا وليتُه بالرعاية والمصلحة،قال الغزالي:" وأما القيوم في أسماء الله تعالى فمعناه :الذي يقوم بذاته،ولاقوام له بغيره،ولا يشترط في دوام وجوده وجود غيره،ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور للأشياء وجود،و لادوام وجود إلا به.
لا يختلف التعريف الشرعي للاستقامة كثيراً عن مفهومها اللغوي،ولما كان القرآن الكريم يخاطب العرب بالألفاظ التي يتداو لونها ،وبما انطوت عليه من المعاني التي يعهدونها ؛ فإن المعاني اللغوية هي ذاتها المعاني الشرعية التي دلت عليها كلمة الإستقامة في الشريعة. هذا مهما تعددت عبارات الصحابة والتابعين و من جاء بعدهم من أهل العلم في حدها.
عن سعيد بن عمران قال :قد قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.[ قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً . وفي رواية أنه قال لأصحابه ] ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.[ فقالوا : ربنا الله ثم عملوا بها ، قال: لقد حملتموها على غير المحمل ،] ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.[ الذين لم يعدلوا بشرك ولا غيره . وفي رواية ثالثة : قال أبو بكر t : ما تقولون في هذه الآية] ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [؟ قال : فقالوا : ربنا الله ثم استقاموا من ذنب ، قال أبو بكر : لقد حملتم على غير المحمل ، قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى غيره .
وهذا التعريف للإستقامة بالتوحيد ، وهو إفراد الله تعالى بالقصد والخلوص من الشرك ، فيه تنبيه إلى أهمية الإستقامة ، وخطر التفريط فيها ، لأن أول ما يدخل فيها ضرورة هو البراءة من الشرك ، وهذا قطب رحى الدين ، وجماع الإسلام كله ، فإن من سلم له توحيده على التمام ،استقام وسلم له كل قول وعمل .
ومقارب لقول الصديق ما قاله مجاهد بن جبر، قال : أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به ، وعن عكرمة:استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. ولذلك فإن من أهل اللغة والتفسير من فسر( الحنيفية) بالإستقامة ، لأن ( الحَنَف) محرَّكة : الإستقامة، نقله ابن عرفة في تفسير قوله تعالى : ] بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين [، قال : وإنما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، قلت – الكلام لصاحب التاج-:وهو معنى صحيح وسيأتي ما يقويه من قول أبي زيد والجوهري ، وقال الراغب : هوميل من الضلال إلى الإستقامة ، وهذا حسن .
وعن الزهري قال : تلا عمر علــى المنبر] ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [ قال : استقاموا والله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب . وفي رواية : الإستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب .
وتفسير الإستقامة بالطاعة من الفقه العمري الثاقب ، فيدخل في الإستقامة بهذا المعنى كل الواجبات ومنها التوحيد كما ويدخل فيها كل المحرمات ومنها الشرك .وهذا كله من مقتضى الإيمان كما في الحديث : (( قل آمنت بالله ثم استقم )) ، ذلك أن نداءات الإيمان في القرآن :] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ [ تتراوح بين الأوامر والنواهي والأخبار، فالأوامر تمتثل والنواهي تجتنب، والأخبار تصدق ، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباسرضي الله عنهما: ( إستقاموا : أدوا الفرائض ). وقال الحسن البصري: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوامعصيته .. ومعنى هذا أن كل من عزم على الاستقامة مطالب بالإصغاء إلى نداءات الإيمان التي في كتاب الله لاشتمالها على شعاب الإستقامة ،قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه إعهد إلي :فقال (إذا سمعت الله تعالى يقول :} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ [ فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه ).
ولما كانت الطاعة وهي فعل المأمور وترك المحظور إنما يتقبلها الله بتجريد الإخلاص ؛ضمـن الخليفة عمر تعريف الاستقامة التحذير من المراوغة والختل في الطاعة والعبادة ( ولا تروغ روغان الثعالب ) وهذا من الفاروق الملهم عمر فرقان دقيق بين صنفين من المنتسبين إلى الاستقامة :
الأول : طائع مخلص لله لا يبغي سواه، قال الله جل في علاه }وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) ..
والثاني : مراوغ مخادع يسعى لإرضاء هواه كما حكى القرآن عن المنافقين }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ، فمثل هذا الصنف كمثل الثعلب إذا رام فريسته وخاف فواتها فإنه لا يمضي إليها في اعتدال واستقامة للظفر بها وإنما يعدل عن الإستقامة للروغان ، والميل ذات اليمين وذات الشمال حتى إذا اقترب منها انقض عليها, فحذر عمر رضي الله عنه من هذا السلوك الثعلبي في شأن الإستقامة ,لأن الله تعالى مطلع على مافي القلوب وعالم بالظواهر والغيوب .
وهذا ماحدى بذي النورين الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان أن يقول في حده للاستقامة :
" استقاموا :اخلصوا العمل لله "، لأن إخلاص العمل لله هو الركن الأساس لصحة الأعمال وقبولها وبدونها تكون الطاعات والعبادات يوم لقيامة هباءً منثورا ؛ كما قال سبحانه : ] إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) [، وهي الأعمال التي كانت على غير الطاعة أو قصد بها غير وجه الله ولأهمية هذين الأساسين : الإخلاص والمتابعة ؛ فقد أدخل شيخ الإسلام ابن تيمية الإخلاص في معنى الإستقامة فقال: " استقاموا على محبته وعبوديته , فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة " وأدخل من بعده تلميذه ابن القيم المتابعة في معناها وقال: "الإستقامة الإتباع وترك الإبتداع ".
والمقصود مماسبق أن الاستقامة لفظةشرعية محكمة آخذة بمجامع الدين ، يتلخص معناها شرعاً في كلمات هي: الإعتدال والثبات على طاعة الله من غير تعويج عنها عقداً وقولاً وفعلاً مع إخلاص العمل له على هدىً وبصيرة .
ثمة تعريفات أخرى ذكرها أهل العلم تلتقي في مؤداها بالتعريف السابق الذي رجحناه لشموله :
1) تعريف ابن رجب :الاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم وهي الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة , ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك.
وقال ابن حجر: " الإستقامة كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلا وتركاَ ".
ويقول الجوزجاني: الإستقامة : " كون الخط بحيث ينطبق أجزاؤها المفروضة بعضها على بعض على جميع الأوضاع, وفي اصطلاح هل العلم : هي الوفاء بالعهود كلها , وملازمة الطريق المستقيم برعاية حد التوسط في كل الأمور من الطعام والشراب واللباس وفي كل أمر ديني ودنيوي فذلك هو الطريق المستقيم .
وقال الأستاذ أبوالقاسم القشيري : " الاستقامة : درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيماً في حالته ضاع سعيه وخاب جهده ".
وقال الواسطي : " هي الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن " .
وعرف بعضهم الإستقامة بقوله: " أن يجمع بين أداء الطاعة واجتناب المعصية " وقيل: الإستقامةضد الإعوجاج , وهي مرور العبد في طريق العبودية بإرشاد الشرع والعقل.
يقول سيد قطب : " الاستقامة : الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف .وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة , والتحري الدائم على حدود الطريق , وضبط الانفعالات البشرية التي تميل عن الإتجاه قليلاً أو كثيراً … ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة .