المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

دليل الهداية

دليل الهداية

قال تعالى: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى " (الأعلى، آية:1 ـ3)، وقال تعالى: " رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " (طه، آية: 50)، والمقصود بالهداية المرادة في الآيات السابقة، إعطاء كل مخلوق من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له، وإرشاده إلى ما يصلح في معيشته ومطعمه ومشربه، ومنكحه وتقلبه وتصرفه (1).
ومن اسماء الله الحسنى الهادي سبحانه وتعالى الذي يُبصّر عباده ويعرّفهم طريق الإيمان به والإقرار بإلوهيته ومعرفة طريق بناء الحياة ومعرفة نواميسها وسننها حتى هدى الطيور والحيوانات والهوّام والوحوش إلى ما فيه مصالحها وعيشها ومحاذرة ما يضرّها أو يُعْطِبُها وقد جاء اسم الهادي في القرآن الكريم في قوله سبحانه: " وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا " (الفرقان، آية: 31)، وقوله: " وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " (الحج، آية:54).
إنها
هداية المعارف الفطرية الضرورية لكل مخلوق " قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " (طه، آية:50).
وهي ثانياً: هداية الإرشاد والبيان التي بعث بها أنبياءه وأنزل بها كتبه " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (السجدة، آية:24).
وثالثاً: الأخذ بالقلوب والعقول إلى مواضع رضاه بالتوفيق والإلهام والحفظ، كما وعد سبحانه " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ " (يونس، آية: 9)، " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا " (العنكبوت، آية:69). وهو منزل الكتاب الذي من تركه ضاع في بيداء الحياة ومن أبتغى الهدى في غيره أضله الله (1). وقد نبّه العلماء على كثير من هداية الله لمخلوقاته وكتبوا في ذلك كتباً نافعاً، فتحدثوا عن هداية الله للنمل وللهدهد والنحل وغيرها من مخلوقات الله الكثيرة وهذا باب واسع يكفي فيه قوله تعالى: " ومَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ " (الأنعام، آية 38)، وهذه الأمم تعبد الله وتسبحه وتحمده، قال تعالى: " وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ " (الإسراء، آية: 44)، ومثل قوله: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ " (النور، آية:41)، وتأمل معي في كل من:
1ـ النحل: قال تعالى: " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (النحل، آية:68ـ 69).
فأنظر إليها وإلى اجتهادها في صنعة العسل وبنائها البيوت المسدّسة التي هي من أتمّ الأشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعاً، وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها ثم انظر أدّاها حسن الإمتثال إلى أن اتخذت البيوت أولاً، فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت وأكلت من الثمار، ثم آوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً ثم بالأكل بعد ذلك ثم إذا سلكت سبل ربها مذلّلة لا يستوعر عليها شيء،ثم ترعى ثم تعود، ومن عجيب شأنها: أن لها أميراً يسمى " اليعسوب " لا يتم لها رواح ولا إياب، ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة لأمره، سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهي، وهي منقادة لأمره، متبعة لرأيه يدبّرها، كما يدبّر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا آوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزحم الأخرى لا تتقدم عليها في العبور، بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم، كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوز إلا واحد واحد ومن تدبر أحوالها وسياساتها وهدايتها واجتماع شملها وانتظام أمرها وتدبير ملكها، وتفويض كل عمل إلى واحد منها، يتعجب منها كل العجب، ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها، فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان، فمن الذي أوحى إليها أمرها، وجعل ما جعل في طباعها، ومن الذي هداها لشأنها؟ ومن الذي أنزل لها من الطّل ما إذا جنته ردّته عسلاً صافياً مختلفاً ألوانه في غاية الحلاوة واللذاذة والمنفعة (1)؟ إنه " الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ".

2ـ الهدهد: ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاء بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطاباً هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه، فقال أحط بما لم تحطت به، وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت وهو خبر عظيم له شأن فلذلك قال: وجئتك من سبأ بنبأ يقين، والنبأ هو الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر، وأوجبت له التشويق التام إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج، ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفاً مؤكداً بأدلة التأكيد، فقال: إني وجدت إمرأة تملكهم، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة وأنها من أجلّ الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في عظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه وأنه عرش عظيم ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله.وحذف أداة العطف من هذه الجملة وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها إيذاناً بأنها المقصودة وما قبلها توطئة لها، ثم أخبر عن المغوى لهم الحامل لهم على ذلك وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له، ثم ذكر من أفعاله سبحانه اخراج الخبء في السموات والأرض، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض، وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض، قال صاحب الكشاف وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ولا يكاد يخفي على ذي الفراسة، الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله فما عمل آدمي عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله (1).