الشيخ د.محمد بن عبد الكريم
الحمدلله حمدا يبلغ رضاه ، وصلى الله على أشرف من اجتباه , وعلى من صاحبه ووالاه , وسلم تسليما كثيرا , أما بعد
فإن الله عز وجل قد خلق فريقين في محتوم القضاء كما قال سبحانه وتعالى : ( وهو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) "التغابن 2" فاقتضت هذه القسمة التي لا يبدلها تنقل الزمان وتلونه , ولا علل الدهر وحوادثه , عدم التسوية بين كافر ومؤمن في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ) "القلم 35" وقال أيضا : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء مايحكمون ) "الجاثية 21" ففي الآخرة المؤمنون مصائرهم إلى الجنان , والكافرون عاقبتهم إلى النيران قال تعالى : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون . أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون واما الذين فسقوا فمأواهم النار ) "السجدة 20" .
وفي أحكام الدنيا شرعا لا يتقلد الولاية , ولا ينكح , ولا يورث , ولا يصلي عليه ولا يوالى ولا يشهد على مسلم قضاء إلا من كان مسلما , أما الكافر فتجب البراءة منه كما قال تعالى على لسان أوليائه : ( إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) "الممتحنة 4".
من أجل ذلك كان موضوع الحكم على الأناسي بالكفر والإسلام من أهم موضوعات الديانة , وعد الإنحراف فيه – غلوا أو إجحافا – سبيلا إلى الضلالة , وضربا من الغواية , والتباس الحد الفاصل بينهما والتواؤه على بعض المسلمين وخيم مغبته , ووبيل عاقبته , وكلام أئمة الهدى من علماء المسلمين في هذا الشأن , بيّن المنهج وبمثله تستمال القلوب النافرة , وترد الأهواء الشاردة , إذا أرجعوا الحكم بالتكفير إلى نوعين : شرعي يتحتم بيانه والعمل بمقتضاه , وبدعي يجب الحذر من سوء مغبته , وفداحة عقباه.
أولهما : التكفير الشرعي، وينعت به من البشر صنفان :
ولما دعت فئة ممن أنتابتهم بدعة الإرجاء حتى تخونت أفكارهم إلى سد باب التكفير الشرعي مطلقا لإستحالة وقوعه – وبئس ماظنوا – أو خوفا من تجاوز حدوده , أتخذ زنادقة العصر والمندسين في صفوف المسلمين ذلك مساغا ومركبا جرأ بعضهم على إنكار ماهو معلوم من الدين بالضرورة , وتلك نتيجة الجهل ومجتنى التعدي . وهذا ما حدا إعلام العلمانين وإلى وسم الحادبين على أمر الإسلام بنعوت التشدد والتطرف , تطويقا لحركتهم , وتشويها لصورتهم , والصحيح أنه يحكم بالكفر على شخص ما بقول مكفر أو فعل مكفر , ثبت عليه ثبوتا شرعيا إذا توفرت شروط الحكم وانتفت موانعه في حقه من ثقة مؤجل للحكم , وفي عهود الإسلام الأولى حكم العلماء بالردة على أفراد : كالجعد بن درهم وإبن الفارض أو على طوائف كالكرامية والنصيرية , وفي عصرنا كذلك كفر علماء المسلمين أفرادا كمحمود طه وغيره , وسلمان رشدي , أو كطوائف كالشيوعية والبهائية والقاديانية.
لأن الإشهار بذلك في الناس واجب من النصيحة لدين الله , قال القاضي عياض المالكي : " ووجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره وبيان كفره , وفساد قوله لقطع ضرره على المسلمين وقياما بحق سيد المرسلين" "الشفاء 2/997".
الثاني : التكفير البدعي :
وهو المسارعة إلى رمي المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام بالكفر جزافا من غير تبيين , وحكمه أنه حرام من أكبر الموبقات والأثام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يرمي الرجل رجلا بالفسق , أو بالكفر , إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ) "أخرجه البخاري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه" . والسواد الأعظم من أرباب هذه البدعة هو ممن ليس لهم غريزة عقل , ولا صريمة فهم , حتى كان عاقبة أمرهم عبر الزمان , وصروف الأيام أن تبددوا أيادي سبأ , وهم فريقان :
الفريق الأول: من يكفرون بالذنوب والمعاصي غير المكفرة كالزنا , وشرب الخمر , وهؤلاء هم الخوراج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه والصحابة , وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) "رواه البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه" ومعلوم لدي كافة سلف الأمة أن كبائر الإثم والفواحش بخلاف الشرك لا تخرج مرتكبيها من الملة كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ) "النساء 48" وقال صلى الله عليه وسلم : ( أتاني آت من ربي فأخبرني – أو قال –بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة , فقلت : وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ) "رواه البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه".
الفريق الثاني : من يكفرون بذنوب قولية وفعلية مكفرة , ولكن ظنا بغير تثبت , ورجما من غير تحقق , وهذا من العصر الحاضر , التي ما أورثت إلا حسرة , ولا أنتجت إلا شرا , ولقد أشرع النبي صلى الله عليه وسلم لنا نهجا نستضيء به ونهتدي في هذا الأمر فقال فيمن يقع على حكم الكفر : ( لا , إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ) "رواه البخاري ومسلم عن عبادة , فلا بد من ثلاثة شروط لإجراء صفة الكفر على معين :
الأول: أن يثبت عند الحاكم أو المفتى يقينا أنه قال أو فعل الكفر , بالرؤية أو السماع , وما يقوم مقامهما من الكتابة والنقل المتسفيض , دون مانع من إكراه أو حداثة عهد بإسلام , أو خفاء أو تأويل مستساغ لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) "البقرة 286" وشاهد هذا الشرط من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( أن تروا كفرا ) أي تحققتم وقوعه منهم.
الثاني : أن يكون الفعل أو القول في ذاته صريح الدلالة على الكفر , أي لايكون من الأقوال والأعمال المحتملة كحرق المصحف فإن إن كان للإكرام والصيانة فهو حسن وإن كان للتكذيب والإهانة فهو كفر , ومن صلى إلى القبلة وأمامه نار فيحتمل أنه صلى لله أو للنار فلا بد من تبيين القصد وقرائن الحال وشاهده من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( كفرا بواحا ) أي صريحا في دلالته على الكفر.
الثالث: ثبوت القول أو الفعل كفرا أكبر بنص شرعي صريح كقوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) "المائدة 44" وقوله : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ) "المؤمنون 117" , أو انعقد عليه الإجماع كالقول بخلق القرآن والسجود للصنم وشاهد هذا من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( عندكم من الله فيه برهان ).
وبعد أخي المسلم :
عليك بإتباع فتاوى العلماء العدول في هذا الشأن , للولاء والبراء وغيره من الأحكام المترتبة ولا تستبعدن ماهو شرعي من ذلك فإن للإيمان نواقض كما أن للوضوء نواقض قال صلى الله عليه وسلم : ( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم , يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا , أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا , يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) "رواه مسلم".
ودونك أيها المسلم وظيفة رسل الله , البشارة والنذارة , والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما قال تعالى : ( فتول عنهم فما أنه بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) "الذاريات 54-55". ليصل الحق للناس , وليعرف الجميع الحقيقة . والمرء كلما أقترب من ربه , وأستبان له تهاوى أناس من الأمة في الوعيد سارع إلى إنتشالهم وهدايتهم , قال صلى الله عليه وسلم ( والله لأن يهدي الله بهداك رجل واحد خير لك من حمر النعم ) "رواه أبو داود" . وأصله في البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
وليعلم الجميع ..
* أن هناك بعض فئات تلهو بالأصل الأصيل من الدين تحت شعار الترحيص والتسهيل .. فتوالي الباطل أحيانا , بل وتدعمه حتى ينتفش فإذا تهيأ للسقوط وأصابتهم المعرة , راحوا يعيبونه ولات حين مناص , وقد لبسوا على الأمة الحق , وكتموا حقيقة ما أنزل الله رب العالمين .
*لذا فلا تجد لهم موقفا شرعيا من حاكم طاغية , أو سبيل رباني في بناء صرح الإسلام والدين . وبدلا من قول الخليل إبراهيم : ( إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله ) استمرأت تلك الفئة المداهنة , وأستساغت القعود لمجال الباطل وأروقته وانحشرت في دواليب برامجه ودساتيره.
*حتى تمخض ذلك اللهم إنحرافا في مواجهة الباطل والظالمين بإنتهاج سبيل ضال في التغيير ( إنها الديمقراطية البرلمانية) , ودعوى القومية والوطنية بكل مخالفاتها وتجاوزاتها وإنحرافاتها عن الحق المبين . فنسأل الله الهداية للجميع,