د. محمد عبد الكريم الشيخ
أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من قال ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه.
إن الايمان بالله تعالى يقتضي أربعة أمور، لا ينتفع المرء بواحدة منها دون الأخرى وهي :
1- الإيمان بوجود الله تعالى .
2- الإيمان بوحدانيته في ربوبيته .
3- الإيمان بوحدانيته في ألوهيته .
4- الإيمان بوحدانيته في أسمائه وصفاته .
لم يكن الإيمان بوجود الله مثار جدل كبير لدى الامم السابقة التي عاندت رسل الله تعالى، ولم ينقل القرآن لنا منازعتهم في هذه الحقيقة غير آية واحدة وقف عندها بعض العلماء وهي قوله تعالى :(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ( " أي ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركوا العرب المنكرون للمعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدرية المنكرون للصانع .."
إن الدارس لعقائد الجاهلية العربية يجد – من أول وهلة – أنها لم تكن تنكر وجود الله أبدا، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة، والشواهد على ذلك كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالي 🙁 وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ( . وفي كلام العرب وشعرهم ، كقول امرئ القيس :
إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن على أهله كلاً فقد كمل الفتى
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)، ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ).
ومنه قول عنترة :
يـا عبلُ أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
وكانوا يؤمنون بالملائكة (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، ويؤمنون كذلك بالرسل (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، ومنه قول النابغة:
فــألفيت الأمانة لم تخنها كذلك كان نوح لا يخون
وكانوا يؤمنون بالكتب ويسمون اليهود والنصارى أهل الكتاب (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، أى كما أنزلت التوراة والإنجيل.
وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب كقول زهير :
ؤَخَّـرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَـرْ لِيَـوْمِ الحِسَـابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَـمِ
وكذلك كان لدى الجاهليين العرب بعض الشعائر التعبدية : منها تعظيم البيت الحرام وطوافهم حوله ووقوفهم بعرفات وتعظيم الأشهر الحرم، قال النابغة فى وصف الحجاج :
مشمرين على خوص مذممة نرجو الإله ونرجو البر والطعما
ومن ذلك ذبحهم ونذرهم لله كما فى قصة نذر عبد المطلب وإهداؤهم للبيت الحرام وتخصيص شئ فى الحرث والأنعام لله ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا).
ومن الناحية التشريعية كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود كحد السرقة فقد ذكر ابن الكلبى والقرطبى فى تفسيره أنّ قريشاً كانت تقطع يد السارق .
هذا هو الشأن في الربوبية والأسماء والصفات ،حيث كان الاوائل يثبتون في الجملة استحقاق الله تعالى لصفات الخلق والرزق والملك والتدبير ، وإنّ وقع المراء منهم في بعض آحادها كإنكارهم اسم الرحمن تكبراً 🙁 وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ( ولكن المكابرة السافرة كانت دوماً في الإيمان بوحدانية الله في عبادته حيث نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول صلى الله عليه وسلم واشتد النزاع ، معركة شرسة ونزاع حاد ، حتى أنّ السيف كان الحكم الأخير.
من هنا كان توحيد الله تعالى- ألوهية وعبادة – هو أول دعوة الرسل وأول مقام يقوم فيه من نشد الإستقامة على صراط الله ودينه الحق ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ( وقال تعالى : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله )) ، ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله ، فالتوحيد أول واجب ،وهو آخر واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم :(( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )) ، قال سفيان بن عيينة : "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفه لا إله إلا الله ، وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد ،فمن قالها عصم ماله ودمه ، ومن أباها فماله ودمه هدر، وهي مفتاح الجنة ،ومفتاح دعوة الرسل " ، وتأمل في أمر فرعون لما أدركه الغرق ، وصاح بالإيمان فإنه صرح بوحدانية الله في إلاهيته ( قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ( لأنه كان مأموراً بقولها ابتداءً ، وإيمانه بها خصوصاً هي التي تنقض دعواه 🙁 وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي..( .ثم إذا أمعنا النظر في أعظم أحاديث الإستقامة وهو حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه: (( قل آمنت بالله ثم اسقم )) نجد أنّ أحرى المعاني بظاهر قوله تعالى : (آمنت بالله ) هو إفراد الله تعالى بالعبادة والطاعة ، ويشهد لهذا التفسير أنه أقوم قيلاً، وأولى تأويلاً أمران :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم داول بين لفظ الإيمان والتوحيد وعبادة الله تعالى وحده كما جاء في روايات حـديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه :(( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ..)) الحديث ، حيث جاء في رواية البخاري تعليقا 🙁 بني الإسلام على خمس : إيمان بالله ورسوله ) وذكر بقية الحديث ، وفي رواية لمسلم : (على خمس : على أن يوحَّدَ الله ) ،وفي رواية لــه : (على أن يُعبد الله ويُكفر بما دونه )
ثانيهما: قوله تعالى :(( فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله )) ،فالإيمان هو إسلام الوجه وعبادة الله تعالى وحده كما في آية البقرة 🙁 فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أصل الإيمان عندنا وفرعه بعد الشهادة والتوحيد ، وبعد الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ ، وبعد أداء الفرائض :صدق الحديث ، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة . ومهما رام المرء عملا يكافئ الإيمان أو يدانيه فإنه ما أصاب الحق أبدا قال تعالى ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
فإذا ما حقق العبد هذا الإيمان على وجهه الصحيح فإنه يكون بذلك قد أتى أشرف عمل وأحبه إلى الله تعالى كما في الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال : (( إيمان بالله ورسوله )) قيل : ثم ماذا ؟ قال : (( الجهاد في سبيل الله ))، قيل :ثم ماذا ؟ قال : (( حج مبرور )) وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال ..) .
وأفضل العمل (الإيمان) هوالشرط بعد ذلك لقبول أي عمل من الأعمال الصالحة كما قال سبحانه ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ( , وقال سبحانه( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى( وقال سبحانه أيضا:( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( وقال تعالى أيضاً:( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا( وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديقاً برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة )) والجنة هي دار المؤمنين ، فلا يدخلها الا مؤمن كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً رضي الله عنه أن ينادي في الناس : (( إنه لايدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )) .
إنّ هذا الايمان هو منّة تعالى على كل انس وجان ، ومن فوت فرصة الحياة من غير تحصيله والظفر به، فإنه الشقي الذي لا يسعد أبداً، ولا ينفع الإيمان إذا دنت الساعة وحق القول على المعاندين كما قال سبحانه وتعالى حكاية عـن فرعون 🙁 حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)( وتلك هي حال الكافرين اجمعين : ( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ( وقال سبحانه : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(3 قال صلى الله عليه وسلم: (( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض )) .