أبوبكر يوسف المشرف
كثيرا ما يتحدث خطباء المساجد عن أمر يهم الأمة الإسلامية في صلاة الجمعة، وعند الخروج من المسجد ربما يتسامر معك البعض عن فحوى الخطبة ومراميها حيث إنّ المرء يسمع من بعض المصلين عبارات انتقاد للإمام الذي يتحدث في أمر سياسي ويطرح لك السؤال التالي" ما دخل السياسة في الدين ؟" حتى سمعت البعض يقول عبارة " من السياسة ترك السياسة" وينعتون الإمام بالمعتدل في نظرهم أنه الذي يتناول فقط قضايا التشريع الإسلامي كالصلاة والصيام والحج وقضايا الأخلاق العامة ولا يدخل نفسه في أمور السياسة والإقتصاد، وللمسلم حق في الإستفهام هل هذه نظرة علمانية متأصلة في عقول البعض تحتاج إلى جهود العلماء والمصلحين ليبصروا الناس بحقيقية هذا الدين وأنه ما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى بين للناس ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم ومعاشهم ويدخل في ذلك أمور سياسة الناس بالدين ؟ وأنّ هنالك باب عظيم في الشريعة الإسلامية ما يسمى بالسياسة الشرعية.
ولا شك أنّ مثل هذه النظرة القاصرة من البعض في فصل الدين عن السياسة مفادها إلى عمل متواصل من أعداء الدين محاولة منهم لمسخ هوية هذه الأمة وذلك عن طريق إفساح المجال عبر وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الجماهير والأمم لنشر مثل هذه السموم وتحريف معاني النصوص الشرعية على خلاف المراد، والتحريف نوعان هنالك تحريف لذات العبارات التي جاءت بها نصوص الشرع وهذا لا سبيل لهم إليه لأنّ الله تعالى حفظ لنا الدين " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فمن أضاف حرفا أوحذف من نصوص الشرع أو غيّر فيه سيفتضح أمره؛ لذا يحاولون الولوج إلى المعنى الآخر للتحريف وهو تحريف المعنى عن المراد وهذه الصورة أشد خطرا من الصورة الأولى من حيث الإضلال والتلبيس على عامة المسلمين فهم لا يظهرون محاربة الدين من هذا الباب بل يغطون حقيقة دعوتهم التي تهدف إلى سلب محاربة الأحكام الشرعية وإقصاءها عن كافة مجالات الحياة والإستعاضة عن الوحي المنزل على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم – بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها من الكفار .
وكما يشير بعض الباحثين أنّ هذه الأفكار والمناهج قد ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه ،وهي ما كان لها أن تظهر بل ما كان لها أن تجد آذانًا تسمع في بلاد المسلمين ، لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة ، والتي صادفت في الوقت نفسه قلوبًا من حقائق الإيمان خاوية ، وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة ، ودينًا في مجال التمدن ضائعة متخلفة، كما كان أيضًا للبعثات التعليمية التي ذهب بموجبها طلاب مسلمون إلى بلاد الغرب لتلقي أنواع العلوم الحديثة أثرٌ كبيرٌ في نقل الفكر العلماني ومظاهره إلى بلاد المسلمين ، حيث افتتن الطلاب هناك بما رأوا من مظاهر التقدم العلمي وآثاره ، فرجعوا إلى بلادهم محملين بكل ما رأوا من عادات وتقاليد ، ونظم اجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية عاملين على نشرها والدعوة إليها ، في الوقت نفسه الذي تلقاهم الناس فيه بالقبول الحسن ، توهمًا منهم أن هؤلاء المبعوثين هم حملة العلم النافع ، وأصحاب المعرفة الصحيحة.
إذن الإشكالية والتي تحتاج إلى وعي وعناية هي تسرب بعض المفاهيم العلمانية إلى الأحكام الشرعيىة، فالتفكير العلماني يرفض قيام القوانين والأنظمة في الدولة المدنية بناء على ( رؤية دينية) ومن ثم فلا تحفظ لديه على كثير من الأحكام الشرعية التي ليس لها تأثير على النظام العام كأدء الصلوات واجتناب المحرمات وإنما الإشكالية في الأحكام التي لها تأثير كالحدود والإباحية والفوضى الأخلاقية وهدم بنيان الأسرة الاجتماعي ونلحظ هذا عن طريق كثير من وسائل الإعلام التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة بالتلميح مرة وبالتصريح تارة أخرى .
وقد أحسن الأستاذ فهد بن صالح العجلان صاحب كتاب "معركة النَّص "في ذكر بعض الأمثلة إلى علمنة الأحكام الشرعية عند بعض أصحاب الأنظمة المدنية فذكر منها :-
إنّ تأويل الأحكام الشرعية بهذه الطريقة تقربها كثيرا من التفكير العلماني وتخفف من غلواء ضغط الثقافة المعاصرة عليها غير أنها تبتعد عن مقاصد التشريع وتخرج عن دائرة التفكير الفقهي بقدر بعدها عن النص الشرعي.
ويشير فضيلة الشيخ العجلان إلى خطوة مهمة عند أصحاب علمنة الأحكام الشرعية ومفادها أنه لكي يتعاملوا مع الأحكام الشرعية بطريقة معيَّنة تجعلها مقبولة للتفكير العَلماني فلابد إذاً من رفع خاصية (المنع) و (الإلزام) من الأحكام الشرعية،فتقدم الأحكام الشرعية على أنها أوامر ونواهٍ يُطلَب من المسلم فعلها أو اجتنابها، ومن يخالف في ذلك فيمكن مراقبته ومحاسبته من خلال النصيحة والموعظة الحسنة من غير أن يكون ثَمَّ منع لهذه المحرمات أو إلزام بتلك الواجبات فضلاً عن العقوبات والحدود. فرسمها في هذه الصورة بحالة مقبولة تماماً لدى التفكير العَلماني المعاصر. وإن كان من ثمت قانون مستمد روحه من الشرع ليصبح قانونا عاما في النظام فهذا يلزم به الناس لكونه قانونا ونظاما وليس لكونه دينا وشريعة من رب العالمين فيتعاقدون عليه كما يتعاقدون على أي نظام آخر من أنظمتهم الدنيوية.