المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

مقدمة في المقاصد العامة للشريعة الإسلامية

مقدمة في المقاصد العامة للشريعة الإسلامية

أنزل الله سبحانه وتعالى الكتب وأرسل الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم مبشرين ومنذرين لأسمى الغايات والمقاصد، فالله تعالى هو العدل وشرعه العدل وإنما يريد الله تعالى عبادته وإتباع أوامره على سنة رسله رحمة منه تعالى بنا فهو أعلم بما يصلحنا من أنفسنا وهو العليم الذي يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون والحكيم الذي يضع الأشياء في مكانها الصحيح (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[1].

وقد عرف أهل اللغة[2]المقاصد وأصلها قصد يقصدا قصدا فهو قاصد وهو إتيان الشيء أو تقول قصده أي نحا نحوه , وقاصده هينة السير لا تعب فيها ولا بطء , ومنه قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)[3] . قال ابن كثير [4]: قال مجاهد : "طريق الحق إلى الله" وقول مجاهد أقوى من حيث السياق لأنه تعالى أخبر أن ثمة طرقا تسلك إليه فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهو الطريق الذي شرعه الله ورضيه وما عداه مسدود والأعمال فيها مردودة.

والمقاصد عرفها الشاطبي[5]–رحمه الله – بقوله : "ومقاصد الشرع هي المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار".

وعرفها د. وهبة الزحيلي[6] : "مقاصد الشريعة هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها , أو هي الغاية من الشريعة والأسرار التي وضعها الشارع عن كل حكم من أحكامها".

وقد ذكر د. وهبة الزحيلي[7]  أن الشارع الحكيم قد استدل للمفاسد بأدلة متنوعة مثل بعثة الرسل (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)   وقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.)

وهناك آيات كثيرة جاءت في معرض التعليل لأحكام جزئية ترشد أيضا لمقاصد الشرع.

ففي الصيام بعد ذكر أهل الأعذار ذكر أن الشرع مبني على التخفيف واليسر فقال الله تعالى : (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[8].

وفي القصاص من القاتل ذكر المقصد في ذلك وهو إبقاء النفوس وعدم تفشي القتل في أهل القاتل و المقتول فيما كان يعرف في الجاهلية بـ (الثأر) فقتل القاتل حياة لحياة الأخرين (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[9] وفي تحريم الخمر والميسر ذكر المقاصد من تحريمها ودور الشيطان في الفساد والإفساد فقال تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[10].

أقسام المقاصد:

قسم علماء الأصول هذه المقاصد إلى ثلاثة أقسام تدور في فلكها جميع العلل والمقاصد في أمور الدين والدنيا من جلب مصلحة أو درء مفسدة وهذه المقاصد ذكرها الشاطبي[11] فقال :

"تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجيه والثالث أن تكون تحسينية".

أولا: المقاصد الضرورية :

فالمقاصد الضرورية "فمعناها أنه لابد من قيام مصالح الدين والدنيا بهابحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج"

والمقاصد الضرورية خمسة وهي : حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال, وقد ذكر د. وهبة الزحيلي[12] أن الضروريات الخمسة مأخوذة من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم) إذا اضيف إليها قوله تعالى في حفظ العقل -آية الخمر السابقة -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قال الآمدي[13] : "المقاصد الخمسة لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن حفظ هذه المقاصد الحمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات".

ويقول الغزالي[14] : "المصلحة هي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكن نعني بالمصلحة المصلحة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مضرة".

ثانيا : المقاصد الحاجية :

وأما الحاجات[15] فمعناها أنه مقتصر إليها من حيث التوسعة ورفع المشقة المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ففي العبادات كالرخص المخففة كالفطر في رمضان للمريض والمسافر وفي العادات كالتمتع بالطيبات وفي المعاملات كالقراض والمساقاة وفي الجنايات كضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع وما أشبه ذلك.

ثالثا : المقاصد التحسينية :

وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك مكارم الأخلاق وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان . ففي العبادات كإزالة النجاسة وفي العادات كآداب الأكل والشرب وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد.

فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي وإنما جرى مجرى التحسين والتقبيح.

ترتيب المقاصد [16]:

قال عبد الكريم زيدان: "والمصالح بأنواعها الثلاثة ليست سواء في الأهمية فأولاها بالرعاية الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينات , وعلى هذا فما شرع من أحكام للأولى أهم مما شرع للثانية وما شرع للثانية أهم مما شرع للثالثة ويترتب على هذا وجوب رعايتها بهذا الترتيب بمعنى أنه لا يجوز العناية بالحاجيات إذا كانت مراعاتها تخل بالضروريات ولا يجوز مراعاة التحسينات إذا كان في ذلك إخلال بالضروريات والحاجيات ولا يجوز مراعاة المكملات إذا كان في مراعاتها إخلال فيما هو أصل لها وبناء على هذه الضوابط يباح كشف العورة وإن كان سترها مطلوبا إذا كان كشفها يستدعيه إجراء الفحص والعلاج لان ستر العورة تحسيني والعلاج لحفظ النفس ضروري , ويباح تناول الخبائث كالميتة حفظا للنفس لان حفظها ضروري ولا يجوز دفع الحرج والمشقة على الإنسان إذا كان هذا الدفع تفويت لما هو ضروري فالعبادات مثلا تجب وإن كان فيها شيء من المشقة لأن إتيانها ضروري لحفظ الدين وحفظ الدين من المصالح الضرورية.

وكما لا يراعى تحسيني أو حاجي إذا كان في هذه المراعاة إخلال بالضروري فكذلك الضروريات لا يراعى أقلها أهمية إذا كان في هذه المراعاة تفويت لما هو أكثر أهمية فلا يجوز القعود عن الجهاد جبنا وضنا بالنفس لان في هذا القعود تفويتا لحفظ الدين ورد الاعتداء وصيانة دار الإسلام. وهذه أمور ضرورية أهم من حفظ النفس وإن  كان كلاهما ضروريا ويباح شرب الخمر بل لا يجوز الامتناع عنه إذا تعين طريقا لحفظ النفس من الهلاك لأن حفظها اهم من حفظ العقل.

أبو بكر يوسف المشرف/ (جامعة الخرطوم، ماجستير- دراسات إسلامية)


 


[1]سورة الملك آية 14.

[2]محمد بن أبي بكر الرازي , مختار الصحاح , إخراج دائرة المعاجم في مكتبة لبنان بيروت سنة 1996م , ص474.

[3]سورة النحل آية 9.

[4]ابن كثير , تفسير القرآن العظيم , نشر دار القلم بيروت , ط أولى , ج2 ص487.

[5]الإمام الشاطبي , الموافقات في أصول الأحكام , نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

[6]د. وهبة الزحيلي , أصول الفقه الإسلامي , نشر دار الفكر سوريا دمشق , ط أولى 1406ه -1986م , ج2 ص1017.

[7]د. وهبة الزحيلي , أصول الفقه الإسلام– بتصرف-.

[8]سورة البقرة آية 185.

[9]سورة البقرة آية 179.

[10]سورة المائدة آية 91.

[11]الإمام الشاطبي , الموافقات في أصول الأحكام , ج2 ص3.

[12]د. وهبة الزحيلي , أصول الفقه الإسلامي , ج2 ص1021.

[13]الآمدي , الأحكام في أصول الأحكام , نشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان سنة 1403ه – 1983م.

[14]الغزالي , المستصفى من علم الأصول , نشر مطبعة مصطفى محمد , ط أولى سنة 1356ه, ج1 ص139-140.

[15]الإمام الشاطبي , الموافقات في أصول الأحكام.

[16]د. عبد الكريم زيدان , الوجيز في أصول الفقه , مؤسسة قرطبة للطباعة والنشر 1987م , ص382-283.