المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

الصديقية .. والتيسير لليسرى (1)

الصديقية .. والتيسير لليسرى (1)

"هي روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهي أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجتها تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين" هي منزلة الصديقية، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)، والرجال والنساء سواء كلٌ منهما يمكن أن يحصلها عبر بوابة الصدق تحريه قال (صلى الله عليه وسلم) : ((وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً))، وقال سبحانه: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)، وجمعا في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ).
وتعددت الطرق والأسباب لبلوغ هذه المنزلة السامقة، وأبتدر بـ "ثلاثية التيسير لليسرى" الواردة في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، والمناسبة في جعلها أسباباً للتدرج في مدارج الصديقية ما ذكره شيخ المفسرين الإمام الطبري أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وتضمنت الآيات أسباب التيسير لليسرى بثلاث صفات كل واحدة تمسك زمام أختها، فالحسنة تتبعها أخواتها من الحسنات.

الصفة الأولى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى): العطاء ما أجمله من صفة، عطاء في طاعة الله وشكره، وعطاء للنفع بالمال والبدن والجاه، فالصدّيق والصديقة صاحٍبا بذل وعطاء ينالان حظهما لذاتهما، ويتعدى ويفيض عطاؤهما على الغير، وعكس العطاء البخل فجعله الله تعالى مقابلاً له لمن ييسر للعسرى قال تعالى: (وَأَمَّا مَن بَخِلَ).

 

وأما الثانية (وَاتَّقَى): فالتقوى هي غاية الغاية من الوجود البشري، فالغاية عبادة الحق جل جلاله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، و(غاية) الغاية (العبادة) تحصيل التقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). والتقوى معناها الاستغناء بالله عن الخلق، وشاهد ذلك أن الله تعالى جعل مقابل (وَاتَّقَى)، (وَاسْتَغْنَى) فهذا معنى لطيف للتقوى، وتتحصل التقوى بتلقيح الخوف (الذي به يحجم العبد ينأى عن المحرم)، والرجاء (الذي به يدفع العبد لأداء الطاعة بمحبة)، فالتقوى (فعل مأمور وترك محظور). وهي من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرةٌ عليه أمور دنياه وآخرته، فالله تعالى يخبر أنه ييسر لمن ينال التقوى ما لا ييسره لغيره، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

 

أما الثالثة: (التصديق بالحسنى): وقد تأولها السلف الصالح على معاني كلها من باب اختلاف التنوع السائغ، وأختار تفسيرها بالجنة، (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) فالحسنى الجنة، ومقابل (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى).
 

ومن تأمل يجد أن المعطي الموقن بأن ما عند الله أوثق وأضمن مما عنده، يرتقي به هذا العطاء لتقوى الله، وهذه التقوى تجعل قلبه معلقا بدار الحيوان (صيغة مبالغة من الحياة) المستقر الأبدي السرمدي، وكذلك من صدق بالجنة فإن ذلك يدعوه ولا بد إلى تقوى الله، وتقوى الله تزكي نفسه فتجعله سخي النفس كريماً معطاءً. قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – : "وقد اشتملت هذه الكلمات الثلاث (الإعطاء، والتقوى، والتصديق بالحسنى) على الدين الذي يدور على ثلاث قواعد (فعل لمأمور وترك لمحظور وتصديق الخبر) وإن شئت قلت الدين طلب وخبر، والطلب نوعان طلب فعل وطلب ترك، فقد تضمنت هذه الكلمات الثلاث مراتب الدين أجمعها (فالإعطاء فعل المأمور، والتقوى ترك المحظور، والتصديق بالحسنى تصديق الخبر " أ.هـ.
ثم تذيَّل الآيات بالجزاء الأوفى (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، والتيسير أن يكون الشيء سهلا ويسيرا الحصول عليه، ومن ذلك قوله تعالى: (ويسر لي أمري) وقوله في شأن القرآن: (ولقد يسرنا القرآن للذكر). قال ابن عباس (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى): أي نهيئه لعمل الخير، تيسر عليه أعمال الخير، ومقابله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)،
والتيسير بمعنى الدوام على العمل، ففي صحيح البخاري عن علي قال: " كنا مع رسول الله في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) " فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي الأكرم أعقب كلامه بأن قرأ (فأما من أعطى واتقى .. ) الآية؛ لأنه قرأها تبيينا واستدلالاً لكلامه، فكان للآية تعلق بالكلام النبوي، ومحل الاستدلال هو قوله تعالى: (فسنيسره) كما قرره صاحب التحرير والتنوير.
والصديقية تجلب البركة للبيعان والبائع والمشترى ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وان كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)).