أحمد بن محمد اللهيب
تعريف السلف:
في اللغة:
(السين واللام والفاء) تدل على: تقدمٍ وسبقٍ، ومن ذلك السلف الذين مضوا (1). فالسلف -في اللغة- كلمة تطلق على من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل (2).
كما تطلق على معانٍ أخر مقاربة، لكنها -في أغلب استعمالاتها- تدور حول معنى التقدم والمضي والسبق الزمني (3).
وقد استعملت كلمة (سلف) في القرآن على المعنى نفسه في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275]، أي: ما سبق وتقدم (4). ونحوه ما ورد في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95]، وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:56]، أي: (مقدمة يتقدمون إلى النار، كفار قومك -يا محمد- من قريش، وكفار قومك لهم بالأثر) (5).
واستعمل اللفظ نفسه في السنة النبوية للدلالة على المعنى ذاته، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة -رضي الله عنها- لما أخبرها بدنو أجله: «نِعْمَ السلف أنا لكِ» (6)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام -رضي الله عنه-: «أسلمتَ على ما سَلَفَ من خير» (7). لما ذكر بعض الأعمال الصالحة التي كان يعملها في جاهليته.
كما ورد استعمال اللفظ في السنة بمعنى: القرض، وبيع السلَم، وهما يؤولان في نهاية الأمر إلى المعنى الأول من السبق والتقدم.
المعنى الاصطلاحي:
يطلق مصطلح السلف عند اهل العلم، ويراد به أحد إطلاقين:
1- إطلاق خاص: ويراد به حقبة تاريخية محددة، يدل عليها حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم» (8)؛ ليشمل الصحابة والتابعين، الذين كانوا يعتمدون على الكتاب والسنة.
2- إطلاق عام: يتعلق بالمنهج الذي سلكه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، من لزومهم الكتاب والسنة؛ ليصبح مدلول (السلف) منطبقاً على من حافظ على العقيدة والمنهج الإسلامي طبقاً لفهم الأوائل، الذين تلقفوه جيلاً بعد جيل، فمن ابتدع في أمر من الأمور، واتخذ لبدعته منهاجاً خاصاً لا يكون قوله قولاً للسلف، ولو كان هذا في القرون الأولى؛ لأن وجوده في هذا الزمن لا يكفي للحكم عليه بأنه سائر على مذهب السلف (9).
– فالأول: لبيان المنطلق والبداية لمذهب السلف.
– والثاني: لبيان المسلك والطريقة التي سلكوها في الاستدلال.
وفائدة هذا التحديد: الرجوع إلى أقوال رجال هذا الزمن، وإلى فهمهم عند الاختلاف الذي قد ينشأ فيمن بعدهم. وهذه مسألة مهمة جداً؛ إذ الخلاف الحاصل بعد القرون المفضلة بين من يتمسك بمذهب السلف ومن عداهم من أهل الأهواء والبدع = لا يمكن حسمه إلا بالاتفاق على مثل هذا التحديد التاريخي؛ ليُحْتَكَم إلى إجماعهم -إذا أجمعوا-، أو أقوالهم، أو فهمهم للنصوص.
ولا يعني هذا حصر مذهب السلف في هؤلاء؛ لأن كل من قال بقولهم فهو على السلف، وإن تأخر (10).
خصائص مذهب السلف:
لقد تميز مذهب السلف بعدة خصائص، يمكن إجمال أهمها في النقاط التالية:
1- ليس لهم متبوع يعتقدون عصمته إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها (11).
2- جعلوا الكتاب والسنة إمامهم، وطلبوا الدين من قِبَلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم وآرائهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه وشكروا الله على أن أراهم ذلك ووفقهم له، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم؛ فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يكون حقاً، وقد يكون باطلاً (12).
3- أنهم -مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ديارهم- تجد أن جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً، بل لو جمعت ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبينُ من هذا؟ (13).
قال أبو المظفر السمعاني: (وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من عقولهم، فأورثهم التفرق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما تختلف، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والخواطر والآراء فقلما تتفق، بل عقل كل واحدٍ ورأيه وخاطره يُرِي صاحبه غير ما يُرِي الآخر … قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]) (14).
4- أنهم وسط بين الفرق، كما أن أهل الإسلام وسط بين الملل (15)، ففي مجال علاقة العقل بالنقل مثلاً توسطوا بين طائفتين:
(الأولى): غلت في جانب العقل، فأنزلته فوق منزلته؛ حيث جعلته مقدماً على الوحي، وهم طوائف أهل الكلام على اختلافٍ فيما بينهم في درجة الغلو.
و(الأخرى): أهملت العقل، ولم تلتفت إليه؛ بحجة التفكر في الذات الإلهية، وهم غلاة الصوفية (16).
أما السلف فكانوا وسطاً في هذا الباب، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا إجحاف؛ حيث كانوا يأخذون بالنظر العقلي ويأمرون به، وكلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، لكنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فشنع عليهم أهل الكلام؛ معتقدين أن هذا الإنكار مستلزمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال.
يقول الإمام ابن الوزير اليمني: (فهؤلاء -يقصد بهم السلف- كتابهم القرآن، وتفسيرهم الأخبار والآثار، ولا يكاد يوجد لهم كتابٌ في العقيدة، فإن وُجد فالذي فيه هو بمعنى الوصية المحضة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وهم لا يعنون بالرجوع إليهما نفي النظر، وترك العقل والاستدلال البتة … وإنما ينكرون من النظر أمرين:
(أحدهما): القول بأن النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه، وجرت به عادة السلف، غير مفيد للعلم، إلا أن يُردَّ إلى ما ابتُدع من طريق المتكلمين، بل هو عندهم كافٍ شافٍ، إن خالف طرائق المتكلمين.
و(ثانيهما): أنهم ينكرون القول بتعين طرائق المنطقيين والمتكلمين للمعرفة، وتجهيل من لم يعرفها وتكفيره) (17).
ويرى السلف أن من صور تكريم الإسلام للعقل أن حدَّد له ميادين يمكنه أن يسير فيها بأمان، ويمكنه أن ينجح فيها إذا استخدمها استخداماً صحيحاً؛ إذ عمله خارج مجاله هذا يعرضه للخطأ والتخبط؛ لأن هناك ميادين لا يدركها العقل، كعلم الغيب مثلاً، وهناك ميادين لا يدرك العقل حكمها وعللها على وجه الحقيقة كبعض التعبدات.
فإشغاله بها مضيعة للجهد، وإيغال في المتاهات، فكان من إكرام العقل أن يُدافع للعمل فيما يحسنه، ويوافق وظائفه وخصائصه.
وإن كثيراً من أرباب المذاهب الفلسفية والكلامية الذين أرادوا تمجيد العقل والرفع من شأنه أساءوا إلى العقل أيما إساءة، حيث أوغلوا به في مفاوز لا يهتدي فيها إلى سبيل، حتى صار أحدهم يأتي بالحكم ونقيضه، وإن أصاب مرة تعثر مرات (18)، حَيَارَى لا يثبتون على حالٍ.
قال الإمام ابن القيم في وصف حالهم: (فكيف يَتَوهَّمُ له أدنى مُسْكَةٍ (19) من عقل وإيمان أنَّ هؤلاء المُتَحَيِّرين الذين كَثُرَ في باب العلم بالله اضطرابهم، وغَلُظَ عن معرفة الله حِجَابُهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم، وأنه الشكُّ والحيرة؛ حيث يقول الشهرستاني:
لقد طفت المعاهد كلها ×× وسيَّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ ×× على ذقنٍ أو قارعاً سنَّ نادم
وقال الجويني: لقد خضت البحر الخِضَمَّ، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه -وهو إعمال العقل على غير طريقة السلف- والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي! وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي.
فكيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقرضون الحيارى المُتَهَوِّكُون أعلمَ بالله، وصفاته، وأسمائه، وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؟!) (20).
فإذا كان ذلك الاضطراب واقعاً في متقدمي غلاة العقل ففي المتأخرين من باب أولى!
منهج السلف في التعامل مع الدليل القرآني:
لقد سلك السلف الصالح منهجاً مطرداً في تعاملهم مع الدليل القرآني، وهذه أبرز معالم ذلكم المنهج:
أولاً:
طلب معرفة معنى الدليل من القرآن نفسه؛ إذ إن أحسن طريق لمعرفة مراد المتكلم -من حيث العموم- الاستدلال ببعض كلامه على بعض، حسب قواعد لغته التي يتكلم بها، وهذا يقتضي معرفة اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، ومعرفة أساليبها، واستعمالاتها، فالقرآن عربي؛ لقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، ومنزه عن العوج والعجمة، قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28]، وقال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، والذي أنزل عليه القرآن عربي فصيح، والذين خاطبهم القرآن عرب فصحاء، فجرى الخطاب بالقرآن على معتادهم في لسانهم لفظاً ومعنى.
قال الشافعي -رضي الله عنه-: (لا يعلم من إيضاح جُمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها) (21)، وقال الشاطبي: (لا يجوز لأحد أن يتكلم في الشريعة حتى يكون عربياً، أو كالعربي، في كونه عارفاً بلسان العرب، بالغاً فيه مبالغهم) (22)، فالعرب تخاطب بالشيء عامَّاً ظاهراً تريد به العامَّ الظاهر، وعامَّاً ظاهراً تريد به الخاص، وظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود العلم به في أول الكلام أو وسطه أو آخره.
والعرب تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة (23)، وهكذا القرآن الكريم، فمن العام الظاهر مع بقائه على عمومه، قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فهذا عام لا خاص فيه، ومن العام المراد به الخصوص قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] فلا شك أن القائلين نفر من الناس، وكذلك الجامعون والمجموع لهم، فهذا من باب إطلاق العام المراد به الخاص؛ لوروده في لسان العرب (24).
وأما ما يعرف معناه في سياقه أنه على غير ظاهره فنحو قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:11- 12] فالمراد بالقرية: أهلها، دون المنازل والأسواق، حيث لا يتصور من هذه ظلم، ثم إنه قد ذكر إنشاء قوم آخرين، وإنهم يحسون بالبأس الذي لا يقع إلا من الآدميين، وكذا الركض، فاتضح بذلك أن الظاهر غير مراد (25).
ومن أساليب القرآن الكريم أنه قد يوجز في موضوع ما، ويفصّل فيه في مكان آخر، كقصة فرعون وموسى، أوجزها في سورة البقرة (49- 50) ثم فصّل فيها، وأطنب في سورة أخرى كالأعراف (103- 137)، ويونس (75- 92) وطه (24- 82).
وقد يرد النص مطلقاً في موضع، ثم يذكر مقيِّده منفصلاً عنه في موضع آخر، روى [البخاري] بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (لما نزلت {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قال أصحابه، أي: أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وأينا لم يظلم؟) فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]) (26). فلفظ الظلم إذا أطلق تناول جنس الظلم؛ ولهذا شق ذلك على الصحابة، حتى عرفوا تقييده بالظلم الذي بمعنى الشرك.
وقد يرد النص عامَّاً في موضع، ثم يرد مخصصه منفصلاً عنه في موضع آخر، كما في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فنفى عموم الخلة والشفاعة، ثم قال في آية أخرى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فاستثنى المتقين، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] فاستثنى الشفاعة بعد الإذن والرضا.
فيحتاج المفسر لكتاب الله تعالى أن يجمع الآيات في الموضوع الواحد، ثم ينظر فيها مجتمعة؛ ليعرف ما قد يكون بينها من محكم ومتشابه، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، وناسخ ومنسوخ.
فالسلف يراعون جميع هذه الاعتبارات في تفسيرهم للآية الكريمة، أما غيرهم من أهل الأهواء فقد وضعوا لهم معانٍ محسومة لا يراعون فيها الاعتبارات المتقدمة، مما جعلهم ينقسمون على أنفسهم في حقيقة تأويلهم لبعض الآيات.
ثانياً:
فإن لم يتيسر فهم الدليل القرآني من القرآن نفسه، طلبه المفسر من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه البيان للقرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (27).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: (والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن) (28). وقد ذكر العلماء أن السنة تأتي مفسرة لبعض ما أجمل في الكتاب، مثاله: ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أصول الفرائض، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ثم بيّنت السنة الأركان والواجبات والمحظورات والمستحبات والمكروهات والهيئات والأوقاف والمقادير والأنصبة على نحوٍ من التفصيل لم يشمل عليه الكتاب (29).
وتأتي السنة -أيضاً- مخصصة لعموم الكتاب، مثاله قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]، فقصَرت السنة الوصية على الثلث، وجعلت الدين قبل الوصايا في الأداء، قال الشافعي -رحمه الله-: (ولولا السنة، ثم الإجماع، لم يكن ميراث إلا بعد وصية أو دين) (30).
وتأتي السنة –أيضاً- مقيدة لما اطلق في الكتاب، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] فقيدت السنة اليد باليمنى، والقطع يكون من الرسغ (31).
ثالثاً:
فإن تعذر فهم الدليل القرآني من السنة، طلبه المفسر من أقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، فإنهم أعلم بذلك؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال، واختصوا به من الفهم التام، وسلامة اللسان والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولا سيما علماؤهم كالخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة الأعلام، كعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الذي قال: (والذي لا إله غيره، ما من كتاب الله إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما نزلت. ولو أعلم أحداً هو اعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه) (32). ومثله ابن عباس -رضي الله عنهما- حبر الأمة وترجمان القرآن ببركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم علمه الكتاب) (33).
وقد تختلف أقوالهم في التفسير، ومن تدبرها وجدها ترجع إلى معنى واحد تختلف حوله الألفاظ، فهو اختلاف تنوع في الغالب، لا اختلاف تضاد (34).
رابعاً:
فإن لم يجد المفسر في أقوال الصحابة ما يعينه على فهم المراد من الدليل، فقد رجع كثير من الأئمة إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، فقد كان آية في التفسير، وهو القائل: (لقد عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أسأله فيم أنزلت، وفيم كانت؟) (35)، وكذلك سعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، وتابعيهم، ومن بعدهم، فهم أقرب عهداً بنزول القرآن، وأعرف من غيرهم بلغته وأساليبه، وأكثر حفظاً للسنن والآثار، وهم -أيضاً- من أهل القرون المفضلة المشهود لها بالخير لحديث: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (36)، وهذه الخيرية تكون في الإيمان والعلم والعمل.
والمقصود في هذا: بيان أن منهج السلف قائمٌ على تعظيم الدليل القرآني، سائر في التعامل معه على منهجٍ علمي مطَّرِدٍ جامعٍ بين تعظيم النص، وإعمال العقل فيما يقدر عليه.
ومن المجانبة للصواب ما فعله بعض مثقفي المسلمين في الوقت الحاضر في طريقة تعاملهم مع القرآن؛ إذ اتخذوا من مشاريع الفكر الغربي معياراً يحاكمون آيات القرآن عليه، فإن وافقته -ولو بتكلف- طاروا فرحاً بذلك، وإلا عدوها من المشكلات، وما من فريق منهم إلا حاول بكل ما في وسعه من جهد أن يجذب القرآن إلى مذهبه الذي رضيه لنفسه تحت مسمى تلك المناهج.
وقد تنوعت تلك المناهج وأدعياؤها، إلا أن أظهرها يمكن رده إلى منهجين:
– أولاهما: المنهج التاريخي أو التاريخاني: وأبرز ما يمثله الاتجاه السياسي في التعامل مع النص.
– وثانيهما: المنهج الباطني في التعامل مع النص: وهو ما يسمى أحياناً بالهرمنيوطيقا.
وسوف أستعرض في (مقال تالٍ) المقصود بهذين المنهجين، والطريقة المسلوكة فيهما عرضاً ونقداً.
* تنبيه: ستقوم الشبكة بنشره تحت عنوان (منهج الاتجاهات العقلانية المعاصرة في التعامل مع الدليل القرآني)، إن شاء الله تعالى.
الهوامش:
(1) [معجم مقاييس اللغة] لابن فارس (3/95) مادة (سلف).
(2) انظر: [القاموس المحيط] للفيروزآبادي (3/153)، و [لسان العرب] لابن منظور (9/159) مادة (سلف)، و [النهاية في غريب الحديث والأثر] لابن الأثير (2/390).
(3) انظر [تهذيب اللغة] للأزهري (12/431- 432)، و [لسان العرب] لابن منظور (9/159) مادة (سلف) وغيرهما..
(4) انظر [جامع البيان] للطبري (6/14).
(5) [تفسير الطبري] لابن جرير (25/85).
(6) أخرجه البخاري في [صحيحه] كتاب: الاستئذان، باب: من ناجى بين يدي الناس، برقم (6285). ومسلم في [صحيحه] كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل فاطمة، برقم (2450) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(7) أخرجه البخاري في [صحيحه] كتاب: الزكاة، باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم، برقم (1436). ومسلم في [صحيحه] كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، برقم (123).
(8) أخرجه البخاري في [صحيحه] كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهِد، برقم (2529). ومسلم في [صحيحه] كتاب: فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، برقم (4708) من حديث عمران -رضي الله عنه-.
(9) انظر: [قواعد المنهج السلفي] لمصطفى حلمي، ص: (23)، و [موقف ابن تيمية من الأشاعرة] لعبد الرحمن المحمود (1/41)، و [فهم السلف الصالح للنصوص الشرعية] لعبد الله الدميجي، ص: (21).
(10) انظر [مجموع الفتاوى] لابن تيمية (3/157)، و [لوامع الأنوار] للسفاريني (1/20)، و [أهل السنة والجماعة] لمحمد المصري، ص: (51- 52).
(11) انظر [مجموع الفتاوى] لابن تيمية (3/157، 437).
(12) [مختصر الصواعق] للموصلي، ص: (496).
(13) انظر [الانتصار لأهل الحديث] لأبي المظفر السمعاني، ص: (45).
(14) المصدر السابق، ص: (47).
(15) انظر [مجموع الفتاوى] لابن تيمية (3/341- 370). وللاستزادة انظر: [وسطية أهل السنة بين الفرق] لمحمد باكريم.
(16) يُعد هذا الإعراض فرعاً عن عقيدتهم في الفناء، يقول الحافظ الذهبي في [سير أعلام النبلاء] (15/393): (وإنما أراد قدماء الصوفية بالفناء: نسيان المخلوقات، وتركها، وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضاً، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها، والإقبال عليها، وتعظيم خالقها).
(17) [العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم] لابن الوزير اليمني (3/332- 334).
(18) انظر [مناهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد] لعثمان علي حسن (1/168)، و [التحسين والتقبيح العقليان] لعايض الشهراني (1/129).
(19) المسكة: البقية، يُقال: ما بفلان مُسْكَة من خير (بالضم)، أي: بقية. [لسان العرب] لابن منظور (10/488).
(20) انظر [الصواعق المرسلة] لابن القيم (1/165- 169).
(21) [الرسالة] للشافعي، ص: (50).
(22) [الاعتصام] للشاطبي (2/297).
(23) انظر [الرسالة] للشافعي، ص: (52). و [جامع البيان عن تأويل آي القرآن] لابن جرير الطبري (1/7)، وغيرهما..
(24) انظر [الرسالة] للشافعي، ص: (59- 60)، و [الجامع لأحكام القرآن] للقرطبي (4/279- 280)، وغيرهما..
(25) انظر [الرسالة] للشافعي، ص: (63).
(26) البخاري في [صحيحه] كتاب: تفسير القرآن، سورة البقرة، باب: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} برقم (4362).
(27) أخرجه أحمد في [مسنده] مسند الشاميين، حديث المقدام بن معدي كرب الكندي أبي كريمة، برقم (16866)، وصححه الألباني في [صحيح الجامع] برقم (2643).
(28) [مجموع الفتاوى] لابن تيمية (13/364).
(29) انظر [السنة] لمحمد بن نصر المروزي، ص: (30- 31).
(30) [الرسالة] للشافعي، ص: (65- 66).
(31) انظر [المسند] للإمام أحمد (10/141) برقم (6657)، و [السنن الكبرى] للبيهقي (8/271) كتاب: السرقة، باب: السارق يسرق أولاً فتقطع يده اليمنى من مفصل الكف.
(32) أخرجه مسلم في [صحيحه] كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله عنهما-، برقم (2463).
(33) أخرجه البخاري في [صحيحه] كتاب: العلم، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم علمه» برقم (75).
(34) انظر [شرح مقدمة التفسير] لابن عثيمين، ص: (28) وما بعدها.
(35) أخرجه الدارمي في [سننه] كتاب: الطهارة، باب: إتيان النساء في أدبارهنّ (1/257).
(36) تقدم تخريجه.