أبو عبد الله فتحي بن عبد الله الموصلي
يقول الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
سياق الآيات يدلّ على شروع في تفصيل قصة الفتية أصحاب الكهف، وأن الله تعالى يقصّها على نبيهّ -صلى الله عليه وسلم- بالحق والصدق الذي ما فيه من شك ولا شبهة بوجه من الوجوه. أي: لا تسأل عن خبرهم، نحن نقصّه عليك بالحق المطابق للواقع من كل وجه، حتى تظهر لك مقاصده العلمية الموجبة لتحصيل الشرائع العملية.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ}
(نَحْنُ): تقديم الضمير المنفصل، ضمير القاص، مع ما فيه من التبجيل والتعظيم للإخبار عن المفرد بصيغة الجمع، ويا له من قاص، وهو الله تعالى، فلا بدّ من اليقين والتذكير والتثبيت.
(نَقُصُّ): استحضار القصص إشارة إلى استمرارها والاتعاظ بها على مرّ الأزمان.
(عَلَيْكَ): اهتماماً بشخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه هو حامل هذا الدين والمبلِّغ له، مع ما في التركيب من معنى الفوقية؛ إشارة إلى الاتعاظ بالقصة والعمل بفحواها وعدم الاستئناس بها فقط، ولهذا لم يقل: ’لك‘.
(نَبَأَهُم): والنبأ فيه معنى: (الخبر جليل الشأن) كما قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1-2]، وخبرٌ هذه حاله موجب لشد الانتباه، ومن ثم التفكير فيه وتأمله، كل ذلك إشعار بأن مصادر التلقي هي من الوحي، فلا حاجة ألبتة للسؤال عن أخبارهم.
(بِالْحَقِّ): فقد تولى الله تعالى الإخبار عنهم وحياً مطابقاً للواقع، فليس في قصصهم ولا قصص غيرهم زيادة ولا نقصان، وتلقيه -صلى الله عليه وسلم- قصص هؤلاء الفتية من الله تعالى موجب لتحصيل اليقين من قصصهم؛ فيترتب على ذلك آثار عملية ودعوية فضلاً عن التذكير والتثبيت، يقول تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}
(إِنَّهُمْ): تصدير الآية بـ: (إِنَّ) لتوكيد مضمون الآية.
(فِتْيَةُ): معلوم أن كلمة (الفتية) من جموع القلة -أي دون العشرة-، إشارة إلى أنهم قلة، وهذا الوصف متعلّق بتحقيق الغربة والاغتراب، وهي غربة الحال، والعقيدة، والمنهج، كما كانت هي غربة أوطان بالنسبة لهم. و (الفتى): هو الشاب الحديث السنّ. وقد استعمل هذا اللفظ في باب المدح والذمّ بحسب السياق، فقد ورد في آيات أخر كما في قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]. ووصف أصحاب الكهف بالفتوة وارد على سبيل المدح من وجهين:
الأول: إن هؤلاء الفتية لما آمنوا واستجابوا لمنادي الإيمان، كانوا في سنّ الشباب والقوة، فآثروا الإيمان على الكفر؛ فهم وجهوا فتوّتهم نحو تحصيل الإيمان والثبات عليه، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن كثير في [تفسيره]: (إنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا، وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- شباباً) (1).
الثاني: إن لفظ (الفتى) وإن كان مشعراً بالاستضعاف، إلا أنه استضعاف محمود لا مذموم؛ فاستحقوا بموجبه شمولهم بالنصر والدفع عنهم، وهذه سنة كونية تجري لصالح الرسل والدعاة.
إيثار أصل الإيمان ثم السعي لتكميله:
(آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) والإيمان ها هنا ذُكر مطلقاً دون قرنه بالعمل الصالح -وإن كان العمل داخلاً فيه دخول الشيء في مسماه- لإيثار الأصل الإيماني الذي هو التوحيد.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
(وزدناهم هدى) (أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح) (1). ذلك أن الإيمان وكما هو معلوم متضمن للمجمل والمفصل، فهم آمنوا بمجمله وأصله الذي هو التوحيد؛ فشكر الله تعالى إيمانهم فزادهم من مفصله الذي هو الهدى المتضمن للعلم النافع والعمل الصالح.
إن فعل الإيمان نسب إليهم فهو صادر منهم تحصيلاً وسعياً لا إلهاماً وكشفاً. والذي معهم -ابتداءً- هو أصل الإيمان وهو التوحيد بقرينة إطلاقه، وذكر الهدى المتضمن للعمل الصالح في سياقه؛ فالإيمان في الآية متوجه إلى التوحيد بقرينة السياق، فثمة عموم وخصوص بين الإيمان والهدى عند الجمع بينهم والإفراد، فإذا أفرد أحدهما بالذكر يكون متضمناً للآخر، والعكس صحيح، وثمة قرينة أخرى، وهي أن اسم الرب تعالى أضيف إليهم (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)، وذكر الربوبية مع الإيمان هو من باب قرن الإلهية بالربوبية، كما هو المعتاد في السياقات القرآنية لمن تأمل. وإضافة اسم الرب إليهم تشريفاً وتربية لهم، فقد خصّهم الله تعالى بتربيتهم على التوحيد.
أما بالنسبة لزيادة الهدى، فثمة فائدة أخرى، ذلكم أن المزاد عليهم من الله تعالى وارد في لفظ الهدى لا بلفظ الإيمان، فلم يقل الله تعالى زدناهم إيماناً بل (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) مع أن ما عندهم هو من جنس الإيمان، والسبب في هذا التقديم والإيثار يرجع إلى:
أولاً: إنما المقصود تكميل الإيمان بمجمله ومفصله، بأصله وفروعه، بعلمه وعمله، بأساسه وبنيانه … فالفتية لما آمنوا إيماناً مجملاً زادهم الله تعالى الإيمان المفصل الذي جاء ذكره في الآية بلفظ الهدى، لئلا يتوهم أحد أن الزيادة هي في جنس الأصل فقط، بل أن المزاد عليهم وإن كان من جنس ما عندهم لكن هو زائد على قدر ذلك في الإجمال والتفصيل.
ثانياً: وهم سعوا إلى سبيل الرشاد هداية واستجابة، فزادهم الله تعالى ووفقهم إلى هداية أخرى أكمل وأتّم من الأولى، فاجتمعت عندهم الهدايتان: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق.
ثالثاً: ولما كان غالب تعلق الهدى إنما يحصل بتكميل القوة العملية المتفرعة على تكميل القوة العلمية، كان إيثار الهدى في هذا السياق من باب تكميل وتهذيب القوة العملية، والاعتناء بالتزكية.
رابعاً: ولعل ثمة فائدة أخرى: هؤلاء الفتية لما آثروا الإيمان على الكفر، والتوحيد على الشرك فقد جاهدوا في الله توحيداً وإيماناً، فلا بدّ من هدايتهم إلى أكمل سبل الهداية كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فكل من يجاهد في الله توحيداً لا بدّ وأن يُهدى إلى كل سبل الهداية لا إلى سبيل واحدة؛ أي إلى كل شرائع الإيمان وشبعه ولوازمه وثماره.. وقرينة هذا التوجيه ظاهرة في تنكير الهدى في الآية، إذن هي للتعميم ولتعظيم النعمة المزادة عليهم وتفخيمها، فتأمّل.
تنبيهات:
1- الآية دلت بمنطوقها على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، يزيد بالأسباب الموجبة لزيادة الإيمان وسعي العباد لتحصيله، وينقص بتركها وعدم إرادة الانتفاع بها، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
2- إن إيمان الفتية تحصل عندهم بطريقة الاستجابة إلى منادي الرسل وواعظ الإيمان في القلب، فضلاً عن حصوله بمقتضى العلوم الفطرية التي سلمها الله تعالى من التلوث بدفع المعارض لها، في حين ذهب البعض إلى أن إيمان هؤلاء حصل بمقتضى الإلهام! وهذا خلاف معهود تحصيل الإيمان، إذ لو كان هو المقصود لنوّه السياق له من قريب أو بعيد، وما تقدم من إيضاح كافٍ لرده.
هؤلاء الفتية الممدوحة صفتهم قد اجتمعت فيهم خصال تفرقت في غيرهم، فكانوا علماء بين قوم جهال، وكانوا مؤمنين وسط قوم كفار، وكانوا موحِّدين وسط قوم مشركين، وهذه الحال والوصف من موجبه إعلان العداء لهم، فما كان منهم إلا الثبات. فبإيمانهم هذا آثروا محبة الله على محبة سواه، وآثروا الفرار إليه على مصاحبة الأصحاب والأهل والأحباب، فتحققت خصلة إيثار المحبوب في عمل القلب، فكرهوا الردة، وكرهوا ما كان عليه قومهم، لذا قال الله على لسان بعضهم: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20]. ومن كانت هذه خصاله ذاق حلاوة الإيمان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» [متفق عليه]. فهؤلاء الفتية لما وجدوا أثر حلاوة الإيمان قاموا لله في ذاته قومة التوحيد، والدعوة إلى سبيله تعالى، والتعريف به رباً ومعبوداً، وبأسمائه وصفاته. وفي هذا المعنى الدقيق يقول ابن القيم الجوزية في [المدارج]: (فإن هؤلاء -أي الفتية- كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر، فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم، وقالوا: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً)، والربط على قلوبهم يتضمّن الشدّ عليها بالصبر والتثبيت، وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان، حتى صبروا على هجران دار قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش، وفرّوا بدينهم إلى الكهف) (3).
الهوامش:
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 127).
(2) تيسير الكريم الرحمن للسعدي (5 /14).
(3) مدارج السالكين لابن القيم (3/ 67-68).