المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

تدبُّر (2)

تدبُّر (2)

القرآن بركة، ومدخل نيل هذه البركة بـ(التدبر)، لتحصُل (الذكرى) قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ سورة ص الآية 29.

لابد أن تعمل أجهزة استقبال العلم والمعرفة = السمع والبصر والفؤاد ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾سورة الإسراء الآية 36.

أقول: تعمل هذه الأجهزة الثلاث بـ (مرادات الله جل في علاه) لتحصل لها الذكرى ﴿  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ سورة ق الآية 37.

هذه السلسلة في "التدبر" نختار فيها ثلاث آيات من كلٍ جزءٍ من كتاب الله تعالى، نقف عند تأويلها، وألطف المعاني فيها، سأل الله تعالى أن تقع موقعها في القلب، فيحصل العلم المنشأ للعمل، فيحصل الخير الكثير بإذنه تعالى.

الجزء الثاني ..

1- قوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ البقرة 155

قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه يبتلي عباده المؤمنين أي: يختبرهم ويمتحنهم، فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع، كما قال تعالى: (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه، ولهذا قال: لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا (بشيء من الخوف والجوع) أي: بقليل من ذلك (ونقص من الأموال) أي: ذهاب بعضها".

قال السعدي: "فهذه الأمور لا بد أن تقع لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع حصلت له المصيبتان فوات المحبوب وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.

قال الشوكاني: "والمراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره .وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط .وبنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجبه الله فيها من الزكاة ونحوها .وبنقص الأنفس: الموت والقتل في الجهاد .وبنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها، وقيل : المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد .وقوله: وبشر الصابرين أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يقدر على التبشير".

2- قوله تعالى: ﴿ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ البقرة 201

قال الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حج بيته، يسألون ربهم الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تجمع "الحسنة" من الله عز وجل العافية في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة .وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجنة؛ لأن من لم ينلها يومئذ فقد حرم جميع الحسنات، وفارق جميع معاني العافية" .

قال القرطبي: "قوله تعالى: (ومنهم) أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة، واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال، وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة، وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة، وهذا هو الصحيح، وهذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة".

قال السعدي: "والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هنيء واسع حلال وزوجة صالحة, وولد تقر به العين وراحة وعلم نافع, وعمل صالح ونحو ذلك من المطالب المحبوبة والمباحة. وحسنة الآخرة هي السلامة من العقوبات في القبر, والموقف والنار وحصول رضا الله والفوز بالنعيم المقيم، والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء أجمع دعاء وأكمله وأولاه بالإيثار ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به والحث عليه".

3- قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ البقرة 208

قال الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض".

قال ابن كثير: "يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك .وقال الضحاك، عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيع بن أنس: (ادخلوا في السلم) يعني: الطاعة. وقال قتادة أيضا: الموادعة .وقوله : (كافة) قال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر".

قال الشعراوي: "(ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً)، وكلمة "في" تُفيد الظرفية، ومعنى الظرفية أن شيئاً يحتوي شيئاً، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول: الماء في الكوب، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول: المصلون في المسجد، والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف، ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فلا جهة يفلت منها المظروف من الظرف. ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة الظرفية عندما يقول: (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، والسِّلْم والسَّلْمُ والسَّلَم هو الإسلام، فالمادة كلها واحدة؛ وقوله: (ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ) معناه حتى يكتنفكم السلم.