المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

تدبُّر (4)

تدبُّر (4)

 

 

 


القرآن بركة، ومدخل نيل هذه البركة بـ(التدبر)، لتحصُل (الذكرى) قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ سورة ص الآية 29

لابد أن تعمل أجهزة استقبال العلم والمعرفة = السمع والبصر والفؤاد ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾سورة الإسراء الآية 36..

أقول: تعمل هذه الأجهزة الثلاث بـ (مرادات الله جل في علاه) لتحصل لها الذكرى ﴿  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ سورة ق الآية 37 ..

هذه السلسلة في "التدبر" نختار فيها ثلاث آيات من كلٍ جزءٍ من كتاب الله تعالى، نقف عند تأويلها، وألطف المعاني فيها، سأل الله تعالى أن تقع موقعها في القلب، فيحصل العلم المنشأ للعمل، فيحصل الخير الكثير بإذنه تعالى.

الجزء الرابع..

1- قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ آل عمران 104

قال الطبري: "عني بذلك جل ثناؤه: (ولتكن منكم) أيها المؤمنون (أمة)، يقول: جماعة، (يدعون) الناس، (إلى الخير)، يعني إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، (ويأمرون بالمعروف)، يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله، (وينهون عن المنكر) يعني وينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة .وقوله: (وأولئك هم المفلحون) يعني: المنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه".

قال ابن عاشور: "وصيغة (ولتكن منكم أمة) صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها. فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية، فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرراً من قبل بآيات أخرى مثل وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، أو بأوامر نبوية. فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدوام والثبات عليه، مثل (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله)".

قال السعدي: "أي: وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله (أمة) أي: جماعة (يدعون إلى الخير) وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه، (ويأمرون بالمعروف) وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه (وينهون عن المنكر) وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه".

  -2قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ آل عمران 139

قال البغوي: "قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا) هذا حث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، زيادة على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد يقول الله تعالى: (ولا تهنوا) أي: لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وقتل من الأنصار سبعون رجلا .(ولا تحزنوا) فإنكم (وأنتم الأعلون) أي تكون لكم العاقبة بالنصرة والظفر، (إن كنتم مؤمنين) أي: لأنكم مؤمنون".

قال القرطبي: "عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال ولا تهنوا أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم. ولا تحزنوا على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة. وأنتم الأعلون أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر إن كنتم مؤمنين أي بصدق وعدي. وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى: (إنك أنت الأعلى) وقال لهذه الأمة: (وأنتم الأعلون).

قال الشعراوي: "فـ (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ)، فما دمتم على الإيمان فأنتم الأعلون، وإذا أردتم أن تعرفوا معنى (الأعلون ) حقاً، فقارنوا معركة أُحُد بمعركة بدر، هم قتلوا منكم في أُحُد، وأنتم قتلتم منهم في بدر. ولكنكم أسرتم منهم في بدر، ولم يأسروا منكم أحداً في أُحُد. وأنتم غنمتم في بدر، ولم يغنموا شيئاً في أُحُد".

  -3قوله تعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران 200

قال ابن كثير: " وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) قال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم. وكذلك قال غير واحد من علماء السلف .وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات".

قال السعدي: "ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح وهو: الفوز والسعادة والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك. والمصابرة أي الملازمة والاستمرار على ذلك، على الدوام، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال. والمرابطة: وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه، وأن يراقبوا أعداءهم، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم، لعلهم يفلحون: يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي، وينجون من المكروه كذلك".

قال ابن عاشور: "ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدو كي لا يثبطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمرهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشد الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل ، وذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إن هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتى يمل قرنه فإنه لا يجتني من صبره شيئاً ، لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا".