د. محمد عبد الكريم الشيخ
إنّ التحالف الأمريكي الصهيوني"الأمريصهيوني" لا يزال يُهْرعُ حثيثا لتحقيق استراتيجيته لهدم الإسلام، وإضعاف المسلمين، تحت اسم: " مشروع الشرق الأوسط الكبير" وهو مشروع يستند إلى ركيزتين خطيرتين:
أولاهما: تفتيت الكيانات الكبرى في المنطقة إلى دويلات صغيرة تسهل السيطرة عليها عن طريق استغلال الصراعات العرقية والطائفية؛ كما هو الواقع في العراق؛ وذلك لِتكريس إسرائيل زعيماً بلا منازع في المنطقة.
وثانيهما: السيطرة بإحكام على منابع النفط والثروة مما يكفل لهم البقاء في العالم أقوياء.
ومن هنا فإنّ المراكز المتشددة بالولايات المتحدة لا تزال تبدي رغبتها العارمة في إسقاط الحكومة في السودان وتغيير هيكلية الدولة كلها على نحو يبدِّل هويتها ويذهب بأمنها واستقرارها.
وبَطَلُ السيناريو الجديد هو المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية (لويس مورينو أوكامبو) كان قبل أيام من تقديم توصيته بإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس عمر حسن أحمد البشير ضيفاً على الخارجية الأمريكية، حيث رتبت معه (جنيداي فريزر) مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية والمسئولة عن الملف السوداني، كل التفاصيل المتعلقة بالقرار وكيفية إخراجه، وكيف يتم تبادل الأدوار بين الدول الأوروبية الداعمة للمحكمة والحريصة على قيامها واستمرارها، وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد الاستفادة من قرارات المحكمة وإجراءاتها في الابتزاز السياسي المرتقب.
وتعلن المتحدثة باسم الأمم المتحدة (ميشال مونتاس) أن المنظمة الدولية لا تستطيع التدخل في قرار المحكمة الجنائية الدولية الذي يستهدف الرئيس السوداني عمر حسن البشير، مؤكدة استقلالية المحكمة الجنائية وأن الأمانة العامة للأمم المتحدة لا تستطيع التدخل في أي شيء يتصل بالمحكمة الجنائية الدولية"، ويستطيع أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر التصويت على قرار لإرجاء أي تحقيق أو ملاحقة تقوم بها المحكمة لمدة تصل إلى اثني عشر شهرا، وبإمكانه تمديد المهلة أيضا، وهذا يثبت بأنّ الإدارة الأمريكية الحالية، ومعها العديد من الدول الغربية تتبنى إستراتيجية تهدف إلى تفكيك معظم الدول العربية والإسلامية، وتحويلها إلى دول فاشلة، وعاجزة عن أداء وظائف التنمية الأساسية وحماية أمنها وفرض سيطرتها على أراضيها وحدودها.
حينما أصدرت منظمة (هيومان رايتس ووتش) في 7/5/2004 دراسة مفصلة اتهمت فيها السودان بأنه يمارس في دارفور عملية تطهير عرقي، ويرتكب جرائم ضد الإنسانية، وعلى إثر تلك الدراسة المفصلة زار وزير الخارجية الأميركية السابق "كولن باول" منطقة دارفور بتاريخ 1/7/2004، ليعلن من هناك في حديث مع إذاعة أميركية (N.B.R) أنّ ما يجري في دارفور لا ينطبق عليه وصف الإبادة، حيث قال: "استنادا إلى ما شاهدناه، هناك مؤشرات، ولكن بالتأكيد ليس كل المؤشرات، حول التصنيف الشرعي للإبادة في هذه المنطقة. هذا هو رأي الحقوقيين الذين يعملون معي"، وأكد أنّه ما كان ليتردد في استعمال كلمة إبادة لو توافرت شروط مثل هذا التصنيف، ورفض "باول" أيضا تشبيه ما يجري في دارفور بالإبادة التي وقعت في رواندا عام 1994، مؤكدا أنّ "الوضع ليس شبيها بوضع رواندا قبل عشر سنوات" ثم كوّنت الأمم المتحدة لجنة مختصة زارت دارفور وقابلت الضحايا ، وخرجت هذه اللجنة بنتائج قالت فيها إن ماجرى لم يكن إبادة.
وبعد كل هدا الوقت، يأتي أوكامبو ليحقق من جديدٍ ومن خارج مسرح الحدث ويستمع لإفادات دون أن يستوثق منها ليدمغ بها رئيس دولة ذات سيادة.
إن طلب أوكامبو هو الغطاء السياسي لتحركٍ يجد كل الدعم والتأييد من الدول المتربصة بالسودان، يؤيد ذلك تلويح بعضهم بإمكانية تجاوز موضوع البشير بصفقة ما ليمكن معها بسهولة احتواء مذكرة أوكامبو وجعلها شيئاً من التاريخ، فالمتوقع إذن هو أن تتعرض الخرطوم لمزيد من الابتزاز السياسي طمعاً أن تقدم كثيرا من التنازلات وفي شتى القضايا.
قد يكون من بين ذلك الابتزاز إقامة حكومة دارفورية على نمط حكومة الجنوب تمهيداً بقبول مبدأً الانفصال مستقبلاً، أو هو الضغط على المؤتمر الوطني الحاكم سياسياً لقبول التفكيك طوعاً وتسليم السلطة تجنِّباً للملاحقة القانونية والإدانة الدولية. وسبق أيضاً للرئيس البشير أن ذكر في لقاءات كثيرة أنّ طلباً عُرض على الحكومة عدة مرات ألا وهو إقامة علاقات دبلوماسية اقتصادية مع الكيان الصهيوني.
إنّ هذا الاستهداف الأمريكي ليس سببه بأي حال الاتهامات بارتكاب قوات البشير مجازر في دارفور، وإنما هو مزيد من التطويع للحلف "الأمريصهيوني" والقبول التام بمبدأ علمانية الدولة ومراقبة دور التعليم الديني والخطاب الإسلامي بالبلاد. والعمل على طمس الهوية العربية والإسلامية للسودان، وتمزيق أطرافه أيدي سبأ.
ولو أنّ السودان لبى كل تلك المطالب وغيرها فإنه لن ينجو من الوحش الأمريكي ،فحكومة الإنقاذ قد قدمت من قبل كثيراً من التنازلات حيث وقعت على اتفاقية (نيفاشا)،إثر التهديد بقانون سلام السودان وأدخلت متمردي الحركة الشعبية إلى القصر في أعلى المناصب الدستورية، وسحبت ما يزيد على المائة ألف جندي من قواتها المسلحة من الجنوب، بل وسمحت لقوات المتمردين بالتواجد داخل الخرطوم وتعهدت بأن تدفع للجنوب سنويا ما يزيد على مليار ونصف المليار من الدولارات، وعدَّلت فى القوانين والتشريعات بما يتوافق مع منظومة حقوق الإنسان وقبل أن يقطع المبعوث الأمريكي إلى السودان( ويليام سون) زيارته الأخيرة ، كان قد سُر سروراً عظيماً بخارطة طريق أبيي، والذي قبل فيه الطرفان في حالة فشلهما في الوصول إلى حل مرضٍ اللجوء إلى التحكيم الدولي،ثم تأتي إجازة قانون الانتخابات والذي ظلت تطالب به قوى المعارضة والحركة الشعبية وظل المجتمع الدولي ينادي بسرعة إجازته لأنه في نظرهم من أهم خطوات التحول الديمقراطي ومع كل ذلك وغيره فإنهم يكافئون حكومة الإنقاذ بطلب إصدار مذكرة اعتقال لرئيسها والسعي لتقويض نظامه. لأنّ الغرب أساساً لا ينطلق من مصالح الشعوب ورغبتها الحقيقية في إقامة أنظمة ديمقراطية وطنية عبر صناديق اقتراع في انتخابات نزيهة شفافة، وإنما من مصلحتها في الهيمنة والنهب للثروات ، وفي هدا الصدد تفيد دراسة حديثة للمجلس الأميركي للعلاقات الخارجية، أنّ الاهتمام الأميركي بدارفور يتخطى مسألة الاعتبارات الإنسانية، حيث تدرك الولايات المتحدة أنّ إفريقيا تشكل واحدة من أسرع المناطق نموا في إنتاج البترول، وبحلول العام 2012 سيكون بوسع الولايات المتحدة أن تستورد من إفريقيا ما يعادل نفس الكمية من البترول التي تستوردها حاليا من الشرق الأوسط. ولذلك تشكل دارفور.. صمام أمان بالغ الأهمية لتدفق النفط.
إنّ أمريكا هي من داست على كل القوانين والأعراف والشرعية الدولية فقديماً قتلت الملايين من السكان الأصليين لأمريكا .حسب تقدير البروفيسور الفرنسي "تزفتيان تودوروف"في كتابه الشهير "اكتشاف أمريكا" يبلغ عددهم ثمانين مليون نسمه.وقتلت ملايين الأفارقة ( العبيد ) . حسب تقدير المفكر الفرنسي " روجيه جارودي " يبلغ عددهم مأئة مليون نسمه. واستهدفت القنبلة الذرية المستشفى العام في "هيروشيما" ومن هناك صهرت عشرات الآلاف وأحرقت عشرات أخرى وشوهت أضعافهم !
وحديثاً اعتمدت الحكومة الأمريكية سياسة الإبادة بالقتل العمد للشعب العراقي وفي حادث واحد فقط (ملجأ العامرية ) كان عدد الضحايا وهم مدنيون نصف ضحايا هجمات 11 أيلول تقريباً فصهر ألف وخمسمائة امرأة وطفل في جحيم أرضي لا نظير له من قبل. لكن الحرب الأمريكية العادلة والنظيفة لم تكتف بذلك بل قتلت مليون "جنرال" وهو لا يـزال في رحم أمه ، ومليونا آخر بعد ولادتهم . لقد قال "جيف سيمونز" في كتابه عن هذه المأساة (( أعرف مراقبين غربيين أصيبوا بالكآبة والانهيار العصبي بسبب ما شاهدوه من التعذيب الأمريكي لأطفال العراق ))
ناهيك عما أعقبه الحصار الجائر المتعنت بكل نواحي الحياة ،و عما لحق البيئة من تلوث لا تظهر آثاره إلا بعد سنين ، ولا تنقطع إلا بعد مئات أو ألوف السنين نتيجة إسقاط مئات الأطنان من اليورانيوم الناضب وغيره من الأسلحة المحرمة دولياً . إنها حرب إبادة وحشية لا نهاية لها ، ولا نظير لها من قبل . كل ذلك نصرةً لشعب الله المختار وزعمائه من "رجال السلام " أمثال الجنرال " شارون " وتقف أمريكا وحدها مع المجازر الإسرائيلية الوحشية التي تعرض لها الفلسطينيون ويتعرضون ضاربة بكل القيم والأخلاق والقرارات الدولية والأعراف الدبلوماسية عرض الحائط . أمر شائن فاضح لا يستطيع إنسان ذو ضمير أن يسكت عنه أو يتجاهله . يضرب المتوحشون الصهاينة بآلة الحرب الأمريكية المتطورة كل شيء : الرجال ، النساء ، الأطفال ، البيوت، المزارع ، ويمنعون الصحفيين وعمال الإغاثة من مجرد الدخول
ويستهدف القصف على كابل مخازن الصليب الأحمر الإغاثية ليحول الغذاء والدواء إلى رماد يتطاير أمام أعين الملايين من البائسين! وتفتك الآلة الأمريكية بأسر كاملة في تجمعات عرس وغيرها لتدعي أن ذلك كان بمحض الخطأ فعلى أي شيء يدل تكرار الخطأ في عالم القيم!
وفي مهزلة الحرب على الإرهاب، انتهكت الحكومة الأمريكية كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية – فضلا عن الشرائع الإلهية – في كل ما يتصل بهذه الحرب ، فالحرب بدون بينة ، وبدون تفويض من الأمم المتحدة ، ويجيء جورج بوش الابن، وحليفه توني بلير ليرتكبا جرائم في حق الإنسانية، ويمارسا التطهير العرقي في أبشع أشكاله ويقدما على غزو غير قانوني ولا أخلاقي، قائم على مجرد أكاذيب ، ويتسببا في تمزيقه العراق وقتل مليون ونصف مليون من أبنائه وتشريد خمسة ملايين آخرين، أي ضعف مشردي دارفور مرتين ، مع استخدام أسلحة فتاكة محرمة لم يسمع عنها الناس من قبل ، واستهداف المساجد والمراكز الإغاثة والإعلامية ، والإبادة الوحشية للمدنيين بأدنى اشتباه وبدون اشتباه ، وقتل المستسلمين ، وانتهاك حقوق أسرى الحرب ، واستصدار تشريعات خاصة مطابقة لهوى الإدارة ، وفرض حكومة يرفضها الشعب .
ألم تكن بعض ما في القائمة السابقة من الجرائم كافية لكي يتقدم أوكامبو بطلب القبض على (جورج بوش وبلير وشارون ورامسفيلد وغيرهم من مجرمين) وتقديمهم إلى المحاكمة ولكن هذا ما وصل إليه الكفر من عنجهية واستكبار وكفر بالله الواحد القهار، ولما آل إليه حال المسلمين اليوم من ذلة وفرقة واختلاف.
لقد كان صراع دارفور في أصله صداما بين القبائل والعشائر المقيمة والمهاجرة حتى تدخلت الأهواء السياسية فوظفت الصراع لمصلحة الضغط على الحكومة المركزية ، ليتدخل معه جيش رسمي يعمل ضد المتمردين وتؤيده قبائل غير متمردة ثم جاء التدخل الأجنبي ليغذي صراع القبائل من أجل إضعاف السلطة المركزية. وتتدخل قوى إقليمية لأسباب عديدة، فتدعم هذا الطرف المتمرد ضد آخر، أو تدعم المتمردين ضد السلطة.
إن تجاوز كل المرارات السابقة يكمن في ضرورة تشكيل آلية تنبع من الداخل السوداني لإجراء محاسبات على التجاوزات التي تمت بدارفور والاعتراف بها لأنصاف المظلوم من الظالم
وإنّ على المسلمين من أهل القبلة في السودان أن يعتصموا بحبل الله ويتحدوا ، لأن الخطر الآن يتهدد الجميع وإن السطوة "الأمريصهونية " هي الخطر الذي يهدد الأمة ودينها وهويتها، وإن مما تقتضيه السياسة الشرعية تحديد العدو المباشر، الأكثر خطورة على الإسلام والمسلمين، والتي تكون مواجهته أكثر إلحاحاً من غيره .. والحذر من أي تحالف لإحداث فوضى عارمة تجعل من وصف الدولة بالمنهارة والفاشلة حقيقة وواقعاً، ومن عجب أن يرفع بعضهم من أبناء السودان عقيرته بتأييد توصية أوكامبو ،فهدا إذا لم يسعه الإسلام بعقيدته ولاء وبراء ،فلتسعه أخلاق أعرابي كالمقنّعِ الكنديِّ حين يصف حالَه مع قومه:
وإن الذي بيني وبين بني أبي … وبين بني عمِّي لَمُختلفٌ جِدّا
إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم … قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا
وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهُمْ … وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
ولا أَحْمِل الحقدَ القديمَ عليهمُ … وليس رئيسُ القومِ مَنْ يَحْمِلُ الحقدا
وأعطيهمُ مالي إذا كنت واجدًا … وإن قلّ مالي لم أكَلّفْهمُ رِفْدا
وأخيراً .. إنّ ما يحصل اليوم من الأحداث والمآسي، إنما هو إرهاصات مبشرة لنهضتها وصحوتها من غفلتها، فالأمم لا تظهر ولا تستيقظ إلا عند المصائب ، ولا يصهرها ويبرزها إلا الشدائد، فمن رحم المآسي تولد العزائم، وتلك هي السنن لا تتبدل ولا تتغير(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) والظلام مهما أحلولك وادلهم فإن وراء الأفق نوراً، وشدة ظلمة الليل دليل على قرب انبلاج الفجر
ونحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، والقوة الإيمانية هي السبب الأساس الذي عز به المسلمون وسادوا.ولن يجمع شمل الأمة ويلملم فرقتها، ويعيدها إلى سالف مجدها ، إلا بربط الشعب بالتوحيد،وتعريفهم بالله سبحانه وإلوهيته وقد عقل الإمام مالك رحمه الله دلك ووعاه، فأشار إلى أنه لا قيام للأمة ولا نهضة لها،إلا بالإسلام فقال :)) لن يصلح آخر هده الأمة إلا بما صلح به أولها )) ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178))آل عمران .وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.