د. محمد عبد الكريم الشيخ
يقول الله تعالى: ((نَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ،ق)) ، وفي مقابل هؤلاء يقول عن آخرين: ((أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)، الفرقان))إن الإنصات فضيلة لا يتحلى بها إلا الحلماء، والحكماء، والفضلاء؛ فضيلة الإنصات غير حاسة السمع، فالإنصات أرفع درجة من مجرد السماع، فكل الناس يسمعون، وقليل منهم ينصتون، فالمنصت هو الذي يتأمل في الكلام ويتدبره ويتجاوب مع محدثه ويتعاطى مع آرائه وأفكاره، وما جعل الله لنا أذنين ولسانا واحدا إلا لنستمع، ولنحسن الإنصات، تلك هي أولى الأمور التي ينبغي أن يتحلى بها أي مسؤول أو أي قائد أو حاكم، بل إن الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها القائد أو الحاكم في تلمس ما تريده الرعية أن يحسن الإنصات إليهم، أما حين لا يكون كذلك، حين يأبى أن ينصت وأن يستمع يتحول إلى طاغية مستبد، إلى صنم لا يسمع ولا يرى، إلى حجر لا يكاد يحس ولا يشعر، تنقرض عنده الحاسة ولا يلتفت إلى المتحدثين أبدا.
إننا اليوم ونحن نعيش أحداث المسلمين من حولنا نرى حالة الطرش أو حالة عدم الاستماع أو الإنصات لمطالب الشعوب، بل التجاهل لكل ما تعانيه هذه الشعوب، بل الانعزال الذي فيه هؤلاء وإذا طالبت الشعوب بما لهم من حقوق فإنهم ينظرون إليهم وكأنهم في نعمة سابغة هم سببها، وهم الذين جاؤوا بها، فبماذا يطالبون؟ ولماذا يحتجون ويتظاهرون؟ والخدمات متوافرة وبدرجة راقية، وهكذا يعيش هؤلاء الطغاة الجبابرة في غيبوبة عما تعانيه الأمة، همهم ألقابهم وما يخلع عليهم من الشارات، همهم أن يلقبوا بألقاب الزعامة، فهذا زعيم الأمة العربية، وذاك ملك ملوك أفريقيا، وثالث عميد للحكام العرب، ورابع زعيم للوحدة القطرية، وخامس أمير المؤمنين، إلى آخر قائمة الألقاب الطويلة.
ألقاب ممكلة في غير موضعها ***** كالهر تحكي انتفاخا صولة الأسد.
هؤلاء الطغاة جميعا كانت ردة أفعالهم تجاه مطالب شعوبهم واحدة لا تكاد تختلف، وكأنهم أخذوا ألفاظهم من أديم واحد، ومن منبع واحد، كأنهم جلسوا تلاميذ نجباء أمام أبيهم فرعون، الذي قال من قبلُ: ((ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)) ومن ثم نجد في الإجابات عن مطالب الشعوب عجبا؛ ونبدأ بالطاغية الذي حير الناس في مواقفه وما يحدثه من آلام وجراحات في شعبه، لدرجة أنه ضربهم بكل سلاح، حتى بسلاح الطيران، ذلك الشعب البطل الأصيل العريق شعب ليبيا، الذي كافح وجاهد وقاوم كل ألوان الاستعمار، الذي نازل الأسبان، ثم الطليان، والذي قاتلهم فأبلى بلاء حسنا، شعب لم تلوثه مكايد أو ألاعيب المتلونين، هذا الشعب صبر طويلا على قيادة تافهة سخيفة غريبة، أقرب ما تكون إلى الهوس منها إلى العقل والموضوعية، هذه القيادة التي جعلت من هذا الشعب محروما من المدنية الحديثة، في الوقت الذي بعثر فيه القذافي الملايين المملينة من الدولارات على دول أخرى، وعلى عصابات، فلا يسمع عن عصابة أو ثورة إلا وأغدق عليهم من الألوية الحمراء، من الجيش الأيرلندي، إلى ثوار كوبا، إلى كل نار توقد في كل مكان، يصب عليها من دولارات ليبيا ومن بترول ليبيا، وينفق على دول إفريقية ويغدق عليها، ليشتري تاجا ويضعه على رأسه، ويقدم على مغامرات في تفجيرات هنا وهناك، يدفع ثمنها بعد ذلك بالمليارات، في وقت يعاني فيه 35% من شعبه من الحرمان من الخدمات الصحية اللازمة، ويعاني 43% من شعبه من الحرمان من التعليم اللائق، ولو كان شعب ليبيا شعبا فقيرا في موارده وإمكاناته لكان ذلك أمرا منطقيا، ولكنه شعب يعيش على ثروة عظيمة حبى الله تعالى بها ليبيا التي تحتل الترتيب الثالث عالميا في إنتاج البترول وتصديره، وفي الوقت الذي سمح فيه لأبنائه أن يُكَوِّنُوا كتائب خاصةً، مسلحةً غايةَ التسليح، حيث أنفق خميس ولده عشرات الملايين على كتائبه واستجلاب المرتزقة من الأفارقة والأوربيين، في حين أنه قتَّر على القوات المسلحة حتى أصبح الجيش أضعف من أصغر كتيبة خاصة من كتائبه التي عليها أولاده وعائلته وأسرته.
إن هذا الطاغية تعامل مع مطالب الشعب بطريقة الأصم الأبكم الذي لا يسمع، ولا يرى، ولا يدري ما يجري، لذلك حين خاطبهم ، خاطبهم خطاب المذعور وهو يقول لهم: من أنتم؟ استخفافا بهم، بل ويصفهم بأرذل الصفات، لا يحترم شعبه، وإنما يصفهم بكل الصفات القبيحة، يصفهم بأنهم حثالة، وإرهابييون، وعملاء، وأتباع الزرقاوي، بل ويتدنى في الوصف حتى يصفهم بالجرذان والقطط الضالة التي تتسكع عبر الطرقات والسكك، وليس له حوار ولا تعامل مع هؤلاء الإرهابيين، إلا بالكتاب الأخضر، وما نص عليه كتابه الأسود، من السحل، والقتل، والإعدام، والقتال، حتى آخر قطرةٍ لا من دمه ولكن من دم شعبه، من أجل أن يشبع زعامته.
بعد أكثر من أربعين يومًا على ثورة أسماها بثورة الجرذان، أصبح هؤلاء الثوار الأبطال هم الذين يسيطرون على كثير من مدن الشرق على الأقل، والمرتزقة الذين جاء بهم القذافي وجلبهم من هنا وهناك، ألقوا السلاح في مواطن شتى؛ إنّ هذا الذي حدث في ليبيا يدل على مدى فداحة الأمر حين يعتلي أمر المسلمين من لاخلاق له، وتكون سيرته سيرة فرعون مع شعبه، والليبيون يعيشون اليوم مأساة حقيقية في مدنهم، يعيشون القتل والقصف بكل ألوان الأسلحة، يعيشون نقصا في الدواء، ونقصا في الغذاء، يعيشون مأساة اطلع عليها من زارهم وسار اليهم ووقف على أحوالهم حتى من الأطباء الخيرين من بلادنا هنا من السودان الذين ذهبوا في القافلة التي دخلت الى ليبا ووصلت الى مدن ليبيا في شرق ليبيا يحكون المآسي والآلام..