د. محمد بن عبد الكريم
قال ابن القيم(1) "أنه سبحانه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عبادُه منه ظلما، فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر نبيٌ بخلافه أصلا".
فمن أسماء الله تعالى الحسنى العدل، فهو سبحانه متصف بالعدل المطلق، فهو عادل في أحكامه الدنيوية والأخروية، وهو عادل في حكمه الشرعي والقدري، قال ابن القيم شارحا لاسم العدل: "ذو العدل على حذف المضاف… وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكرَّرا منه، كقولهم: رجلٌ صوْمٌ وعدْلٌ وزور وبابُه".
قال ابن القيم (3): "قوله صلى الله عليه وسلم (2): ((ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك)) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد، أحدهما: إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضيه فيه لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها، والثاني: أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته".
2. إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله:
فهو سبحانه إن عاقب فبعدله، وإن أثاب فبمحض فضله وجوده وكرمه، قال ابن القيم: (4)"فلا تناقضُ حكمتُه رحمتَه، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة".
والله تعالى لا يعذب الكفار يوم القيامة إلا بعد إقرارهم على أنفسهم، وشهادة الفطرة والوحي عليهم، قال ابن القيم(5): "إن الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب، فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما، إحداهما: ما فطره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم، والثانية: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله، فيقوم عليه شاهد الفطرة والشِّرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا، كما قال تعالى: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام:120] فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرارٍ وشاهدين، وهذا غاية العدل".
ومن كمال عدل الله تعالى أنه لا يظلم مثقال ذرة يوم القيامة، فهو سبحانه يحكم بين عباده ويعطي لكل ذي حق حقه بفضله وجوده ورحمته وكرمه، حقا أوجبه سبحانه على نفسه، ويعاقب كمن شاء بعدله، ولا يظلم أحدا من خلقه، فهو يعدل بينهم على تباعد أزمنتهم وأمكنتهم، وتنوع أوضاعهم وحالاتهم، واختلاف شرائعهم ومللهم، وتباين مستوياتهم وأعذارهم، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه.
ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية:
1–أعظم العدل:
وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له ، وهو الحق الذي قامت به السموات والأرض ، ومن أجله خلق الله الخلق ، قال الله عز وجل:((ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) [الدخان:38 – 39]. وقال تعالى:((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ)) [الأحقاف:3].
ويقابل هذا القسم من العدل: أعظم الظلم ، وهو الإشراك بالله عز وجل ، والكفر به ، حيث قال الله عز وجل: ((وإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13]. ومثله قول الله تعالى:((الَذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام:82]. وقوله تعالى: ((والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [سورة البقرة:254].
2 -العدل مع النفس:
ويدخل في هذا العدل: قيامه بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها ، وذلك فيما بين العبد وربه من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من غير إفراط ولا تفريط ، ويقابل هذا القسم من العدل: ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما حرم الله عز وجل – مما هو دون الشرك – ، أو تركه ما أمر الله عز وجل مما يتعلق به نفسه ، ولا يتعدى إلى غيره ، وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم ؛ حيث إن صاحبه قد يتوب منه فيتوب الله عليه ، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة ، بينما الظلم العظيم – وهو الشرك بالله – لو مات عليه فلن يغفر الله له ، كما قال تعالى: ((إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ)) [النساء:48]. وهو أخف من ظلم العباد ؛ لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها واستباحتهم منها.
3-العدل مع العباد:
وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا البحث ، والقسمان السابقان ليس هنا موضع تفصيلهما ، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على بعض ، سواء في القول أو الفعل، وسنذكر في هذا القسم – إن شاء الله – بعض مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة التي تنافي العدل والإنصاف ، مع ذكر المنهج الشرعيّ الذي ينبغي سلوكه حيال هذه ا لمواقف.
ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين حول (منزلة الخلق). يقول – رحمه الله -:
(وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان ، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر ، العفة ، الشجاعة، العدل.
فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل ، وتحمله على الحياء ، وهو رأس كل خير ، وتمنعه من: الفحشاء ، والبخل ، والكذب ، والغيبة ، والنميمة.
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى ، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته ، وتحمله على كظم الغيظ والحلم. فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ، ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش. كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب " ، وهو حقيقة الشجاعة ، وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه ، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط ، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة ، وعلى خلق الشجاعة ، الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة ، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل ، والظلم ، والشهوة ، والغضب.
فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح ، والقبيح في صورة الحسن. والكمال نقصاً والنقص كمالاً.
والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه ، فيغضب في موضع الرضى ، ويرضى في موضع الغضب ، ويحجم في موضع الإقدام ، ويقدم في موضع الإحجام ، ويلين في موضع الشدة ، ويشتد في موضع اللين ، ويتواضع في موضع العزة ، ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة. تحمله على الحرص والشح والبخل ، وعدم العفة والنَّهمة والجشع ، والذل والدناءات كلها.
والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد ، والعدوان والسَفَه.
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة. وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف ، وإفراطها في القوة فيتولد في إفراطها في الضعف: المهانة والبخل ، والخسة واللؤم ، والذل والحرص ، والشح وسفساف الأمور والأخلاق.
ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة ، والفحش والطيش.
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غيَّة كثيرون. فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً. فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر ، وأذلهم إذا قهر ، ظالم عنوف جبار ، فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القويّ ، جريء على الضعيف. فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضاً ، كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضاً.
وكل خلق محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان ، كالجود: الذي يكتنفه خلقا: البخل والتبذير. التواضع:الذي يكتنفه خلقا: الذل والمهانة والكبر والعلو
أنه سبب لقيام الدول والمجتمعات وسرّ استقرار حالها، قال ابن تيمية: "أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل (6): إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
______________________