د. محمد عبد الكريم الشيخ
الابتعاد عن النجوى:
إن مما يفرضه العدل على المسلم أن يبتعد عن النجوى التي من شأنها إحزان المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم ، وهى عامل مهم في ترويج الشائعات. يقول الله عز وجل: ((إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَذِينَ آمنوا ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ شَيْئاً إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ)) [المجادلة 10] والنجوى لا تأتي بخير إلا في أحوال ثلاثة ذكرها الله عز وجل في سورة النساء حيث قال سبحانه: ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ))؟ وما سوى ذلك فهو شر وتفريق بين المؤمنين.
والناس إزاء الشائعات التي تثار حول شخص أو هيئة ما ، ينقسمون ، حسب تعاملهم مع هذه الشائعات إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يقبل هذه الشائعات على علاتها ، ويكتمها في نفسه ، ويرتب عليها أموراً ومواقف من غير تثبت ولا تبين.
الصنف الثاني: من يقوم بالتناجي بها ، بعيداً عن صاحب الشأن فيها ، ومعلوم ما في ذلك من الوقوع في الغيبة ، وإذكاء الشائعة وانتشارها.
الصنف الثالث: من يسارع إلى التثبت من الشائعة ممن أثيرت حوله مباشرة ، ولا يذهب مع الظنون والوساوس النفسية أو المناجاة التي تحزن المسلم.
ولو حاكمنا معاملة هذه الأصناف الثلاثة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لاتضح لنا أن الصنف الأول والثاني مخالفون للشرع ، وأنّ طريقة الصنف الثالث هي الطريقة الشرعية التي تقوم على التثبت وحب الخير للمسلمين ورعاية حقوقهم وأعراضهم والتماس الأعذار لهم. وهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في عتاب المسلم لأخيه المسلم ، إذا وصله من أخيه ما يسوءه.
سلامة القلب:
يقول الله عز وجل: ((يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) [الشعراء 88 – 89]، وقد ورد في تفسير ابن كثير حول هذه الآية أن القلب السليم هو السالم من الشرك ، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما ، وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن.ا هـ (12).
وعلق القرطبي في تفسيره 15 / 91 عن عوف الأعرابي قال: سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم؟ قال: الناصح لله عز وجل في خلقه. ا هـ.
وروى البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم) . وعلق ابن حجر رحمه الله بقوله: ورواه ابن حبان في صحيحه وزاد: (فكان جرير إذا اشترى أو باع يقول لصاحبه: اعلم أنّ ما أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر).
من ذلك يتبين أثر سلامة القلب في العدل مع الناس ، حيث أن صاحب هذا القلب مطمئن البال هادئ النفس يحب الخير للناس ويبذل النصح لهم وهذه هي صفات أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين مدحهم الله عز وجل بقوله:((والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) [الفتح 29].ومثل هذا يلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير ، لا مجرد الرد والخصومة والجدال ، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه ، حيث إنّ الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف فضلاً عن الأصول لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
وخلاصة القول في (سلامة القلب) أنه أصل للوازم السابقة كلها ، فبسلامة القلب ، والنصح لله عز وجل في الخلق ، يتم العدل به في جميع الأمور السابقة ، وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه ، ولا ينتقم لنفسه. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهداً فيما يصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه ، نكتفي بمشهد واحد حيث يقول -رحمه الله-:
(المشهد السادس: مشهد "السلامة وبرد القلب" وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه ، وذاق حلاوته. وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره ، وشفاء نفسه. بل يفرغ قلبه من ذلك. ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له. وألذ وأطيب ، وأعون على مصالحه ، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده ، وخير له منه. يكون بذلك مغبوناً والرشيد لا يرضى بذلك. ويرى أنه من تصرفات السفيه. فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس ، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام) ا هـ .
الصدق والوضوح:
إن هذا اللازم يعتبر أيضاً سبباً من أسباب حصول العدل فهو نتيجة وسبب في نفس الوقت ، لأن الصدق يؤدي إلى العدل ، والعدل يستلزم الصدق والوضوح في الأقوال والأفعال. وأردت من إيراد هذا اللازم الإشارة إلى ما يقع في زماننا هذا من الأساليب الغامضة في تعامل المسلمين بعضهم مع بعض ، وعدم الوضوح في المقاصد والوسائل ، وهذا كله يؤدي -شئنا أم أبينا- إلى مجانبة الصدق والوقوع في الكذب الصريح.
وهذا الغموض وعدم الوضوح وسوء الظن بالمسلمين من الأمراض الخطيرة التي تؤدى إلى إذكاء العداوة والفرقة بين المسلمين ، وعدم اطمئنان بعضهم إلى بعض في الوقت الذي يفترض الصدق في المسلم ، وأن لا يُساء الظن به ، أو أنّ مراده من كلامه كذا وكذا.. الخ. ولقد مرَّ بنا في الطريقة التي عالج بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطأ حاطب -رضي الله عنه- ، كيف أنه -صلى الله عليه وسلم- عندما سمع من حاطب عذره قال: صدق لا تقولوا إلا خيراً. ولم يذهب إلى سوء الظن به ، واتهامه بالكذب ، أو باللف والدوران كما يقولون. وإن الصدق منجاة وخير كله في الدنيا والآخرة. والصدق في الحديث أمر لازم لاطمئنان القلوب بعضها ببعض ، وطريق إلى التآلف وحصول البركة ، فلقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن حكيم بن حزام -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: »البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما«.
فإذا كان الصدق سبباً لحصول البركة للمتبايعين على سلعة ، والكذب والكتمان يمحق بركة بيعهما ، أقول: إذا كان الأمر كذلك في أمر من أمور الدنيا فكيف يكون الحال إذا كان الصدق أو الكذب على أمر من أمور الآخرة لأن الدعوة عبادة يراد بها الدار الآخرة ، فلأن يصدق هذا الحديث على ذلك من باب أولى والتجربة أكبر شاهد ، حيث أنّ الصدق والوضوح بين أصحاب الدعوة وحسن الظن فيما بينهم ينتج عنه نتائج طيبة ، ويبارك الله عز وجل في جهودهم وتعاونهم ، والعكس بالعكس فإن الكذب والأساليب الملتوية لم ينتج عنها إلا الفرقة وسوء الظن وتشتيت الشمل. وهنا يجب إيضاح أن لا تعارض بين وجود الصدق والوضوح وبين الكتمان فإن كان لابد متحدثاً فليكن صادقاً وواضحاً وإلا فليصمت. ثم إننا نقصد بكل ما سبق أهمية هذا اللازم بين المسلمين بعضهم مع بعض ، أما الكافرون والمنافقون فإن التعامل معهم يجب أن يكون بحذر ، وتقدير ما ينبغي أن يقال ، وأن لا يطلعوا على أسرار المسلمين بحجة الصدق.