الشيخ د. محمد بن عبد الكريم الشيخ
قال تعالى{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } "سورة يوسف:108" .
البصيرة على وزن فعيلة بمعنى مفعلة مأخوذة من مادّة (ب ص ر) الّتي تدلّ على العلم بالشّيء،
وهذا معنى قول العارفين «البصيرة» تحقّق الانتفاع بالشّيء والتّضرّر به، والبصيرة ما خلّصك من الحيرة إمّا بإيمان أو بعيان .
عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر قوما يكونون في أمّته، يخرجون في فرقة من النّاس، سيماهم التّحالق أي علامتهم حلق الرءوسقال: «هم شرّ الخلق أو من أشرّ الخلق- يقتلهم أدنى الطّائفتين إلى الحقّ» قال: فضرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لهم مثلا: أو قال قولا: «الرّجل يرمي الرّميّة- أو قال الغرض- فينظر في النّصل (السهم والرمح ونحوهما). فلا يرى بصيرة، وينظر في النّضيّ السهم بلا نصل ولا ريش فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق الوتر من السهم فلا يرى بصيرة»)* قال: قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق
قال ابن كثير رحمه الله : " . . . أن هذه سبيله ، أي : سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقه ومسلكه وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ، ويقين وبرهان ، هو وكل من اتبعه ، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي " .
وقد عرّف العلماء البصيرة ، فقال البغوي رحمه الله : " والبصيرة : هي المعرفة التي تُميّز بها بين الحق والباطل " .
وقال القرطبي رحمه الله : { عَلَى بَصِيرَةٍ } أي : على يقين وحق " .
وقال الراغب رحمه الله : { عَلَى بَصِيرَةٍ } أي : على معرفة وتحقيق " .
والبصيرة هي : العلم الشرعي المؤصل المبني على الدليل من الوحي المنزل من عند الله تعالى ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والفهم لمراد الله تعالى فيما أنزله ، أي : على علم ويقين وبرهان شرعي وعقلي فيما يدعو إلى فعله ، وفيما يدعو إلى تركه ، وفي أسلوب الدعوة ، وفي حال المدعوين ، وسلوك الطريق الصحيح في ذلك .
وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم ، كما قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ، وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } ، وأخبر أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {
والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر ، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أعلى درجات العلماء ، قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } , فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك ، ويقين ، وبرهان ، وعلم ، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على بصيرة ويقين ، وبرهان عقلي وشرعي ، والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن يدعو الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه ؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبًا وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به ، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرمًا وهو في دين اللّه غير محرم ، فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم .
الأمر الثاني : أن يكون على بصيرة في حال المدعو ، فلا بد من معرفة حال المدعو : الدينية ، والاجتماعية ، والاعتقادية ، والنفسية ، والعلمية ، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه .