المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

التربية بالأمل

التربية بالأمل

في سيرة النبي المصطفى  صلى الله عليه وسلم مواقف تربوية عظيمة جداً نحتاج أن ننهل منها عذب المعاني وسامي القيم
ولعلي في هذه الأسطر ألقي الضوء على بعض المواقف التربوية المهمة التي ينبغي أن نربي عليها أنفسنا ومن تحتنا من الأجيال القادمة والتي يرجى لها أن تكون جيل الهدى والصلاح
وسأجتهد في أن استخرج شيئاً من المعاني والقيم التي يفتقر إليها أبناء هذا الجيل
وأسال الله أن يلهمني السداد في القول والإصابة في العمل وأن  يرزقني الإخلاص فيهما وحسن العمل بما يقتضيه علمي اليسير
وهذه الأسطر خواطر رقمتها على متن طائرة مصرية أقلتني من استانبول إلى القاهرة يوم الأحد 20/صفر/1430هـ الموافق 15/2/2009م وأنا في طريقي إلى الخرطوم بعد مؤتمر غزة النصر الذي عقدته الحملة العالمية لمقاومة العدوان في مدينة استانبول . والذي دفعني لنثر هذه الخواطر كلمات سمعتها من بعض من شهد المؤتمر وقدم فيه ورقةً أحسب أنّه جانب فيها منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التفاؤل والأمل

الخاطرة الأولى:
الأمل يبعث على العمل: 
 

حينما يضع الإنسان نصب عينيه هدفاً ويسعى نحوه لابد أن يحدوه الأمل بأنه سوف يصل إلى هدفه وكلما مضى الزمن نما هذا الأمل  فإذا ما أدرك أنه يسير نحو هدفه وفي ذات الطريق الصحيح ازداد حماسةً وحركةً هذه  المعاني وما دار في فلكها يشكل منهجاً تربوياً رصيناً حكيماً انتهجه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وسار عليه أصحابه من بعده جيلاُ إثر جيل
فأولاً :وضع لهم أهدافاً واضحة المعالم معقولة ً ممكنةً وفي  مقدورهم ووسعهم ليست أهدافاً مستحيلة وليست خيالاً ولا معجزةً
ثانياً: أهداف سامية فقد نزل بها وحي السماء
1/ الاستخلاف في الأرض
2/ التمكين للدين
3/ التحول من الخوف إلى الأمن ومن القوة إلى الضعف ومن الذل إلى العزة
إنّها آية النور الخامسة والخمسون
والتي يقول فيها الله عزوجل (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )( )
إنها أهداف عليا أهداف سامية كبيرة ولابد قبل السعي إلى تحقيقها من بناء النفوس الكبيرة النفوس التي عندها الإمكانات العالية علو تلك الأهداف والسامية سمو تلك الأهداف
لذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالتربية القرآنية المشتملة على جملة من القيم والمعاني السامية
وهكذا فإنّ أول خطوة يجب أن يخطوها أي قائد ومربي
أن يربي جماعته ومجتمعه على قدر الأهداف التي وضعت لهم
فالاستخلاف في الارض والتمكين للدين ونيل العزة لا يمكن تحقيقها إذا كانت النفوس في الحضيض 
ولذلك نجد أن القرآن الكريم رسم منهاج التربية للنبي صلى الله عليه وسلم 
يقول تعالى (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ 000)( )
فهذا أول معلم من معالم التربية
أن يكون المربي القائد ربانياً , والربانية تقتضي أن يستمد المربي مادة التربية ومنهج التربية وأسلوب التربية من الرب جل جلاله وتقدست اسماؤه  فمتى توفر هذا المعلم اتضحت الرؤية للمربي ومن تحته وهذا هو المعلم الثاني وضوح الرؤية للجميع:
ولا أوضح وأبين  وأيسر من أهداف الوحي المنزل من لدن حكيم خبير
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)( )
والقرآن الكريم حدد الأهداف التي يجب أن يسعى إليها من اتصف بوصف الإيمان والتي مضت الإشارة إليها في آية النور
زيادةً على ذلك فقد صاغ القرآن الكريم تلك الأهداف بأكثر من أسلوب حتى تتضح الرؤية للمؤمنين فمن ذلكم الآية التي تكررت في مواطن ثلاثةً من كتاب الله في التوبة, الفتح , الصف وهي قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}( )
إذن الهدف هو إظهار الدين على سائر الأديان وهي ذات الأهداف الثلاثة
التفصيلية التي في سورة النور فالدين لايظهر على الدين كله إلا إذا استخلف أهله ,والدين لايظهر على الدين كله إلا إذا تمكنت أصوله في الارض ,والدين لايظهر على الدين كله إلا إذا كان أهله في عزة وأمان فمحال أن يظهر الدين أو يظهره ذليل خائف  من هنا ندرك أهمية التربية بالأهداف أو على الأهداف فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي صحابته ليكونوا المستخلفين في الأرض بل ويؤمّلهم أن يكونوا كذلك
وتتواصل مسيرة التربية بالأمل والطموح واستشراف المستقبل المشرق
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ( ).
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}( ) ، وقوله: {نَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ, إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
ومنهج  التربية بالأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مادته غزيرة وثرّة
فهو صلى الله عليه وسلم لا يحيد عنها حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف  ففي هجرته صلى الله عليه وسلم يطارده سراقة بن مالك ليسلمه إلى قريش فيقتلوه فيواجهه بسلاح الأمل فيعرض على سراقة الاسلام ويعده بسواري كسرى بن هرمز وهو المطارد المطرود من بلده وقومه. فهو يبشر سراقة بالإنجاز المستقبلي المرتقب وهو انتشار الإسلام في ربوع العالم، وليس هذا فحسب؛ بل وسيتم هذا الإنجاز في حياة سراقة، ولاشك أن هذا طموح ما بعده طموح.
 لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حريصاً أن يظل طموح أصحابه وجنده وأتباعه في القمة دائماً،
يقول ابن الأثير :
(وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ديةً، فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب ! فقال: (ولاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا) ، ودعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان. فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلص، فعادي تبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي، فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب. فدعا له فخلص وقرب من النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله خذ سهماً من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك.فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى ؟ قال: كسرى بن هرمز ؟ قال: نعم. فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال: كفيتم ما ها هنا، ولا يلقى أحداً إلا رده.)( )
وعندما يدخل صلى الله عليه وسلم الغار مع الصديق وتتعقبه قريش فيأتون الغار ومعهم القافة يقتصون الأثر ويبحثون، فصاروا يدورن على الغار، وصار عند أبي بكر رضي الله عنه شيء من الجزع والخوف، فذهب يقول: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لأبصرنا، فيقول له صلى الله عليه وسلم مقالته : يبعث الأمل في نفس صاحبه ويطرد الخوف واليأس 
( لاتحزن إنّ الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! )،إنّها التربية بالأمل
ويسطر القرآن هذه الواقعة أنموذجاً لتك التربية  في أحلك الظروف
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} .
وهكذا كل من ورث من النّبي صلى الله عليه وسلم الدعوة والجهاد عليه أن يعيش الأمل ( إن الله معنا ) ولكن يشترط أن يكون أولا مع الله
أمّا في غزوة الأحزاب فكانت التربية الجماعية وهنا وقفة فالتربية لابد أن تشمل الأفراد فتكون فرديةً في السراء والضراء كموقفه صلى الله عليه وسلم مع الصديق وتكون جماعية كما سيأتي ذكره
في غزوة الأحزاب يشتد الكرب ويتكالب الأعداء وينشق المنافقون من الداخل وكفانا في وصف تلك المرحلة التي مرّت بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ماجاء في سورة الأحزاب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}
وفي وسط هذا الجو يزيد النبي صلى الله عليه وسلم من جرعة التربية بالأمل
روى النسائي عن البراء بن عازب قال : لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحفر الخندق عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المعول فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة قال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا قال ثم ضرب أخرى وقال بسم الله وكسر ثلثا آخر وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن ثم ضرب ثالثة وقال بسم الله فقطع الحجر قال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء)( )
والصحابة يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي الذي لاينطق عن الهوى يقول مقالته وهو في أحلك الظروف وأشد المواقف فيعيشون الأمل ويجتهدون في العمل -وقد قسم رسول الله الخندقَ بين أصحابه لكل عشرةٍ اربعين ذراعا . وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع ( نحو أربعة كيلو مترات ) ، وعمقه من سبعة اذرع إلى عشرة ، وعرضهُ من تسعة أذرع الى ما فوقها . وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم ، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية ، حرة الوبرة )( )
ويتجدد عزم الأصحاب الأبرار الأطهار ويتقاسمون ويتنافسون في حفر الخندق وهم يقولون (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)
لكن المنافقون يقولون تثبيطاً بل منكراً من القول وزوراً ماوعدنا الله ورسوله إلا غروراً, وينسلخون من المعركة ويقولون إن بيوتنا عورة وماهي بعورة إن يريدون إلا فراراً
روى الإمام الزهري في المغازي
قال : (فلما اشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: "والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً، وأن يدفع الله عزوجل إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عزوجل".
وقال رجل ممن معه لأصحابه: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن ههنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط، والله لما يعدنا إلا غروراً، وقال آخرون ممن معه: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة، وقال آخرون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا)( )
ومع ذلك كله مع نشاط المنافقين وفتنتهم وتثبيطهم وخيانتهم وخذلانهم يواصل صلى الله عليه وسلم تربيته بالأمل
يعدهم  صلى الله عليه وسلم بالأمن وهم في شدة الخوف، ويبشرهم بكنوز الأمم وهم في عوز وجوع ومخمصة، ويذكر لهم فتح المدن الكبرى في وقته وهم محاصرون في المدينة، وبينه وبين المدن التي بشر بفتحها أميال وأميال إنه الإيمان بالله تعالى، والثقة به، وتصديق وعده، إنه ثبات لا تزعزعه المحن، ولا تميد به الفتن، بل تزده شدة وصلابة في الحق، وإصرارا على تبليغ دين الله تعالى، فثبت المؤمنون معه، وفرحوا بهذا الفأل وهذه البشارة {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } وأما المنافقون فقالوا ما قالوا، وخذلوا وأرجفوا، وذهبوا خاسئين مذمومين، وكذبوا وصدق الله ورسوله، وجاء الأمن بعد الخوف، والغنى بعد العوز، ودخل المسلمون مكة وطافوا بالبيت، ودحر أهل الشرك والوثنية، وانتهت غزوة الأحزاب ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال
وتسارعت عجلة الأيام, لكن ما فتحت الشام ولا فارس ولا اليمن ولم تجلب كنوز كسرى وقيصر, ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى لكن الأمل لم يزل حياً في نفوس أصحابه وولي الخلافة أبوبكر رضي الله عنه وبقي ماشاء الله له أن يبقى ثمّ مات ولم يتحقق الموعود وولي الخلافة عمر رضي الله عنه , وفتحت المدن التي بشر  صلى الله عليه وسلم بفتحها، وجلبت إلى المدينة كنوزها، ووضعت بين يدي عمر رضي الله عنه، أنطاع عليها الأموال العظيمة من ذهب وياقوت وزبرجد ولؤلؤ يتلألأ، فقال رضي الله عنه:أين سراقة بن جُعْشُم فأُتي به أشعرَ الذراعين دقيقَهما، فأعطاه عمر سواري كسرى، فقال: ألبسهما، ففعل فقال: قل: الله أكبر، قال: الله أكبر، قال: قل: الحمد لله الذي سلبهما من كسرى بنِ هرمز وألبسهما سراقةَ بن جُعْشُم أعرابيا من بني مُدْلج
  وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال :(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنّهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو ذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر .)( ) وقال (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها و إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها و إني أعطيت الكنزين الأحمر و الأبيض و إني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكوا بسنة عامة و لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و إن ربي عز و جل قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد و إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة و أن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و لو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يفني بعضا و إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين و إذا وضع في أمتي السيف لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة و لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان و إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي و أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي و لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )( )
وعن أبي قبيل قال : (كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل : أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية ؟ فدعا عبدالله بصندوق له حلق قال : فأخرج منه كتابا قال : فقال عبدالله : بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه و سلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي المدينتين تفتح أولا : أقسطنطينية( ) أو رومية( ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مدينة هرقل تفتح أولا . يعني : قسطنطينية .)( )
وهذا النص فيه إشارة لطيفة وهي أنّ الصحابة والتابعين كانوا يعيشون الأمل وأن يفتح الله عليهم رومية والقسطنطينية وهم علي يقين بذلك وجاء الوعد وفتحت القسطنطينية الفتح الأول على يد محمد الفاتح وبقي الفتح الثاني وبقيت رومية ووالله لتفتحن

الخاطرة الثانية:

وبناءً على ماسبق فالواجب علينا أن نبعث الأمل ونجتهد في العمل والثمرة وإن لم نقطفها فسيأتي الجيل الذي أعددناه وربيناه ليقطفها ويجنيها فرسول الله صلى الله عليه وسلم بذل الجهد نحو تحقيق الأهداف السامية من تعبيد الخلق لله ومن إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ولحق بالرفيق الأعلى ولم تكتحل عيناه بمفاتيح الشام وفارس ولا كنوز كسرى وقيصر التي وعد بها أصحابه وعاشوها آمالاً وما تحقق لهم ذلك إلا في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه كما أسلفنا ، وهنا درس كبير لابد أن يعيه المربون. أن يعملوا صادقين مخلصين ، ولا عليهم إن أدركوا النصر أو تحولوا عن هذه الدنيا ، فسيدركه غيرهم.
المهم هو أنهم شاركوا في تمهيد الطريق وتحديد الوجهة وتذليل الصعاب. فهم أدّوا الذي أراده الله منهم. ويرقبون ما أراده الله بهم في دنياهم وأخراهم
إننا حينما نهمل التربية بالأمل سيخرج جيل من المنهزمين وجيل من اليائسين .
فجيل المنهزمين هو ذلك الجيل الذي وقع في أسر حضارة العدو وانبهر بقوته المادية ، يئس من انتصار الإسلام وظهوره ، فذاب كما يذوب جبل الجليد ، تراه جبلاً ضخماً لكنه للأسف من جليد.
حقاً ما أشبه جيل المنهزمين بجبل الجليد.
لو تربى هذا الجيل على الأمل لاستسهل الصعاب واستصغر العدو وتعالى بالقيم واحتقر واردات ثقافة الآخر. وما زاغ منه البصر ، ولأيقن أن تقلب الآخر في البلاد متاع قليل.  إنها ثمرة التربية بالأمل.
(لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثمّ مأواهم جهنّم وبئس المهاد)
أمّا اليائسون فهم أولئك الذين حكموا على أنفسهم ومن حولهم بالهلاك
يئسوا فلا ينتظرون الفرج ولا يؤملونه ,ولا يسعون للخلاص بل لا يحاولونه
وهموا أن الخلاص في مفارقة الحياة فسعوا للموت يطلبونه , وليتهم ماتوا في سبيل أهدافهم فحققوها
 أو بموتهم فتحوا الطريق لغيرهم ومهدوها بل ماتوا وأوصدوا الأبواب من وراءهم أمام الأحياء
يئسوا إلى أن وصل بهم اليأس مرحلة الإغلاق  فما عادت لديهم قدرة على التفكير أو البحث عن وسيلة توصلهم لما يريدون
ومشتت العزمات ينفق عـــــــــمره حيران لاظفر ولا إخفاق
فلو ا عاشوا الأمل لأحسنوا العمل , وقمّة الأمل أن يتعلق الأفراد وتتعلق الجماعات برحمة الله ويسيحوا في رحاب الوحي الفسيح
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم } . .
يقول سيد قطب رحمه الله :
(في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى . وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعاً .
إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله . وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله . وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب الله . وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض وتشرع له طريقه إلى الله .
ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه ، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير .
ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح . ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ، وفي مشاعره؛ ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان ، وكيفما كان . ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حالة ، وفي كل مكان . ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!
وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة . وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد . وينام على الحرير -وقد أمسكت عنه فإذا هو شوك القتاد . ويعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر . ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر .
ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!
ولا ضيق مع رحمة الله . إنما الضيق في إمساكها دون سواه . لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك . ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء . فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة . ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!
هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب ، وتوصد جميع النوافذ ، وتسد جميع المسالك . . فلا عليك . فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء . . وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع . وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!
هذا الفيض يفتح ، ثم يضيق الرزق . ويضيق السكن . ويضيق العيش ، وتخشن الحياة ، ويشوك المضجع . . فلا عليك . فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة . وهذا الفيض يمسك . ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء . فلا جدوى . وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!
المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان . . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله . فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان .
يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة . ويمسك رحمته ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .
ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله . ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار!
ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويدخر السوء ليوم الحساب!
ويعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ، ومصدر طغيان وبغي بهما ، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار!
والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليل من المعرفة يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة .والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد .
في كل أمر وفي كل وضع ، وفي كل حال . . ولا يصعب القياس على هذه الأمثال!
ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك . ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة . ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة . وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة . والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها . وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . } ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال . وجدها إبراهيم عليه السلام في النار . ووجدها يوسف عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن . ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث . ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه . ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور . فقال بعضهم لبعض : { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته } ووحدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . . ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها . منقطعاً عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في رحمة ، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب .
ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . ومن ثم فلا مخافة من أحد . ولا رجاء في أحد . ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء . ولا خوف من فوت وسيلة ، ولا رجاء مع الوسيلة . إنما هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل . والأمر مباشرة إلى الله . . { وهو العزيز الحكيم } . . يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك .
{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } . .
وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه ، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام .
{ وما يمسك فلا مرسل له من بعده } .
فلا رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه . فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله .
أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟!
آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة؛ وتنشئ في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها . ذهبت أم جاءت . كبرت أم صغرت . جلت أم هانت . كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء!
صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات .
ولو تضافر عليه الإنس والجن . وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ، ولا يمسكونها حين يفتحها . . { وهو العزيز الحكيم } . .
وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام . الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ، تنشئ في الأرض ما شاء الله أن ينشئ من عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، ونظم وأوضاع . وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام . الفئة التي كانت قدراً من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات . ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن ، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها . . وكفى . . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن ، وتعيش في واقعها بها ، ولها . .
وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ، قادراً على أن ينشئ بآياته تلك أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض بإذن الله ما يشاء الله . . ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ، فتأخذها جداً ، وتتمثلها حقاً . حقاً تحسه ، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار .)( ) .