المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

كسر الروح القيادية لدى الأطفال

كسر الروح القيادية لدى الأطفال

الطفولة هي المرحلة التى تبدأ منها تكوين الشخصية، بل وتؤثر في رسم المستقبل، ومن أهمها زراعة الثقة بالنفس التى تُغرس في هذه السنوات المبكرة؛ فكم من طفل أفقده والده أو معلمه الثقة بالنفس.

فأصبح لا يثق بنفسه، فضلاً عن أن يثق به غيره، أو أن يثق في غيره، حتى كبر على ذلك (من شب على شيء شاب عليه)، لا يتحمل أدنى مسؤولية، ولا يشارك المجتمع بشئ، تجده خجولاً، يتوارى من القوم، حتى رأيه لا يكاد يبديه، يظل حبيس أنفاسه.

لذا يغفل الكثير منا عن فهم سيكلوجية التعامل مع الأطفال، فنتعامل معهم بشئ من القسوة، وننسى أو نتناسى ذكريات الطفولة، معاملة بعض  الكبار لنا، الأمر الذي انعكس بصورة أو أخرى على أنفسنا، وترك شرخاً في تصرفاتنا مع الآخرين إلى اليوم، ومع مرور الأيام والسنين أصبحنا غير قادرين على تغيير هذه التصرفات والسلوكيات؛ لأن (الطبيعة جبل).

ولم ندرك نحن في عصر التحول أنه يمكن أن تتحول الجبال، وذلك ليس بمستحيل، فالذى رُزق الحج قبل سنوات من الآن لو عاد إلى هذه البلدة الطيبة التى تهوي إليها أفئدة الناس، لرأى بعينيه كيف تغيرت وتحولت الجبال، فصارت قاعاً صفصفاً أو برجا مشيداً ومبنى شاهقاً.

ونحن كسودانيين – إلا من رحم الله – لا ندرك أهمية هذه المرحلة؛ فنتعامل مع الصغار بعدم اعتبار لهم، فهم عندنا صغار لا يفهمون إلا الحلوى واللعب واللهو، فليست  لهم مشاعر ولا أحاسيس، كأنهم خشب مسندة، أو جمادات هامدة!

ويخطر بخواطري درس تعلمته من أحد الدعاة الخليجيين، صحبته ذات يوم إلى مركز صيفي في مسجده، حيث يلتقى بالطلاب كعادته، ويعد لهم مسابقة تربوية وجوائز تحفيزية، فكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر، فلما انتهى هذا اللقاء تدافع نحوه الأطفال بأريحية عالية، بعضهم يمسك بجلبابه، ولا يبالى إن كانت يده نظيفة أو متسخة، فاشتد غضبي وغيظى، فحاولت أن أبعدهم عنه.

واذا بآخر تلامس يده ملابسه، فكدت أن أضربه، لكني انتهرته، وزجرته أمام أقرانه، ولما ودعهم، وانطلقنا إلى مناسبة أخرى، قال لي أثناء الطريق: لا تنتهر الصغار أمام إخوانهم، فتكسر فيهم الروح القيادية، هؤلاء هم قادة المستقبل، يجب أن نزرع فيهم ذلك.

وذكر لي  قصة عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، كان إذا  فرغ من صلاته مباشرة أقبل على قرءاة الأذكار، ولا يكلم أحداً من الناس حتى ينتهي، ولكن إذا سلم عليه طفل صغير قطع قراءة الأذكار وسلم عليه ولاطفه، ثم أكمل قرءاة الأذكار، فقيل له: "يا شيخ يأتيك الرجل الكبير، وله حاجة، فلا تجيبه حتى تفرغ من الأذكار، ويأتيك الطفل الصغير فتسلم عليه! فقال باللهجة الدارجة: (إذا كسفت الصغير ما ينساها لي أبد، ولكن الكبير يصبر).

أدركت وقتها عظم ما ارتكبت من خطأ، وتذكرت كيف كيف كان عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، يُجْلِسُه في مجالس القوم عند الكعبة وهو صغير، وكان بعض قريش يعترض على عبد المطلب، فيرد قائلاً: إن لابني هذا شأناً عظيماً.

والسيرة مليئة بنماذج من غرس الروح القيادية للأطفال، ولا ننسى الدور البطولي لمعوذ ومعاذ ابنى عفراء في قتل فرعون هذه الأمة أبي جهل في معركة بدر، كما لا ننسي جيش أسامة بن زيد، فرغم صغر سنه تولى مهمة الدفاع عن الدين وقيادة الجيش، جيش مكون ممن يفوقه علماً وسناً وفقهاً.

وهذا هو النبي (صلى الله عليه وسلم) سيد القادة يقطع خطبة الجمعة من أجل  طفلين صغيرين – كما في الحديث – فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ)، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ .

وهنا يحضرني موقف في طفولتي، حيث كنا مجموعة من الصغار نرتاد المسجد فى أدب دون إثارة فوضى أوشغب، ولكن مع ذلك كنا مطاردين من قبل رجل عجوز، فكان يمنعنا أن نصلى في المسجد، فكنا لا ندخله حتى تقام الصلاة، فاذا أقيمت تسللنا وجلين خائفين إلى الصف الأخير، وإذا قضيت الصلاة وليّنا هاربين، خوفاً من سبحته الكبيرة التى ربما يضربنا بها.

وذات يوم سمعنا خبر وفاته، ففرحنا فرحاً شديداً بموته، وقلنا الحمد لله الذي أراحنا منه، ولكننى الآن ألتمس له عذراً، فربما كان متأولاً للحديث الباطل والموضوع: (جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم).

ونماذج ذلك الرجل في مجتمعاتنا كثيرة؛ إذ لا يكاد يخلو مسجد منه؛ فقد اعتاد كثير من كبار السن على ما نشأوا عليه أيام الاحتلال الإنجليزي، حيث كانت المساجد مهجورة، لا يرتادها إلا من انحنى واحدودب ظهره.

ولكننا نعيش اليوم عصر الصحوة الإسلامية للشباب؛ لذا تكمن أزمة أمتنا في كونها أزمة قادة، فلا بد من إعداد قادة منذ نعومة أظفارهم وتربيتهم على هذه المهام، ليتربوا على الهمة العالية، وعلى القيادة والريادة والسيادة.

فلنسارع في غرس الروح القيادية لدى الأطفال، ومنحهم الثقة بأنفسهم، وإعدادهم  إعداداً للأمة، وتوجيههم حين يخطئون بالتى هي أحسن، بأسلوب التوجيه، وأن نقدر كل خطأ بقدره، ليس كل  خطأ يوجب الضرب، فهنالك أخطاء يكتفي فيها بالنظرة الحادة، وأخرى يُكتفى فيها بالتوجيه، خاصة لو كان أول خطأ.

فإن لم يُجدِ ذلك نفعاً ننتقل إلى ضرب الأمثال والعبر، بدلاً من ضرب الأبدان والأجسام، ونتحول من أسلوب إلى آخر من أساليب التربية والتوجيه، وآخر العلاج الكي – أي الضرب – ويجب أن يكون بتوسط واعتدال، وهذا للحالات المستعصية.

ونوجه رسالة لكل أب شفوق أو معلم نصوح، أو مربٍ عطوف، فالرفقَ الرفقَ؛ فإن الرفق لم يكن في شيء إلاّ زانه ولا نُزع من شىء قط إلاّ شانه، وفي الحديث الآخر: (إِذا أَرَادَ الله بِأَهْل بَيت خيراً أَدخل عَلَيْهِم الرِّفْق) صحيح الجامع.