علي صالح طمبل
كثيراً ما كان الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله يثني على جيل الحبوبات (الجدَّات) لحيائهن الجمّ، ويردد: والله الحبوبات ديل عندهم أدب.. أدب عجيب!
وقد صدق فقد كان أهم ما يميزهن حياؤهن وحشمتهن، وسيرهن في الطريق بمحاذاة الحائط كالصحابيات رضوان الله عليهن، وتغطيتهن لوجوههن عند رؤية الرجال..
وهذا ما نفتقد إليه في هذا الزمان العجيب، إلاّ من رحم الله تعالى.
***
إذا وقعت نظراتك دون قصد على نظرات إحدى الفتيات، فصرفت بصرك عملاً بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما سئل عن نظرة الفجأة فقال: (( اصرف بصرك )) رواه مسلم..
فقد يثير حيرتك أن الفتاة ما زالت تنظر إليك دون أن تغض بصرها حياء كما تتوقع! فتتساءل في نفسك: أين الحياء؟!
***
صار أمراً عادياً أن ترى شاباً ممسكاً بيد شابة ويسيران في الطريق، ترتسم على وجهيهما ابتسامة واسعة، كأنهما لم يفعلا شيئاً يُلاما عليه، أو كأنهما يسيران في شارع خاص لا يشاركهما فيه غيرهما، فلا تملك حينها سوى أن تترحم على الحياء!
وتتذكر حينها عبارة قالها أحد الصحفيين: (إذا كان هذان يفعلان هذا أمام الناس فماذا يفعلان خلفهم؟!)، فإن كان بينهما رباط الشرعي – وهذا ما لا يتوقع في الغالب؛ لقلة هذه المظاهر بين المتزوجين في مجتمعنا، باستثنا المتزوجين حديثاً بالطبع – فأين ذهب الحياء من الله، ثم من الناس؟!
***
أحياناً تصادف زيارتك لبعض الأهل والأصدقاء أن تجد الأسرة مجتمعة – بما فيها الأبوان- والأولاد – كبارهم وصغارهم – حول التلفاز، يشاهدون فيلماً أو مسلسلاً، تستحي أن تشاهده وحدك أو تستمع إلى الكلمات العارية من الحياء التي يتبادلها الممثلون والممثلات..
مما لا يجوز قوله إلاّ لمن جمعتهم رابطة شرعية، كما تستحي أن تنظر إلى الثياب العارية للممثلات! ولكنك حين تجد الأسرة كلها تتسمر عيونها على الشاشة، وتتحدث عن حال البطل أو البطلة، ومصير العلاقة غير الشرعية التي جمعت بينهما، تضرب يداً بيد وتقول: (رحم الله الحياء!).
***
صار أمراً معتاداً أن ترى صورة فتاة متبرجة تتصدر لوحة إعلانات، أو معلقة على واجهة أحد محلات بيع الأزياء أو محلات الكوافير، أو مطبوعة على منتج من المنتجات، فتقول في نفسك حائراً: ألهذه الدرجة أصبحت المرأة سلعة يباع ويشترى بجسدها دون حياء؟!
والغريب أنك تصعد الحافلة العامة فتجد صورة فتاة متبرجة، وبجانبها عبارة على شاكلة (لا تنس ذكر الله) و(صلِّ على النبي) و(أصبحنا وأصبح الملك لله)! فلا تتمالك نفسك دهشةً من تناقض من يذكرك بالله ولا يستحي منه!
***
إذا ذهبت بك الأقدار إلى حفل زواج، فلا تستغرب حين تجد الجميع بين رقص وغناء وطرب، لا تكاد تتبين الفواصل بين الجنسين من فرط اختلاط الرجال بالنساء! والأدهى من ذلك أنك سترى أزياء تستحي أن تلبسها المرأة في بيتها!
ويلح عليك سؤال حينها: ألم يقل القائمون على أمر الزواج قبل ساعات إن هذا الزواج على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)؟ فكيف استبدلوا كتاب الله بكتاب الهوى، وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بسنة إبليس؟!
***
إذا رأيت امرأة متبرجة تمشي الهوينى في غنج وتمايل، تفوح منها روائح العطر النفاذ، ورأيت إلى جوارها رجلاً يسير بزهو كالطاؤوس، فلا تستغرب إن قيل لك إن هذا الرجل الديوث هو زوجها أو والدها أو أخوها!
ولك أن تسأل حينها: هل تتزين هذه المرأة لزوجها في بيتها كما تتزين في الشارع؟!
***
تفاجئنا الصحف بنبأ زواج بين مثليين، يُضبط في إحدى الشقق لحي من أحياء الخرطوم، يثير دهشة الناس وامتعاضهم، فيعقبه بعد فترة قصيرة زواج آخر من نفس النوع، ولكن هذه المرة علناً على ضفاف النيل!
وهكذا حين يغيض الحياء ويراق وجهه، تصح عند البعض مقولة (على عينك يا تاجر) و(الإستحوا ماتوا)، ولكن الأبلغ من ذلك كله قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت )) رواه البخاري.
***
الحياء من أجمل الحلل التي تزين المؤمن، وهو قرين الإيمان، وشعبة من شعبه المهمة، فإذا فُقد الحياء تبعه الإيمان، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): () الحياء والإيمان قُرنا معاً؛ فإذا رفع أحدهما رُفع الآخر )) رواه الحاكم.
وإذا غاب الحياء وَجَدَ الشر مرتعه، وتمدد الباطل؛ فالحياء كما في الحديث المتفق عليه: (( لا يأتي إلا بخير )).
وحين خلع الناس ثوب الحياء كثرت الجرائم الأخلاقية، ودوننا دار (المايقوما) لرعاية الأطفال مجهولي الأبوين التي يصلها أحياناً في اليوم الواحد تسعة أطفال!
ناهيك عن الذين أُلقوا في المجاري، أو في سلال المهملات، أو تُركوا فريسة للكلاب! وهي نتيجة حتمية لغياب الحياء من الله تعالى، حين أسرف الناس في النظر إلى الحرام والاختلاط والتبرج، وكان ذلك بمثابة الشحن، والشحن لا بد أن يعقبه تفريغ..
وفي ظل العراقيل التي يضعها المجتمع أمام الحلال (الزواج الشرعي)، اختار كثيرون الطريق السهل: طريق الحرام، بدلاً من تقوية الإيمان ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وتهذيب النفس بالصيام، وغيرها من الوسائل التي وضعها الشارع لزيادة الإيمان وتقليل المعاصي والمنكرات! والله المستعان!
***
القنوات الفضائية وإطلاق العنان لها في بيوتنا دون رقيب، والإنترنت والجوالات التي تستخدم استخداماً سيئاً بدلاً من استخدامها في الخير والدعوة إلى الله تعالى؛ شكراً لله الذي أنعم بها علينا..
وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شوارعنا، وعدم ضبط الجهات المسؤولة للشارع العام، وتعقيد الزواج الشرعي وزيادة تكاليفه، وعدم اضطلاع الوالدين بدورهما في تربية الأبناء..
وقبل ذلك كله البعد عن كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، هي بعض الأسباب التي أدت إلى فقد الحياء في مجتمعاتنا والجرأة على محارم الله تعالى.
ونختم بحديث جامع عن الحياء، علّه يمثل أنموذجاَ للكثيرين لمعنى الحياء الشامل، يطبقونه تطبيقاَ عملياً في حياتهم: عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (( استحيوا من الله حق الحياء, قلنا: يا رسول الله, إنا نستحيي والحمد لله, قال ليس ذاك, ولكن الاستحياء من الله حق الحياء, أن تحفظ الرأس وما وعى, والبطن وما حوى, ولتذكر الموت والبِلى, ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء )) حديث حسن رواه الترمذي.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذي يستحيون منه حق الحياء، وأن يديم علينا نعمة الهداية والستر والعافية، وألا يعاقبنا بسلب الحياء من قلوبنا؛ قال مالك بن دينار رحمه الله : (ما عاقب الله تعالى قلباً بأشد من أن يسلب منه الحياء).