المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

القابضات على الجمر

القابضات على الجمر

  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار، وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار، وجعل الدار الآخرة هي دار القرار، فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار، ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار، وسبق رحمته بعباده غضبه وهو الرحيم الغفار، أحمده على نعمه الغزار، وأشكره وفضله على من شكر مدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، الرسول المبعوث بالتبشير والإنذار ، صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والإبكار.

أما بعد،،

فهذه رسالة..

رسالة، إلى القابضات على الجمر..

رسالة، إلى أولئك الفتيات الصالحات، والنساء التقيات..

حديثٌ، إلى اللاتي شرفهن الله بطاعته، وأذاقهن طعم محبّته..

إلى حفيدات خديجة وفاطمة، وأخوات حفصة وعائشة..

هذه أحاسيس، أبثها، إلى من جعلن قدوتهن أمهات المؤمنين، وغايتهن رضا رب العالمين، إلى اللاتي طالما دعتهن نفوسهن إلى الوقوع في الشهوات، ومشاهدة المحرمات، وسماع المعازف والأغنيات = فتركن ذلك ولم يلتفتن إليه، مع قدرتهن عليه، خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار..

هذه وصايا، إلى الفتيات العفيفات، والنساء المباركات، اللاتي يأمرن بالمعروف، وينهين عن المنكر، ويصبرن على ما يصيبهن..

هذه همسات، إلى حبيبة الرحمن، التي لم تجعل همها في القنوات، ومتابعة آخر الموضات، وتقليب المجلات، وإنما جعلت الهموم هماً واحداً هو = هم الآخرة..

 

هذه رسالة، إلى تلك المؤمنة العفيفة التي كلما كشر الفساد حولها عن أنيابه، رفعت بصرها إلى السماء وقالت: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).

هذه رسالة، إلى القابضات على الجمر، اللاتي قال فيهن النبي : «يأتي على الناس زمان يكون فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر».

رسالة، إلى المرأة الصالحة التقية، التي قدمت محبة الله وأوامره، على تقليد فلانة أو فلانة، فأصبحت غريبة بين النساء بسبب صلاحها وفسادهن، وقد قال النبي لها فيما رواه [ابن ماجة، والدارمي]: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، كما بدأ، فطوبى للغرباء». قيل: (ومن الغرباء يا رسول الله؟) قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس».

هذه كلمات، إلى القابضات على الجمر، لأذكرهنّ بأخبار من تقدمهنّ إلى طريق الجنة، ممن تركن لذة الحياة، وحملن همَّ الدين، حتى ضاعف الله لهن الحسنات، وكفر السيئات، ورفع الدرجات، حتى سبقن كثيراً من الرجال..

  

§ أول تلك القابضات على الجمر:

هي تلك المرأة الصالحة التي كانت تعيش هي وزوجها، في ظل ملك فرعون، زوجها مقرب من فرعون، وهي خادمة ومربية لبنات فرعون، فمنّ الله عليهما بالإيمان، فلم يلبث زوجها أن علم فرعون بإيمانه فقتله، فلم تزل الزوجة تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون، وتنفق على أولادها الخمسة، تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها، فبينما هي تمشط ابنة فرعون يوماً، إذ وقع المشط من يدها..

فقالت: (بسم الله!)

فقالت ابنة فرعون: (الله، أبي؟)

فصاحت الماشطة بابنة فرعون: (كلا! بل الله، ربي، وربُّك، وربُّ أبيك)

فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها، ثم أخبرت أباها بذلك، فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره،

فدعا بها..

وقال لها: (من ربك؟)

قالت: (ربي وربك الله)

فأمرها بالرجوع عن دينها، وحبسها، وضربها، فلم ترجع عن دينها، فأمر فرعون بقدر من نحاس فملئت بالزيت، ثم أحمي، حتى غلى، وأوقفها أمام القدر، فلما رأت العذاب، أيقنت أنما هي نفس واحدة، تخرج وتلقى الله تعالى، فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة، الأيتام الذين تكدح لهم، وتطعمهم، فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة، تدور أعينهم، ولا يدرون إلى أين يساقون، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي، وأخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها، فلما رأى فرعون هذا المنظر، أمر بأكبرهم، فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي، والغلام يصيح بأمه ويستغيث، ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون، ويحاول الفكاك والهرب، وينادي إخوته الصغار، ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين، وهم يصفعونه ويدفعونه، وأمه تنظر إليه، وتودّعه، فما هي إلا لحظات، حتى ألقي الصغير في الزيت، والأم تبكي وتنظر، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل، وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت، نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله، فأبت عليه ذلك.

فغضب فرعون، وأمر بولدها الثاني، فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث، فما هي إلا لحظات حتى ألقي في الزيت، وهي تنظر إليه، حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه، والأم ثابتة على دينها، موقنة بلقاء ربها.

ثم أمر فرعون بالولد الثالث، فسحب وقرب إلى القدر المغلي ثم حمل وغيب في الزيت، وفعل به ما فعل بأخويه، والأم ثابتة على دينها.

فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت، فأقبل الجنود إليه، وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه، فلما جذبه الجنود، بكى وانطرح على قدمي أمه، ودموعه تجري على رجليها، وهي تحاول أن تحمله مع أخيه، تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها، فحالوا بينه وبينها، وحملوه من يديه الصغيرتين، وهو يبكي ويستغيث، ويتوسل بكلمات غير مفهومة، وهم لا يرحمونه، وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي، وغاب الجسد، وانقطع الصوت، وشمت الأم رائحة اللحم، وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها، تنظر الأم إلى عظامه، وقد رحل عنها إلى دار أخرى، وهي تبكي، وتتقطع لفراقه..

طالما ضمته إلى صدرها، وأرضعته من ثديها..

طالما سهرت لسهره، وبكت لبكائه..

كم ليلة بات في حجرها، ولعب بشعرها..

كم قربت منه ألعابه، وألبسته ثيابه..

فجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك، فالتفتوا إليها، وتدافعوا عليها..

وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، وكان قد التقم ثديها، فلما انتزع منها، صرخ الصغير، وبكت المسكينة، فلما رأى الله تعالى ذلها وانكسارها وفجيعتها بولدها، أنطق الصبي في مهده وقال لها: (يا أماه، اصبري فإنك على الحق)

ثم انقطع صوته عنها، وغيِّب في القدر مع إخوته،

ألقي في الزيت، وفي فمه بقايا من حليبها..

وفي يده شعرة من شعرها..

وعلى أثوابه بقية من دمعها..

وذهب الأولاد الخمسة، وها هي عظامهم يلوح بها القدر، ولحمهم يفور به الزيت..

تنظر المسكينة، إلى هذه العظام الصغيرة..

عظام من؟

إنهم أولادها..

الذين طالما ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً..

إنهم فلذات كبدها، وعصارة قلبها، الذين لما فارقوها، كأن قلبها أخرج من صدرها..

طالما ركضوا إليها، وارتموا بين يديها، وضمتهم إلى صدرها، وألبستهم ثيابهم بيدها، ومسحت دموعهم بأصابعها، ثم ها هم ينتزعون من بين يديها، ويقتلون أمام ناظريها، وتركوها وحيدة وتولوا عنها، وعن قريب ستكون معهم..

كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب، بكلمة كفر تسمعها لفرعون، لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى..

ثم، لما لم يبق إلا هي، أقبلوا إليها كالكلاب الضارية، ودفعوها إلى القدر، فلما حملوها ليقذفوها في الزيت، نظرت إلى عظام أولادها، فتذكرت اجتماعها معهم في الحياة..

فالتفتت إلى فرعون وقالت: (لي إليك حاجة)

فصاح بها، وقال: (ما حاجتك؟)

فقالت: (أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد)

ثم أغمضت عينيها، وألقيت في القدر، واحترق جسدها، وطفت عظامها..

فلله در هذه الماشطة! ما أعظم ثباتها! وأكثر ثوابها!

ولقد رأى النبي ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها، فحدّث به أصحابه وقال لهم فيما رواه [البيهقي]: «لما أسري بي، مرت بي رائحة طيبة، فقلت: «ما هذه الرائحة؟» فقيل لي: «هذه ماشطة بنت فرعون وأولادُها»».

الله أكبر!

تعبت قليلاً، لكنها استراحت كثيراً..

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾.

مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها، وجاورت ربها، ويرجى أن تكون اليوم في جنات ونهر، ومقعد صدق عند مليك مقتدر، وهي اليوم أحسن منها في الدنيا حالاً، وأكثر نعيماً وجمالاً، وعند [البخاري] أن رسول الله قال: «لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها»، وروى [مسلم] أنه قال: «من دخل الجنة ينعم لا يبؤس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. وله في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».

ومن دخل إلى الجنة نسي عذاب الدنيا، فمن سكان الجنة؟!

إنهم، أهل الصيام مع القيام وطيب الكلمات والإحســــــــــــــــــانِ

أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضـــانِ

عسل مصفى ثم ماء ثم خمــــر ثم أنهار من الالبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ

وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحومهم طير ناعم وسمــــــــــــــانِ

وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعة كملت لذي الإيمــــــــــــــانِ

وصحافهم ذهب تطوف عليهم بأكف خدام من الولـــــــــــــــدانِ

وشرابهم من سلسبيل مزجه الكافور ذاك شراب ذي الإيمـانِ

والحُلْيُ أصفى لؤلؤ وزبرجد وكذاك أسورة من العقيــــــــــــــــــــــــــــانِ

هذا وخاتمة النعيم خلودهم أبداً بدار الخلد والرضـــــــــــــــــــــــوانِ

يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكســــلانِ

يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمـــــــــانِ

يا سلعة الرحمن هل من خاطب فلقد عرضت بأيسر الأثمـانِ

يا سلعة الرحمن كيف تصبر العشاق عنك وهم ذوو إيمـــــــــانِ

والله لم تخرج إلى الدنيا للذة عيشها أو للحطام الفـــــــــــــــــــــاني

لكن خرجت لكي تعدَّ الزاد للأخرى فجئت بأقبح الخسـرانِ

فما أطيب عيش المؤمنة في الجنة!

عندما تتقلبُ في أنهارها، وتشربُ من عسلها، بل وتنظر إلى وجه ربها!

ما أطيب عيشك أنتِ!

وربُك يسألك في الجنة: (يا فلانة، هل رضيت؟ هل رضيت بما أنت فيه من النعيم؟)

فتقولين: (وما لي لا أرضى! وقد أعطيتني ما أرجو وأمّنتني مما أخاف)

فيقول: (أعطيك أعظم من ذلك)

ثم يكشف الحجاب عن وجهه فتنظرين إليه، فلا تنصرفين إلى شيء من النعيم ما دمت تنظرين إليه، ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾.

ولكن لن يصل أحد إلى الجنة إلا بمقاومة شهواته، فلقد حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فاتباع الشهوات في اللباس، والطعام، والشراب، والأسواق، طريق إلى النار، قال كما في [الصحيحين]: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»، فاتعبي اليوم وتصبَّري، لترتاحي غداً، فإنه يقال لأهل الجنة يوم القيامة: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.

أما أهل النار فيقال لهم: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾.

هذه أولى القابضات على الجمر، ثبتت على دينها برغم الفتنة العظيمة التي أحاطت بها، فعجباً والله لفتيات، لا تستطيع إحداهن الثبات على إقامة الصلاة! فلا تزال تتساهل بأدائها حتى تتركها حتى تكفر! وقد قال النبي كما عند [الترمذي]: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»، ومن تركت الصلاة خلدها الله في النيران، وعذبها مع الشيطان، وأبعدها عن النعيم، وسقاها من الحميم، ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾.

ذكر الذهبي في [الكبائر]، أن امرأة ماتت فدفنها أخوها، فسقط كيس منه فيه مال في قبرها فلم يشعر به حتى انصرف عن قبرها، ثم ذكره فرجع إلى قبرها فنبش التراب، فلما وصل إليها وجد القبر يشتعل عليها ناراً، ففزع، ورد التراب عليها، ورجع إلى أمه باكياً فزعاً وقال: (أخبريني عن أختي وماذا كانت تعمل؟)

فقالت الأم: (وما سؤالك عنها؟)

قال: (يا أمي، إني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً)

فبكت الأم وقالت: (كانت أختك تتهاون بالصلاة، وتؤخرها عن وقتها).

فهذا حال من تؤخر الصلاة عن وقتها، فلا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، أو تؤخر غيرها من الصلوات..

فكيف حال من لا تصلي؟!

وقد أخبر النبي عن رؤياه لعذاب من يخرج الصلاة عن وقتها، فقال: «أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: «انطلق»، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحَّ رأسه كما كان ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل به مرة الأولى، فقلت: «سبحان الله! ما هذان؟»، فقال الملكان: «هذا الرجل، يأخذ القرآن فيرفضه -يعني لا يعمل بما فيه-، وينام عن الصلاة المكتوبة»، ﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.

 

§ أما ثانية القابضات على الجمر:

فقد كانت ملكة على عرشها، على أسرةٍ ممهدة، وفرشٍ منضدة، بين خدم يخدمون، وأهلٍ يكرمون، لكنها كانت مؤمنة تكتم إيمانها، إنها 'آسية'، امرأة فرعون، كانت في نعيم مقيم..

فلما رأت قوافل الشهداء، تتسابق إلى السماء، اشتاقت لمجاورة ربّها، وكرهت مجاورة فرعون، فلما قتل فرعون الماشطة المؤمنة، دخل على زوجه آسيةَ يستعرض أمامها قواه..

فصاحت به آسية: (الويل لك! ما أجرأك على الله!!)

ثم أعلنت إيمانها بالله، فغضب فرعون، وأقسم لتذوقَن الموت، أو لتكفرَن بالله، ثم أمر فرعون بها فمدّت بين يديه على لوحٍ، وربطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد، وأمر بضربها فضربت، حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها، واللحم ينسلخ عن عظامها، فلما اشتدّ عليها العذاب، وعاينت الموت، رفعت بصرها إلى السماء، وقالت: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين)، وارتفعت دعوتها إلى السماء..

قال ابن كثير: (فكشف الله لها عن بيتها في الجنة، فتبسمت، ثم ماتت)..

نعم، ماتت الملكة، التي كانت بين طيب وبخور، وفرح وسرور..

نعم تركت فساتينها، وعطورها، وخدمها، وصديقاتها، واختارت الموت!

لكنها اليوم، تتقلب في النعيم كيفما شاءت..

ولماذا لا يكون جزاؤها كذلك؟! وهي..

طالما وقفت تناجي ربها والليل مسدول البراقع

تصغي لنجواها السماء وقد جرت منها المدامع

تدعو فتحتشد الملائك والدجى هيمان خاشـــع

والعابدات الزاهدات جفت مراقدُها المضاجــــع

وتخــرّ للــرحمن ساجدة مطهرة النـــــــــــــــــــــــــــــــــــوازع

نفعها صبرها على الطاعات، ومقاومتها للشهوات، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾.

فأين نساؤنا اليوم؟

أين نساؤنا عن سير هؤلاء الصالحات؟

أين النساء اللاتي يقعن في المخالفات الشرعية في لباسهن، وحديثهن، ونظرهن، ثم إذا نُصِحَت إحداهن قالت: (كل النساء يفعلن مثل ذلك، ولا أستطيع مخالفة التيار).

سبحان الله!!

أين القوةُ في الدين، والثباتُ على المبادئ؟

إذا كانت الفتاة بأدنى فتنة تتخلى عن طاعة ربها، وتطيع الشيطان، أين الاستسلام لأوامر الله؟

والله تعالى يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾.

أين تلك الفتيات العابثات؟ اللاتي تتعرض إحداهن للعنة ربها، فتلبس عباءتها على كتفها، فيرى الناس تفاصيل كتفيها وجسدها، إضافة إلى تشبهها بالرجال، لأن الرجال هم الذين يلبسون عباءاتهم على أكتافهم، ومن تشبهت بالرجال فهي ملعونة!

وأين تلك المرأة؟ التي تنتف حواجبها وتغير خلق الله، والنبي قد لعن النامصة والمتنمصة!

وأين تلك الواشمة؟ التي تضع الوشم على وجهها على شكل نقط متفرقة، أو على شكل رسوم في مناطق من جسدها، وهذا فعل المومسات، والنبي قد قال: «لعن الله الواشمة والمستوشمة»!

بل، أين تلك المرأة التي تلبس الشعر المستعار؟ أو ما يسمى (بالباروكة)، والله تعالى قد لعن الواصلة والمستوصلة!

فهؤلاء النساء ملعونات!

أتدرين ما معنى ملعونة؟!

أي: مطرودة من رحمة الله!!

مطرودة عن سبيل الجنة!

أو ترضين أن تطردي عن الجنة؟! بسبب شعرات تنتفينها من حاجبيك، أو عباءة تنزلينها على كتفيك، أو نقاط من وشم في أنحاء جسدك!!!

أو تريدين الجمال؟!

ليس الجمال والله بالتعرض للعنة الله وسخطه، بل الجمال الحقيقي هو ما يكون بطاعة الله، ويكمل الجمال ويزين، للمؤمنات في الجنة، فإذا كان الله تعالى قد وصف الحور العين بما وصف، وهن لم يقمن الليل، ولم يصمن النهار، ولم يصبرن عن الشهوات، فما بالك بجمالك أنتِ؟!، وحسنك، وبهائك!

وأنتِ التي طالما خلوتِ بربك في ظلمة الليل، يسمع نجواك، ويجيب دعاك..

طالما تركتِ لأجل رضاه اللذات، وفارقت الشهوات..

فيا بشراك!

وقد تلقتك الملائكة عند الأبواب، تبشرك بالنعيم وحسن الثواب، وقد ازددت جمالاً فوق جمالك، ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾، فأنتِ في الجنة، قد..

كَمُلَتْ خلائـقُـكِ وأُكمِلَ حُسنـكِ كالبدرِ ليل الستِّ بعد ثمـــــــــــــــــــانِ

والشمس تجري في محاسن وجهكِ والليل تحت ذوائب الأغصـانِ

والبرق يبدو حين يـبسمُ ثغـركِ فيضيءَ سقفَ القصرِ بالجــــــــــــــــــــــدرانِ

وتبختري في مشيكِ ويحـــقّ ذاكَ لمثلكِ في جنةِ الحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوانِ

ووصـائفُ من خلفكِ وأمامكِ وعلى شمائلكِ ومن أيمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ

لا تُؤثرِ الأدنى على الأعلى فتحرمي ذا وذا يا ذلــة الحرمـــــــــــــــــــــــــــــــانِ

مَنَّتْـكِ نفسُـكِ باللحاقِ مع القعودِ عن المسيرِ وراحة الأبـــــــــــــــــــــدانِ

ولسوف تعلمِ حينَ ينكشفُ الغطا ماذا صنعتِ وكنتِ ذا إمكــــــــــــــانِ