المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

السودان ونفط الجنوب.. خزائن خاوية

السودان ونفط الجنوب.. خزائن خاوية

رغم أن الكثيرين هللوا كثيرًا لـ "اتفاق التعاون المشترك" الذي أبرمه الرئيس عمر البشير، ونظيره الجنوبي سليفاكير في أديس أبابا برعاية إفريقية.

إلاّ أن المتابعين للشأن السوداني شككوا كثيراً في إمكانية التزام الطرفين بكثير من بنود هذا الاتفاق، والتي ضمت بنودًا عن استئناف ضخ النفط الجنوبي عبر ميناء بورتسودان.

وكذلك ترتيبات أمنية في مناطق التماس الحدودية وآبيي، ووقف دعم المتمردين في كلا الطرفين، إلاّ أن هذا الاتفاق لم يصمد كثيرًا إلا في البند الأول فقط.

حيث أصرت حكومة جوبا على عدم احترام التزاماتها عبر استمرار توفير الدعم اللوجيستي لمقاتلي "الجبهة الثورية" في جنوب كردفان، بشكل حدا بالخرطوم لوقف ضخ النفط والإعلان بأنها في حِلٍّ من جميع الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين في ظل هذه الأجواء.

خزائن خاوية ..

لقد راهن الكثيرون بعد توقيع الاتفاق على عدم التزام الطرفين به إلاّ فيما يتعلق بنقل نفط الجنوب عبر الأنابيب والموانئ السودانية.

في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها البلدان، والتي أجبرتهما على استئناف النقل في ظل حاجة الجنوب الماسة لعائدات 300 ألف برميل يومياً، مما ينعش موازنته.

وهو ما يتكرر في الشمال الذي يستفيد بـ 9 – 11 دولار من كل برميل نفط حسب المنطقة المنتج فيها.

وهي عائدات تساعد في دعم الاقتصاد السوداني الذي افتقد القدرة على مواجهة كارثة فقدان 70٪ من عائدات النفط بعد انفصال الجنوب، وبالتالي لم يكن أمام الطرفين سوى القبول بأي اتفاق مادام يضمن ضخ ملايين الدولارات في الخزائن الخاوية.

ولكن، وقبل أن يجف مداد الاتفاق، وقبل وصول أول برميل نفط جنوبي لبورتسودان، فاجأت الخرطوم المجتمع الدولي والجوار الإقليمي بوقف ضخه.

متذرعة بأنها لن توفر عائدات مالية لجوبا لتمويل أنشطة "الجبهة الثورية" وشماليي "الحركة الشعبية" في مناطق التماس في جنوب كردفان وجبال النوبة لإثارة القلاقل وتهديد وحدة واستقرار البلاد وصولاً لتكرار سيناريو انفصال الجنوب.

بل وقدمت الخرطوم أدلة موثقة حول استمرار الدعم العسكري واللوجيستي، وتوفير الملجأ والعلاج لمقاتلي "الجبهة الثورية"، وهي الأدلة التي لم يستطع الجنوبيون دحضها أو نفيها بشكل جاد.

أوراق ضغط ..

وتعهدت الخرطوم كذلك بتقديم هذه الأدلة للآلية الإفريقية الخاصة بإدارة العلاقة بين شطري السودان، وذلك لبيان عدم التزام جوبا بتعهداتها، مؤكدة أن استئناف ضخ نفط الجنوب وارد في حالة التزام حكومة "الحركة الشعبية" بقطع اتصالاتها، ووقف دعمها للمقاتلين الثوريين.

وهو مطلب لا يبدو أن جوبا قد توافق عليه بسهولة، لكونه يضعف من أوراقها في مواجهة الخرطوم؛ فورقة دعم التمرد تبدو الوحيدة لضمان التزام الخرطوم بالكف عن دعم متمردين رافضين لهيمنة "الدينكا" و"الحركة الشعبية" على مقاليد الأمور، والسيطرة على السلطة والثورة، وتهميش قبائل مثل: "الشلوك"، و"النوير".

ولكن التزام الجنوب بتعهداته بوقف دعمه للمتمردين يبدو أمراً شديد الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، لكونه يتناقض مع قناعة ثابتة لدى جميع ساسة الجنوب بأنه لا استقرار لدولتهم الوليدة مادام نظام "جبهة الإنقاذ" مسيطرًا على الأوضاع في الشمال.

لذا لن يكف سليفاكير عن دعم "الجبهة الثورية" وكافة أنواع التمرد بالمال والسلاح والدعم اللوجيستي؛ سعياً لإضعاف نظام البشير، وصولاً لإسقاطه، وهو أمر قد يتكرر وإن كان بصورة أقل في الشمال الذي أبدى رغبة في السلام، وقلص من تدخلاته في الشأن الجنوبي لحد كبير، طبقاً للاتفاق الأخير.

قنابل موقوتة ..

ومن هنا يجدر بنا التأكيد أن الاتفاق الأخير الذي تضمن تسعة بنود من بينها: تفاهمات وترتيبات أمنية ما كان له أن يصمد؛ فقد كانت البنود فضفاضة وقابلة لتفسيرات عديدة في جميع النقاط ماعدا استئناف ضخ نفط الجنوب وتصديره لحاجة الطرفين له.

وبدون ذلك فلم يتطرق الاتفاق لتسويات لقضايا حاسمة مثل: "أبيي"، و"المناطق الحدودية"، ونصيب الطرفين في ثروات السودان وديونه ومقرات البعثات الدبلوماسية في الخارج التي آل معظمها للشمال، ناهيك عن الترتيبات الأمنية في مناطق التماس، وهي قضايا تشكل قنابل موقوتة تهدد بتفجير أي اتفاق.

وغم إدانة جوبا لموقف الخرطوم الأخير، ووصفه بغير الحكيم والمتعجل؛ فإن ساستها لم يتطرقوا للاتهامات التي وجهتها الخرطوم بدعم المتمردين، رغم نفي أكثر من متحدث لهذه الاتهامات، إلا أنه نفي يبدو أقرب للإثبات، بل إنهم صاروا لأبعد من ذلك بتقديم طلب للآلية الإفريقية التي يقودها رئيس جنوب إفريقيا السابق "ثامبو امبيكي" للبحث في تداعيات القرار.

وهو الأمر الذي رد عليه البشير بالقول: "لن نسمح بتصدير نفط الجنوب كي يستخدم لتقديم أسلحة وذخيرة للخونة" في موقف عمق من الأزمة بين الإخوة الأعداء.

نذر مواجهة ..

ولا تتوقف تبعات انهيار "اتفاق التعاون المشترك" عند هذا الحد؛ فلا شك أن قرار البشير بإغلاق أنابيب النفط، والذي تلا تحذيراً من الخرطوم لجوبا بالتوقف عن دعم المتمردين وتحديد مهلة لهذا الأمر؛ ستكون له تداعيات قوية لكونه يطيح أيضاً بالترتيبات الأمنية التي توصل إليها الطرفان، بشكل قد يقودنا للقول بأن نذر المواجهة بين الطرفين وتكرار سيناريو "هجليج" يبدو أقرب للوقوع من أي وقت آخر.

خصوصًا بعد تفجير أنبوب للنفط في "أبيي"؛ فالخرطوم لا يمكنها القبول بدور في تمويل الآلة العسكرية للجنوبيين ومتمردي الشمال، وجوبا قد لا تستطيع التوقف عن دعمهم، وبالتالي فالبلدان مهددان بالعودة للمربع صفر، واستئناف التدخل في شئون الآخر بقوة، وقض مضاجعه، لاسيما أنهم لا يبديان جدية في طي صفحة العداء التأريخي، وهو ما يشير لتصاعد حدة التوتر.

والثابت هنا أن هناك دوراً أساسياً يجب أن تلعبه الآلية الإفريقية والقوي الإقليمية لتوصيل رسالة شديدة اللهجة للطرفين، خصوصًا لحكام الجنوب، وهي أن الاستمرار في دعم المتمردين الشماليين سيعرقل أي مساع للتهدئة مع الخرطوم.

بل إنّ أي تدخل لدى الأخيرة لإقناعها بتصدير نفط الجنوب، والذي يشكل الشريان الأساسي لاقتصاد الدولة الوليدة؛ يبدو صعباً في ظل ما طرحته من أدلة ووثائق بشكل سيعمق من الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها جوبا، ويفتح الباب أمام اضطرابات أمنية وسياسية واقتصادية يصعب مع أي حكومة تحملها.

الأحرف الأولى ..

ومما يزيد الطين بلة أن البلدين مقدمان على استحقاقات شديدة الصعوبة، منها: إعلان جوبا عن أنها ستوقع بالأحرف الأولى على اتفاق "عنتيبي" الخاص باقتسام موارد نهر النيل، وهو موقف سيضر بشدة بمواقف الخرطوم والقاهرة الرافضتين بشدة لهذا التوقيع، والذي يزيد مواقفهم حرجًا من جهة تزامنه مع إعلان إثيوبيا عن تغيير مجرى النيل الأزرق، والشروع في تدشين "سد النهضة" الذي سيضر ضررًا بالغًا بالأمن المائي لكلا البلدين.

ويقربهما شيئًا فشيئًا من الفقر المائي، بشكل يجعلهما بحاجة لإقناع جوبا بتأجيل هذه الخطوة التي ستضر بهما، وقد لا تقدم نفعًا للجنوب الذي يصنفه الخبراء في قطاع المياه بأنه دولة منبع لا دولة مصب.

ولكل ما سبق ينبغي التأكيد على أن بقاء العالم العربي وفي مقدمتهم مصر بعيدة عن التأثير في الملف السوداني شماله وجنوبه لم يعد مقبولاً حالياً؛ حيث تفرض التطورات ضرورة دخول القاهرة على خط الأزمة بين البلدين، وتبديد الشكوك بينهما، بل وطرح آلية تضمن وجود شراكة ثلاثية بين دول المصب تعود بالنفع على مواطنيها بدلاً من استمرار أجواء التوتر بين جوبا والخرطوم.

وإبعاد النظرة العدائية التي تسيطر على وجهة نظر إحداهما تجاه الأخرى، والتي تحكمها قاعدة أنه لا استقرار في بلد مادام نظام البلد الآخر في السلطة، وهي نظرية مهلكة، ستسقط النظامين – إن عاجلاً أو أجلاً – بشكل قد يفرض عليهما الاستماع للغة العقل والبحث عن قواعد أخرى تحكمهما، تقود سفينتهم إلى بر الأمان، بدلاً من العودة لخيار الحرب، التي ستهلك الحرث والنسل، ولم يخرج منها أحد منتصراً.

المصدر: موقع الإسلام اليوم