محمد حسين يعقوب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد..
فإن تكامل الشخصية النبوية لنبينا 'محمد' ﷺ جعلت منه الحاكم، والقائد، والزوج، والمعلم، والداعية، والمربي. وما تتبع قارئ للقرآن الكريم والسيرة النبوية إلا وجد فيهما عناصر التفوق، ووسائل النجاح، من خلال الكثير من المواقف التربوية الراقية التي هي القدوة الحسنة لكل راغب في الوصول إلى الحق. وعن طريق هذا المنهج ينشأ الإنسان الصالح، ومن ثم المجتمع الإسلامي الكريم.
وهنا نماذج وصور من (المنهج التربوي النبوي)، نقربها للقارئ الكريم تذكيراً وترغيباً في هذا المنهج المتكامل الذي أرسل الله به نبيه للناس كافة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. وكم نحن بحاجة للوقوف أمام هذه المعالم النبوية وتمثلها في حياتنا وسلوكنا؛ إذ هي السر في تميز الرعيل الأول -رضي الله عنهم أجمعين-.
1- الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك، لكن التعامل مع الإنسان له شأن آخر وبعد آخر؛ ذلك أن الناس بشر، لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد؛ فتراه تارة هنا وتارة هناك، تارة يرضى وتارة، يسخط.. ولهذا أجمع المختصون بأن (الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة)، وأن البحث فيها تكتنفه صعوبات عدة؛ فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه سلوكه؟
ومن يتأمل سيرة النبي ﷺ يرى كيف صبر وعانى، حتى ربى هذا الجيل المبارك، وكم فترة من الزمن قضاها؟ وكم هي المواقف التي واجهها؟ ومع ذلك صبر واحتسب، وكان طويل النفس بعيد النظر، ﷺ.
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل هناك من هو أعلى شأناً من أصحاب النبي ﷺ إلا الأنبياء..
• فها هم يتنزل فيهم في 'بدر': ﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 68].
• وفي 'أحد': ﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152].
• وفي 'حنين': ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25].
• وحين قسم غنائم 'حنين'، وجد بعض أصحابه في نفوسهم ما وجدوا.
• وكان يخطب فجاءت عير، فتبعها الناس، فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل، وهذا المجتمع = هو القمة، وهو المثل الأعلى للناس في هذه الدنيا، ولن تكون هذه المواقف سبباً للحط من شأنهم ومكانتهم -رضوان الله عليهم-.
لكن كيف بمن دونهم؟! بل لا يسوغ أن يقارن بهم.
إن ذلك يفرض على المربي أن يكون: طويل النفس، صابراً، عالي الهمة، متفائلاً.
2- الخطاب الخاص:
فكما كان يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص لفئات خاصة من أصحابه.
• فقد كان من هديه ﷺ حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما روى ذلك 'ابن عباس' -رضي الله عنهما- قال: (خرج النبي ﷺ يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القُلْب والخُرْص).
• بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة؛ فعن 'أبي سعيد الخدري' -رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله ﷺ: (غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك)، فواعدهنّ يوماً، فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال: «ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار» فقالت امرأة: (واثنين؟) فقال: «واثنين».
• وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة 'حنين' حين دعا الأنصار، وأَكَّدَ ألا يأتي غيرهم، وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
3- مشاركة المربي العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على (إعطاء الأوامر، ومراقبة التنفيذ)، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول ﷺ، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
• فشاركهم في بناء المسجد: كما روى 'أنس بن مالك' -رضي الله عنه- قال: (قدم النبي ﷺ المدينة، فنزل أعلى المدينة، في حي يقال لهم: 'بنو عمرو بن عوف'، فأقام النبي ﷺ فيهم أربع عشرة ليلة).
• وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي ﷺ معهم وهو يقول: «اللهم لا خير إلا خير الآخرة؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة».
• وشاركهم في حفر الخندق، فعن 'سهل بن سعد الساعدي' -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله ﷺ في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب، ويمر بنا فقال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة».
• وكان يشاركهم في الفزع للصوت، فعن 'أنس' -رضي الله عنه- قال: كان النبي ﷺ أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي ﷺ وقد استبرأ الخبر وهو على فرس 'لأبي طلحة' عري وفي عنقه السيف وهو يقول: «لم تراعوا! لم تراعوا!»، ثم قال: «وجدناه بحراً»، أو قال: «إنه لبحر».
• وأما مشاركته لهم في الجهاد، فقد خرج في تسع عشرة غزوة، بل قال عن نفسه: «ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية».
فهذه المشاركة تدفع للتوازن بين مراقبة القدوة والتسليم لاتباعه، وبين التعويد على العمل والمشاركة، فهذا التوازن -بلا شك- أكرم لهم، وأنفع من إلغاء دورهم، وتحولهم إلى مجرد آلات صماء. إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم، ويعلي شأنه، ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس. عكس أولئك الذين يدعون للعمل، ويربون عن غير قرب، وقد عبّر عن هذا المعنى حداء أصحاب النبي ﷺ:
لئن قعدنا والنبي يعمل ×× لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم.
4- التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معانٍ عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أثَّر فإن أثره يبقى باهتاً محدوداً. أما النبي ﷺ فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتأكد من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها.
• يشكو إليه الحالَ 'أبو بكر' -رضي الله عنه- وهما في الغار، فيقول ﷺ: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
• ويسأله رجل في الميدان والمعركة: (أرأيت إن قتلتُ؟) فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد، فعن 'جابر بن عبد الله' -رضي الله عنهما- قال: قال رجل للنبي ﷺ يوم أحد: (أرأيت إن قتلتُ، فأين أنا؟) قال: «في الجنة»، فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل.
• ويوصي 'علياً' -رضي الله عنه- بالدعوة، ويذكِّره بفضلها، وذلك حين بعثه داعياً إلى الله مجاهداً في سبيله، فعن 'سهيل بن سعد' -رضي الله عنه- قال: قال النبي ﷺ يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»، فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال: «أين 'علي'؟» فقيل: (يشتكي عينيه)، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال: (أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟)، فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم».
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرّجت الجيل الجاد العملي، الذي لم يتربّ على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً.
5- الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين خطاب للجميع صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً = إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها، ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة تُختار بعناية وتُربى بعناية. لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي ﷺ وتربيته لأصحابه؛ فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي ﷺ وعلى رأسهم 'أبو بكر' و 'عمر'؛ مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون إعداداً وتربية أخص من غيرهم.
• عن 'ابن عباس' -رضي الله عنهما- قال: (إني لواقف في قوم، فدعوا الله 'لعمر بن الخطاب'، وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: (رحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: «كنتُ و'أبو بكر' و'عمر'، وفعلتُ و'أبو بكر' و'عمر'، وانطلقتُ و'أبو بكر' و'عمر'» فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما) فالتفتُّ، فإذا هو 'علي بن أبي طالب').
• ومنها قصة 'أبي هريرة' حين كان بواب النبي ﷺ، فاستأذن 'أبو بكر'، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة»، ثم استأذن 'عمر'، ثم 'عثمان'.
• وما رواه 'أنس بن مالك' -رضي الله عنه- حدثهم أن النبي ﷺ صعد أُحُداً و'أبو بكر'، و'عمر'، و'عثمان'، فرجف بهم فقال: «اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي ﷺ، وصدِّيق، وشهيدان».
• ومثله ما رواه 'أبو هريرة' -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ كان على حراء هو و'أبو بكر'، و'عمر'، و'عثمان'، و'طلحة'، و'الزبير'، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله ﷺ: «اهدأ؛ فما عليك إلا نبي، أو صدِّيق، أو شهيد».
• ويحكي لنا أحد أصحاب النبي ﷺ عن توجيه خاص بهم، حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس. عن 'عوف بن مالك الأشجعي' -رضي الله عنه- قال: (كنا عند رسول الله ﷺ تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟» وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: (قد بايعناك يا رسول الله ﷺ)، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» فقلنا: (قد بايعناك يا رسول الله)، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: (قد بايعناك يا رسول الله؛ فعلامَ نبايعك؟) قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، -وأسرّ كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئاً»، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه). وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه -رضوان الله عليهم-، بل خاصاً بهؤلاء، فقد كان بعض أصحاب النبي ﷺ يسألونه ويعطيهم، ولم يكن يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال.
• ومن ذلك أنه كان لا يأذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يأذن لغيرهم. كما روى 'نواس بن سمعان' -رضي الله عنه- قال: (أقمت مع رسول الله ﷺ بالمدينة سنة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله ﷺ عن شيء). قال: (فسألته عن البر والإثم؟)، فقال رسول الله ﷺ: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس».
6- التدرج:
إن الجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع، والتعدد، والتنوع ما يجعل تحصيلها في وقت وجهد أمراً عسيراً ومتعذراً. لذا فإن التدرج كان معلماً مهماً من معالم التربية النبوية.
§ فخوطب الناس ابتداءً بالاعتقاد والتوحيد، ثم أمروا بالفرائض، ثم سائر الأوامر.
§ وفي الجهاد أمروا بكف اليد، ثم بقتال من قاتلهم، ثم بقتال من يلونهم من الكفار، ثم بقتال الناس كافة.
§ ومثل ذلك التدرج في تحريم الخمر، وإباحة نكاح المتعة ثم تحريمه، وهكذا..
لكن يبقى جانب مهم مع الإيمان بمبدأ التدرج. ألا وهو: أن ما نص الشرع على تحريمه لا يجوز أن نبيحه للناس. وما نص على وجوبه لا يجوز أن نسقطه عن الناس.
7- تربية القادة لا العبيد:
ثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا:
• هل نحن نعنى بتعليم الناس وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون، ويبدعون، ويبتكرون؟
• أم أننا نربيهم على تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة، وربما دون فهم لمضمون القول؟
• هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعوِّدهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما يبدو متعارضاً؟
• وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كماً هائلاً من المعلومات! وهو الآخر -لِمَا غرسنا لديه- يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره. وشيء من ذلك حق ولا شك، لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف ثم ينساها بعد ذلك أو يكون ظلاً لأستاذه وشيخه. ولأن تُعَلِّمَ الجائع صيد السمك خيرٌ من أن تعطيه ألف سمكة. وقل مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها!!
• فهل نحن نربي الناس على أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين؟ أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه كبراؤهم؟
أما النبي ﷺ فكانت تربيته لأصحابه لوناً آخر؛ ففي تربيته العلمية لهم خرّج علماء وفقهاء، ولم يكن يقتصر على مجرد إعطاء معلومات مجردة. وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية.
• ففي ميدان العلم واجهت أصحابه قضايا طارئة مستجدة؛ لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى، فاستثمروا نتاج التربية العلمية التي تلقوها، ولذا اجتهدوا في اتخاذ السجون، وجمع القرآن، وجلد الشارب، والخراج وغيرها.
• وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة، ثم اتسعت الدولة ووطئت أقدام أصحاب النبي ﷺ بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما وراء النهر، وبلاد المغرب حتى وصلوا غرب أفريقيا، ودفن منهم من دفن تحت أسوار القسطنطينية.
ولو تربى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا. فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي؟ أين هم من هذه التربية النبوية؟
8- التوجيه الفردي والجماعي:
لقد كان النبي ﷺ يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي المباشر، وبين التربية والتوجيه الجماعي.
• قال 'ابن مسعود' -رضي الله عنه-: (علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه).
• ومن ذلك: ما ورد عن غير واحد من أصحابه: (أوصاني رسول الله ﷺ).
• ومن ذلك: حديث 'معاذ' -رضي الله عنه-: كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال: «يا 'معاذ'، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟..».
• و'عبد الله بن عمرو بن العاص' -رضي الله عنهما- زوّجه أبوه امرأة فكان يتعاهدها، فتقول له: (نِعْمَ الرجل، لم يكشف لنا كنفاً، ولم يطأ لنا فراشاً) -تشير إلى اعتزاله- فاشتكاه إلى النبي ﷺ، فدعاه، فكان معه الحوار الطويل حول الصيام، وختم القرآن، وقيام الليل. وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصياً، بينما نجد أنه في مواقف أخر يوجه توجيهاً عاماً، كما في خطبه، ولقاءاته، وتوجيهاته لعامة أصحابه، وهي أشهر من أن تورد وتحصر. وها هنا مأخذ مهم في قصة 'عبد الله بن عمرو بن العاص' -رضي الله عنه- إذ إن النبي ﷺ دعاه، وناقشه منفرداً به، بينما نجده في موقف آخر شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس، فحين سأل طائفةٌ عن عبادته وتقالّوها وقالوا ما قالوا، صعد المنبر وخطب في الأمر. عن 'أنس' -رضي الله عنه- أن نفراً من أصحاب النبي ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم: (لا أتزوج النساء)، وقال بعضهم: (لا آكل اللحم)، وقال بعضهم: (لا أنام على فراش)؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني».
• ومثل ذلك: في قصة الذي قال: (هذا لكم، وهذا أهدي إليّ)، فعن 'أبي حميد الساعدي' -رضي الله عنه- قال: استعمل النبي ﷺ رجلاً من الأزد يقال له 'ابن الأتبية' على الصدقة، فلما قدم قال: (هذا لكم، وهذا أهدي لي)، فقام النبي ﷺ على المنبر، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: (هذا لك، وهذا لي)، فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده؛ لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: «ألا هل بلغت» ثلاثاً.
إذن فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية، ولا يسوغ أن تطرح بصفة عامة، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها؛ لأنها ربما كانت مشكلات فردية لا تعني غير صاحبها، بل قد يكون ضرر إشاعتها أكثر من نفعه. وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام الجميع. والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه.
9- تعويد المتربي على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء!! فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه.. إلخ، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية. وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات!! وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية. إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسؤولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم. وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية: أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا في برامجهم التي يقدمونها القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية، وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها. وحين نعود لسيرة المربي الأول فإننا نرى نماذج من رعاية هذا الجانب؛ فهو يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسؤولية لفرد أو فردين.
• فعن 'النعمان بن بشير' -رضي الله عنهما- قال: قال النبي ﷺ: «مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: (ما لك؟) قال: (تأذيتم بي)، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم».
• ومن ذلك أيضاً: استشارته لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك. وفي الاستشارة تعويد وتربية، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية، ولو عاش أصحاب النبي ﷺ على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي ﷺ يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم.
• فأرسل رسله للملوك، وبعث 'معاذاً' إلى اليمن، وأمّر 'أبا بكر' على الحج.
• بل كان يؤمِّر الشباب مع وجود غيرهم، فأمّر 'أسامة' على سرية إلى الحرقات من جهينة، ثم أمّره على جيش يغزو الروم، وولى 'عثمان بن أبي العاص' إمامة قومه. وهكذا.. فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن الله جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها.
وصلى الله وسلم وبارك على (إمام التربية) نبينا 'محمد'، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.