المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

متلازمة الصلاح الأسري

متلازمة الصلاح الأسري

لقد كرَّم الإسلام المسلم قبل مولده بأن أمر بإنشاء الأسرة المسلمة على أساس متين من الصلاح والتقوى والخلق الحسن.

لذلك جاء الأمر بتزويج الرجل الصالح ذي الدين والخلق، فقال رسول الله )صلى الله عليه وسلم(: )( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ((رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022(.

قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي):

"قوله إذا خطب إليكم، أي طلب منكم أن تزوجوه امرأة من أولادكم وأقاربكم، (من ترضون) أي تستحسنون (دينه)، أي ديانته (وخلقه)، أي معاشرته، (فزوجوه)، أي إياها (إلا تفعلوا)، أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال، و(فساد عريض)، أي ذو عرض، أي كبير؛ وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد، ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة. قال الطيبي: (وفي الحديث دليل لمالك رحمه الله، فإنه يقول لا يراعى في الكفاءة إلا الدين وحده)".

كما أمر الإسلام الرجل بأن يختار المرأة الصالحة من بين خيارات المال والجمال والنسب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ )) رواه البخاري (4802) ومسلم (1466).

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم:

"الصحيح في معنى هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين، …

وفي هذا الحديث الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شيء؛ لأن صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم).

وأوضح الإسلام بأن صلاح الأبناء قرين بصلاح الآباء والأمهات؛ لذلك كان من دعاء المؤمنين: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً) [ الفرقان: 74].

جاء في تفسير الطبري [10/319]: "سمعت كثيراً سأل الحسن، قال: يا أبا سعيد، قول الله: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) في الدنيا والآخرة؟ قال: لا بل في الدنيا. قال: وما ذاك؟ قال: المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله" أ.هـ.

فالمؤمن لا يكون إماماً للمتقين يُقتدى به حتى يُعرف بين الناس بصلاح أزواجه وذرياته.

وذات المرأة الصالحة هاجر عليها السلام التي قالت لزوجها إبراهيم عليه السلام حين تركها بواد غير ذي زرع: (آلله أمرك بهذا؟) فقال لها: نعم. فقالت: (إذن لا يضيعنا!).

 ذات المرأة هي التي أنجبت ابناً صالحاً باراً بوالديه، حتى إنه حين قال له أبوه إبراهيم عليه السلام: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ) ما كان جواب الولد المؤمن الصابر إلا أن قال دون خوف أو تردد: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].

بل إن الصلاح يعود بالخير والبركة على الأولاد والأحفاد، كما جاء في سورة الكهف: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا( [الكهف:82].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [6/185]:

"وقوله: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حُفِظَا بصلاح أبيهما، ولم يُذكَر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع. فالله أعلم".

وكما ينفع الأبناء صلاح الآباء كذلك ينفع الآباء صلاح الأبناء، فيكونون لهم قرة أعين في حياتهم، وينفعونهم بدعائهم بعد موتهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة: إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )) رواه مسلم (1631).

قال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين: "ولد صالح يدعو له، ولد يشمل الذكر والأنثى؛ يعني ابن أو بنت، يشمل ابنك لصلبك وابنتك لصلبك، وأبناء أبنائك، وأبناء بناتك، وبنات أبنائك، وبنات بناتك، إلى آخره، ولد صالح يدعو للإنسان بعد موته، هذا أيضا يثاب عليه الإنسان".

إذن فصلاح الأسرة المسلمة يستلزم صلاح الأب ديناً وخلقاً، واختياره للزوجة الصالحة.

ومن ثم فهذا يستلزم أن ينجب الاثنان أبناءً صالحين يكونون قرة أعين لوالديهما في الحياة، وزخراً لهما بعد الموت بدعائهم، كما يحفظ الله عز وجل الأبناء بصلاح الآباء، ويرفع سبحانه درجة الذرية في الجنة ليلحقوا بآبائهم؛ فتقر أعينهم بهم.