د. سلمان بن فهد العودة
إذا كنا نعلم أن التشدد ليس ناتجاً من التقصير في الدين، فنحن جميعاً نعلم سبب ترك الصلاة، أو سبب التقصير في العبادات، إن سببه هو التهاون في حدود الله، وضعف الإيمان، وقلة الدين والورع، لكن قد يخفى على الكثيرين أسباب التشدد في الدين، مع أن الإسلام هو دين اليسر والسماحة؛ إنَّ هناك أسباباً كثيرة لا أستطيع أن أنفرد بها لكنني رصدت أربعة أسباب، أرى أنها أسباب رئيسة في هذا الموضوع:
أما السبب الأول فهو: الجهل في الدين:
إذ لا يكفي للإنسان حتى يكون مستقيماً على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون متحمساً للدين راغباً فيه مقبلاً عليه، ولله در الإمام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد قيل له: [[يا أبا عبد الرحمن، هاهنا قوم في المسجد يفعلون فعلاً غريباً، قد جمعوا الحصى، وحولهم شيخ لهم يقول: سبحوا ثلاثاً وثلاثين فيعدون ثلاثاً وثلاثين حصاة يسبحون.. كبروا ثلاثاً وثلاثين، هللوا ثلاثاً وثلاثين.. وهكذا، فقال قائل: هؤلاء على خير وعلى حق؛ لأنهم يسبحون الله، ويحمدون الله، ويكبرون الله، ويهللون، ففعلهم من جهة متلبس بالخير والعبادة، ولكن -من جهة أخرى- هذا العمل رفضته نفوس الصحابة الذين لم يألفوا البدعة، فجاء آتيتهم إلى ابن مسعود وهو عالم ووعاء من أوعية العلم والسنة، وقال: يا أبا عبد الرحمن والله لقد رأيت في المسجد شيئاً وما رأيت إلا الخير.. فأخبره بما رأى، فجاء إليهم عبد الله بن مسعود، وقال لهم: والله إنكم إما قد سبقتم أصحاب محمد علماً، أو أنكم على ضلالة.. أنتم أحد أمرين: إما أن عندكم علماً خفي على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا بطبيعة الحال المقصود به التعجيز؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يقول: إنه أعلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم غضاً طرياً من فيه إلى آذانهم صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأرضاهم -لقد فقتم أصحاب محمد علماً أو أنكم على ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما قصدنا إلا الخير- تعذروا أن دافعهم إلى هذا العمل هو حب الخير، فهل شفع لهم هذا الأمر عند ابن مسعود؟ لا، قال لهم هذا الإمام كلمة يجب أن نحفظها وأن نرددها: وكم من مريدٍ للخير لم يبلغه]]. إن الذي يريد الخير ويريد الطريق المستقيم، يجب أن يعلم أنه ليس هناك طريق مستقيم إلا واحدٌ فقط، هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع الطرق والأبواب غيره هي أبواب تأخذ لسالكها ذات اليمين، وذات الشمال عن الطريق المستقيم، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. إذاً السبب الأول هو الجهل بالدين، إذ أن العالم يعلم أنَّ النص الوارد عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المقياس في الحلال والحرام، ولذلك لما أمرنا الله عز وجل بالجهاد، قال لنا: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] هذه قاعدة مهمة: كل أمر جاء به الدين فهو يسر وسهولة، لا حرج فيه مهما ظن الظانون أنه حرج، وعكس ذلك: كل أمر لم يأت به الدين ولم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أمر عفو ومباح في الأصل، مهما ظن الظانون أن الدين غيره، وأن في إتيانه حرجاً. إذاً الحرج في مخالفة النص، واليسر في اتباع النص، فما جاء به الله ورسوله، فهو اليسر الذي لا يسر في غيره، وما نهى الله عنه، فإتيانه هو الحرج الذي فيه الحرج كل الحرج، وهذه قاعدة مهمة، تشتط أهواؤنا أو عواطفنا ومألوفاتنا، فما ألفنا فهو من الدين، وما جاء غريباً علينا استنكرناه، ثم نفيناه عن الدين، والمثل القديم يقول: "الناس أعداء ما جهلوا" فليس كل ما جهله الناس حراماً، ولا كل ما عرفه الناس وأقروه مباحاً، بل الحرام ما حرمه الله أو رسوله بالنص الصحيح، والحلال ما أباحه الله ورسوله بالنص الصحيح الصريح، أو سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، وهناك قواعد كثيرة تضبط هذا الأمر، ليس هذا مجال سردها. أيها الإخوة: إن المسلم الذي جرد الاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يتردد في الانقياد والتسليم لكل أمر ورد من الله ورسوله، ولكن لا يحرم من تلقاء نفسه، ولا يعمل شيئاً على سبيل العبادة لله سبحانه وتعالى إلا بتوقيف، وليعلم الجميع أن محرم الحلال كمحلل الحرام سواءً بسواء، فإنك لو عبدت الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج من هذه العبادة سالماً، فضلاً عن أن تتقرب إلى الله بها، بل إن هذه العبادة وبالٌ عليك، أنت تتعب فيها، وتجهد فيها، وتضني نفسك، وتسهر ليلك، أو تتعب نهارك في عبادة لم يشرعها الله، ومع هذا كله تأثم بهذا العمل، كما أن الإنسان الذي يقول: إن الخبز أو التمر حرام، هو بالضبط مثل الإنسان الذي يقول: إن الخمر حلال، فكلاهما سواء. لا يكن هوانا أيها الإخوة مع من يميل إلى التحريم، فإذا كان الإنسان يقول: هذا الشيء حرام، ملنا معه لأنه يعظم حرمات الله، ويمنع الناس من أمور ما جاء بها الدين، كلا! يجب أن نعلم أنه من قال عن شيء مباح: إنه حرام، فهو كمن قال عن شيء محرم: إنه حلال، وهما بمنزلة واحدة.
السبب الثاني: الطبيعة المتشددة:
فالله عز وجل خلق الناس متفاوتين في كل شيء، ثم كل إنسان يولد ويعيش ويتربى في بيئة، تؤثر عليه تأثيراً كبيراً سلباً أو إيجاباً، ومن الناس من هو لين الجانب، واسع الصدر، هادئ الطبع، وبشوش، وبسام، مقبل على الناس، محبوب لديهم، محسن إليهم. ومن الناس من هو غليظ، جلف جافٍ، لا تراه إلا مكفهراً، مقطب الجبين، منقبضاً، معرضاً عن الناس. ومنهم من هو بين ذلك، وهذه الطبائع من غير الممكن أن يتجرد عنها الإنسان، فإذا غفل المرء عن هذه الطبيعة الخاصة به، وصار يتكلم باسم الدين والفتيا، ويلتمس دون أن يشعر من الأدلة والأحكام، والفتاوى ما يناسب هذه الأدلة، ويتمسك به ويبتعد عن غيره ويتركه، فحينئذ يكون في ذلك الخطر الشديد.
السبب الثالث: ضيق عقول كثير من الناس:
وهذا يحول بينهم وبين سماع الحق، ويجعلهم كما وصف الله عز وجل: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32]. إنَّ صاحب الحق لا يخاف على الحق الذي معه، فالذي يخاف هو صاحب الباطل، الذي يخشى أن ينكشف باطلة وينفضح، أما صاحب الحق فيقول: الحق يملء فيه، ومستعد أن يقف أمام أي إنسان، ويأخذ معه ويعطي، ويرد عليه بالبينات والحجج. ولذلك فإن ما يفعله كثير من الناس من الانطواء على أنفسهم، ونظرتهم إلى الآخرين على أنهم لا شيء عندهم، وأن الخير محصور فيهم هم فحسب، إنه خطر عظيم، وقد يودي بالإنسان والعياذ بالله إلى شيء من العجب والغرور، وهذا لا شك محبط للإعمال.
السبب الرابع: الرد المعاكس للفساد:
وهو ردة فعل هؤلاء القوم ضد الفساد المنتشر، فإن العلماء يقولون: كل فعل له ردة فعل، فانتشار الفساد وكثرة الجرائم، وانفتاح الناس على الدنيا واستغراقهم فيها جعل هناك من يقف في الطرف الآخر ليتجرد من الدنيا ويبالغ في ذلك حتى تعدى الحدود المشروعة. ولو نظرنا إلى نشأة الصوفية في الإسلام، لوجدناها كانت نتيجة انفتاح المسلمين على الدنيا، ولو نظرنا إلى نشأه الخوارج، لوجدناها أنها نشأت في ظروف مشابهة، وهكذا تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً، واختلفوا في التيسير والتشديد، وليس يشفع للمتشدد أنه إنما شدد غضباً لحرمات الله. كما أنه لم يشفع للـخوارج أنهم تشددوا حمية للدين، فلقد قال الصادق المصدوق -في أحاديث صحاح متواترة عن الخوارج : {أنهم شر الخلق والخليقة، يمرقون من الدين كما يمرق السهم عن الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} ووصفهم بقوله: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، ومع ذلك يقرءون القرآن رطباً لا يجاوز حناجرهم} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم عند الله من الأجر لنكلوا عن العمل} وسماهم كلاب النار، كل ذلك وهم يقولون: إن العاصي كافر، لو سألناكم وسألنا غيركم، ما هو الذي جعل الخوارج يحكمون على العصاة بأنهم كفار؟ هل هو التساهل في الدين؟ هل هو انتهاك لحرمات الله التشدد في الدين وتعظيم حرمات الله؟ لا، إنما هو بصورة تعدت ما شرع الله؛ حتى صاروا يبحثون عن النصوص التي توافق أهواءهم، ويعملون بها، ويأتون إلى النصوص التي لا توافقهم فيدفعونها عنهم بالأيدي، ويدعونها، ويتخلصون منها بالتأويل أو التضعيف أو غير ذلك. فلينظر كل امرئ لنفسه أنه لا يشفع له أن يكون غيوراً، إنما يشفع له أن يكون وقافاً عند حدود الله، وإن اتباع الهوى كما يكون في التساهل، يكون في التشدد، فأهواء الناس تختلف.