الشيخ :د. مدثر أحمد إسماعيل
الحمد لله الذي جعل لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأرسل إلينا رسولاً رؤوفاً رحيماً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في سبيل الله جهاداً عظيماً.
أما بعد..
فإن قضية التأليف بين فصائل الأمة، والسعي في إصلاح ذات بينها وجمع شملها على الحق والهدى، ورأب صدعها والتقريب بين فئاتها المتنازعة من أعظم أصول الإسلام، ومن أفضل أبواب الخير، وضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله، والأمة لم تؤت من ثغرةٍ مثل ما أتيت من جانب فرقتها وتنازعها والصراع بينها، فاستحقت وعيد الله:( وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)الأنفال الآية 46
معنى الاتفاق في اللغة:
الاتفاق من مادة وفق، والوفاق: الموافقة، والتوافق:الاتفاق والتظاهر. قال ابن سيده: وفق الشيء ما لاءمه. ومنه الموافقة، تقول وافقت فلاناً في موضع كذا أي صادفته، ووافقت فلاناً على أمر كذا أي اتفقنا عليه معاً.
مفهوم الاتفاق في الشريعة الإسلامية
الاتفاق والتعاون على البر والتقوى مبدأ شرعي، وواجب عام بين المسلمين بنص القرآن الكريم، قال الله (تعالى): (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى) [سورة المائدةالآية 2[، والبر إذا اقترن بالتقوى يقصد به ما تعدى نفعه إلى المسلمين من الأعمال المشروعة. والتقوى تختص بما يقتصر نفعه من الأعمال الصالحة على خاصة الإنسان. وبهذا تحوي دلالات الآية مجالاً خصباً يتسع لكل عمل صالح يتحقق نفعه وخيره بالاتفاق والتعاون على مستوى الفرد والأمة.
فالاتفاق والتعاون أمران مطلوبان، أوجبهما الشرع ولا يستغني عنهما في الواقع، والاختلاف غير المذموم أمر واقع أقره الشرع ضرورة وفطرة، وبعض الناس يغيب عنه منهج الإسلام الوسط في أمور شتى من بينها الاتفاق والتعاون حال الاختلاف؛ وحجم وطبيعة ذلك الخلاف الذي يوجب الإسلام الاتفاق والتعاون رغم وجوده، وذلك المطلب الشرعي المهم هو المحور الذي تدور حوله هذه الدراسة التي نرى أنها تكون مجالاً للنقاش الموضوعي بين ذوي الاختصاص، والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.
إنّ موضوع الاتفاق بين المسلمين موضوع قديم حديث، ينبغي على الأمة ألا تمل طرحه؛ لما له من أهمية في بناء كيانها؛ فالموضوع يستقي أهميته من عدة جوانب:
الجانب الأول: تركيز القرآن الكريم والسنة النبوية على هذه القضية، واعتبارها هدفاً وغاية من غايات هذا الدين وأصلاً من أصوله.
والجانب الثاني: هو المنظور التاريخي، الذي يتمثل في بيان دور هذه الوحدة في بناء حضارة الإسلام المجيدة؛ فالحديث عن الاتفاق حديث عن عوامل بناء دولة الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تمثلت في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
أما الجانب الثالث: فهو منظور الواقع، الذي يتمثل في حاجة المسلمين في هذا الزمان إلى هذا الاتفاق حتى يستعيدوا ريادتهم في قيادة الأمم، فالحديث عن الاتفاق بأشكاله وصوره المتنوعة هو حديث عن مستقبل الإسلام، وحديث عن الحضارة الإسلامية المقبلة؛ إذ لن يتسنى للمسلمين في زماننا هذا استعادة هويتهم وشهادتهم على الناس إلا باتفاقهم.
ما هو الاتفاق الذي يريده الشرع ويدعو إليه؟:
إننا إذ ندعو إلى الاتفاق في واقع المجتمعات الإسلامية نسعى إلى تحقيقه ضمن مفهومه الشرعي الواسع والشامل بكل أشكاله وألوانه،فنريد:
الفكرية أو التصورية: وتعني اتفاق الأمة على الأسس المنهجية في أصول الإيمان وأصول الأحكام. أما الإيمان فيتضمن الإيمان بالله وما يجب له من حق العبودية والطاعة، والإيمان بألوهيته وربوبيته وأسماءه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره وبسائر أمور الغيب، أمّا أصول الأحكام فتتضمّن المحكم من العبادات والمعاملات والسياسة الشرعية.
ونريد الوحدة الثقافية: والتي تعني اتفاق الأمة على الآليات التي يتم من خلالها إنجاز الأمور النظرية علمياً في أرض الواقع.
ونريد الوحدة السياسية: والتي تعني وجود كيان سياسي واحد تتوجه إليه أنظار المسلمين كافة، والذي يشكل المرجعية لتمكين منهج الله في واقع الناس.
ونريد الوحدة الوجدانية: والتي تمثل المشاركات العاطفية التي يحس بها المسلمون تجاه بعضهم، فيفرح المسلم لفرح إخوانه المسلمين، ويحزن لأحزانهم، ويتألم لآلامهم. بهذه الوحدة وبمفهومها الواسع، قام الكيان الحضاري للأمة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
السبيل إلى الاتفاق:
لقد أرشد الله تعالى إلى سبيل الاتفاق، فقال }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً..{ [سورة آل عمران: 103"?[ فالسبيل هو الاعتصام بحبل الله المتين، والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار نصوص الوحيين هما المرجعية في تحديد الغايات، والمنطلق، والمسيرة (آليات العمل(، للوصول إلى الأهداف المرسومة. وإن هذه الأمة لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً يتفق ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة إنَّ هَذِهِ?أوجه التغيير ومواكبة تطورات الزمان والمكان، يقول تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [سورة الأنبياء:الآية 92 [وإننا بقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير الفاعل في واقعها للخروج من أزمتها الراهنة بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل للتغيير هو (تغيير الذات): (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [سورة الرعد: الآية 11[ ومن مقتضيات تغيير الذات: التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس من شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم. وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف والشعور بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي على ضعافهم ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة لهم، فإن هذا بمجموعه يولِّد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بحالة الجسد الواحد في قوله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الاتفاق ودعا إليه، ووجَّه المسلمين نحوه، شرع ما يؤدي إلى تحقيقه ويعين عليه، ويعمل على صيانته. فشعائر الإسلام كل منها رمز للاتفاق، فشرع صلاة الجماعة التي يصلي فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج البحر، لا يشوبها تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين إلى قبلة واحدة، يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي في الإسلام، والتي تظهر فيها معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام الذي تظهر فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر العالمي الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبون نداء رب واحد.
إن بعض الغربيين يستغربون جدًا أن تتكلم الشعوب العربية لغة واحدة، ويفهم كل منهم عن الآخر، ويشتركون في شعائر وعبادات يومية وموسمية يكون الاتفاق في أدق تفاصيلها: في الأذان والإقامة، ومواقيت الصلاة، وعددها وعدد ركعاتها، وسرها وجهرها، وكذا الجمعة وخطبتها، وكذا الصوم والزكاة، والحج وما فيه من الاتفاق في المواقيت الزمانية، وورود كل الحجيج إلى المشاعر المقدسة، ومع ذلك يكون بينهم هذا التفرق والتناحر!
لا شك أن الذي يمنع المسلمين من الاتفاق أو التفاهم هو ضعف النظر في العواقب وعدم الانتباه لما يحيط بالمسلمين من أخطار.
لماذا تقام تكتلات كبيرة لأعداء الإسلام، ونحن نمارس هواية التشرذم والتفرق ونكثر من عدد اللافتات والعناوين؟ أيقيم أعداء الإسلام دولاً طويلة عريضة على أفكار وكتب من اختراع بشر، بل هي من حثالة أفكار البشر، وكتاب الله بين أيدينا؟ وتفسيره بين ظهرانينا؟ وهو حبل الله المتين، وهو العروة الوثقى لا انفصام لها، ويبقى المسلمون على حالهم المزرية هذه؟
ألا يحق لنا أن نطمع بمطلب متواضع من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية وهو التفكر بما يدور حولهم؟ وأن يتفق المسلمون فيما بينهم على تذليل الصعاب، على قدر ما يمكنهم الاتفاق؟ وأن يرتضوا لأنفسهم ما رضيه لهم الله ورسوله في مجال الأصول: كتاب الله والسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة؟
فواقع المسلمين في هذه الأيام يضطرهم للمطالبة بالحد الأدنى من الاتفاق والتعاون والتنسيق، بدلاً عن التشهير والتمزيق، فنحن نمر بفترات حرجة لا نحتاج إلى التعاون والتنسيق بل إلى الانصهار في عمل كبير يعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، ويشعرهم بالثقة المفقودة، يعيد إليهم الأمل والرجاء، إننا نحتاج إلى إنكار للذات بالدرجة الأولى، وإعمال الفكر في مستقبل المسلمين والإسلام، وتأتي الخطوة التالية بالعمل الدؤوب الذي لا يعرف الراحة، وإيجاد البرامج الجادة التي توحد ولا تفرق.
إن الساعات الحاسمة في التاريخ هي الساعات التي تتحول فيها الأمة كلها إلى (ورشة عمل)، كلٌّ له مكانه وكل له مكانته، يشعر كل فرد أنه يشارك في البناء بل إنه ضروري لهذا البناء، هكذا قام المجتمع الإسلامي الأول عندما شارك المسلمون كلهم في بناء المسجد بمن فيهم قائد هذا المجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين وتنازلوا عن شطر أموالهم، ونفَّذوا هذا عملياً ولم يكتفوا بالأدبيات والكلام عن الأخوة الإسلامية أو (يجب علينا أن نبني مسجداً!).
لا شك أنّ الخطوة الأولى هي الاتفاق المخلص والتعاون الصادق، ولكن كم نتمنى أن يتلو هذه الخطوة خطوات. فإحياء الأمة ودعوتها إلى استئناف دورها الخيري لا يتأتى إلا بأعمال كبيرة، وأرجو أن لا تقف طموحاتنا عند الحد الأدنى والذي إذا استمر لا ينتج إلا الضعف، وتمر السنون دون أن نحقق عملاً كبيراً يرضي الله ويغيظ أعداء الإسلام ويشفي صدور قوم مؤمنين.
أين الولاية والنصرة؟:
من المبادئ الأساسية في الدعوة الإسلامية: التعاون والتناصر والتناصح بين المؤمنين. وتطبيق مبدأ الأخوة تطبيقاً عملياً لا يتأتى بدون تلك المعاني، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون) [سورة المائدة: 55 ــ 56 ">، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ــ كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))، ويقول ــ كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
ونحن الإسلاميين بحاجة إلى أن نسأل أنفسنا بصدق:
سؤال تجيب عنه أحوالنا:
هل يوالي بعضنا بعضاً، وينصر بعضنا بعضاً حتى يوالينا الله وينصرنا على أعدائنا؟
سؤال يجيب عنه واقعنا:
هل نعادي الأعداء حقاً، ونطيع أمر الله بالإعداد والاستعداد لهم؟
سؤال يجيب عنه المستضعفون منّا:
هل نؤدي واجب النصرة لإخواننا ضد أعدائهم وأعدائنا بما يرفع الكرب عنهم والإثم عنا؟
سؤال سيعاد علينا يوم بعثنا.
إن هذه التساؤلات وغيرها ستظل تتهاوش في فضاء واقعنا المؤلم، حتى نضع لها إجابات بالعمل قبل القول، وبالحركة مع التنظير، وبالإتقان المقترن بالنية؛ فالتحديات التي تواجه الإسلاميين اليوم وقبل اليوم، وفي الغد وبعد الغد، تفرض عليهم أن يكونوا على مستوى المرحلة، وعلى مستوى المسؤولية، وعلى مستوى الأمانة.
من أخص صفات أولياء الله أنهم يوالون من والى الله، ومن ذلك أن نكون نحن الإسلاميين أفراداً وجماعات كالبنيان المرصوص كما يحب الله؛ فأين رصّنا؟ بل أين بنياننا؟ أين الذلة على المؤمنين مع العزة على الكافرين؟ أين فريضة التعاون على البر والتقوى؟ أين سجية التراحم والتناصح والتسامح؟ أين إخباتنا وخشوعنا وضراعتنا إلى الله ومجافاة الهجوع بالدعاء والرجاء؟
أين دعمنا للصامدين الصابرين الذين يدافعون نيابة عنا، ويخففون الإثم عن كواهلنا، ويدفعون الشر عن أبوابنا؟
أين وأين؟ نتساءل وحق لنا أن نتساءل: ألسنا مكلفين قبل سائر المكلفين بحمل أعباء هذا الدين؟ وحماية جنابه من شرور الأعداء الظالمين؟ أعداؤنا استعدوا بالدين الباطل لنا، فأين استعدادنا بالدين الحق لهم؟ أعداؤنا يطرقون أبوابنا وبأيديهم توراة وإنجيل محرفان؛ فهل أوصدنا تلك الأبواب، وصددنا ذلكم الطغيان وبأيدينا السُّنَّة والقرآن؟
متى نتصارح.. حتى نتصالح؟
الأمة جريحة، ولكن أخشى أن نكون أخطر جراحها، ولو صلحنا لأصلح الله حالها بنا، ولأنزل النصر عليها إكراماً لسعينا وعملنا وجهادنا، ولغيَّر ما بها وبنا بتغييرنا لأنفسنا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) [سورة آل عمران الآية : 103، يا الله ماذا لو اعتصمنا بحبل الله (جميعاً) ماذا يكون حالنا؟ إننا سنكون كل شيء ولن يقف أمام اعتصامنا بالله أي شيء.
نحن أمام مسؤوليات جسام تستدعي تجييش أمة، وإعداد شعوب، وترتيب طاقات، وحشد إمكانات، نحن أمام عدو عادٍ وعاتٍ متجبر مزود بأحدث وأخطر سلاح، ومدعوم من أخبث وأطغى القوى، ومجهز بأمكر وأكبر الخطط. لنغتنم اللحظة، ولننتهز الفرصة، ولنوحد صفوفنا أمام التحديات والمحن؛ فتلك فريضة الوقت.. ولنطهر قلوبنا من البغضاء والشحناء والإحن؛ فتلك أمانة المرحلة.. ولننظر بعين المسؤولية إلى خطورة الواقع؛ فتلك رسالة الساعة، ورسالتنا بوصفنا مصلحين في الأمة، لن يؤديها غيرنا، مهما تمنينا على الله الأماني.
من المفترض أن يقود الشعوب الإسلامية العلماء والدعاة، وإذا كانوا غير مؤهلين لذلك ولم يستطيعوا الجلوس على مائدة الحوار والتفاهم ومدّ جسور التعاون ويتوجوه بالاتفاق والتكامل فلمن تترك الساحة؟
إن الأصل أن يضيف بعضنا ما صنع من خير ولو قليلاً إلى جانب ما صنع إخوانه، لا أن ينزع بعضنا من الآخرين ما أنجزوه ليلقي به في تُرَعِ الضياع والضعف والضعة التي تصب جميعاً في نهر يحيا به الأعداء. ومع كل ذلك فالإسلاميون هم أولياء الله على الرغم مما يسرق الشيطان من كمال ولايتهم، فلا نعرف لله ولياً إن لم يكن أولياؤه هم عُمَّارَ المساجد، ومقيمي الصلوات، والباذلين للجود، والداعين إلى التوحيد، والمعلمين الخير للناس. ولكن أولياء الله بشر ممن خلق، يضعفون ويقوون، ويجتمعون ويتفرقون، ويطيعون ويعصون، ولذلك فهم يُنصَرون ويُهزمون، ويَعِزُّون ويذلون، بمقدار ما أخذوه من أسباب الولاية وأركان الهداية، وعوامل النصرة وموجبات العزة،ولا بد لنا أن نقيس قدر ولايتنا بما يتحقق فينا من ثمرات الولاية.
فمتى يتعصب الإسلاميون لبعضهم؟ متى يتعصب الإسلامي للإسلامي لمجرد أنّه إسلامي؟ متى يمتنع الإسلاميون ببعضهم من تسلط أعداءهم؟ وأين وصيته صلى الله عليه وسلم ((المسلمون يد واحدة على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم))؟ لو تدبرنا القرآن لوجدنا أنه ذكر قصص الأنبياء وكيف امتنعوا بأقوامهم أو قبائلهم عصبية من أذى الكفار، قال تعالى حاكياً عن شعيب عليه السلام وقومه: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ومَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [سورة هود:91">. فهذه الآية تنبئنا أن الكفار لم يستطيعوا الوصول إلى شعيب بالأذى،خوفاً من قبيلته. وكذلك ذكر تعالى في صالح وقومه (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وإنَّا لَصَادِقُونَ) [سورة النمل: 49">، فهم يخافون من أولياء صالح عليه السلام ــ عشيرته الأقربين ــ ولو فعلوا به سوءً لفعلوه سراً، ولحلفوا لهم أنهم ما فعلوا شيئاً، وقال تعالى مخاطباً نبينا عليه الصلاة والسلام: (ألم يجدك يتيماً فآوى) ]سورة الضحى الآية 6[أي آواك إلى عمك أبي طالب، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآيات: "وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر، ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه السلام ليس له عصبة ظهر هذا فيهم لقوله تعالى: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيد) [سورة هود: 80">"(1). وهناك فرق بين الموالاة والمداهنة، وبين أن يعرض قريب أو صديق خدماته ومساعدته لمسلم ويستفيد المسلم من هذا لدفع ظلم أو تخفيف ضرر، ويبقى الأصل هو عدم موالاة الكفار وزجر أهل الفسوق والبدع، وكل هذا يحتاج لفقه في الدعوة واستقامة على الطريق.
شرعية العمل الجماعي:
لا شك أن العمل الجماعي واجب شرعي، ولا شك أن ما هو مطلوب من الجماعات من إنجازات لا يقدر فرد أو أفراد متفرقون أن يقوموا به، ومن هنا فليس من الإنصاف أن ننكر العمل الجماعي من خلال جماعات أهل السنة العاملة في الساحة الإسلامية، ولا أن يتخلى الأفراد عن جماعاتهم التي يتعاونون معها، ولكننا نريد من الجميع أن يدركوا أن ولاءهم لجماعاتهم يكون في إطار ولائهم للجماعة الأم: جماعة أهل السنة والجماعة، وأن لا يقدموا المصلحة المتوهمة لجماعتهم الصغيرة على المصلحة الشرعية الحقيقية للجماعة الكبيرة. فلا ترفع أسماء ورايات يدعى الناس إليها، ويترك الأصل الذي ينبغي الدعوة إليه، ولا تكون هذه الأسماء داعية للتعصب لشخص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكون هذه الأسماء هي ما يعقد عليها الولاء والبراء، بل الموالاة والمعاداة تكون على الإسلام، والدعوة تكون إلى جماعة أهل السنة، وليس إلى جماعة فلان أو طريق فلان، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى دعوة مفتوحة عالمية لكل الأمة، والله عز وجل قد أنعم علينا وكفانا باسم الإسلام: (هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(الحج :78[
نقول لكل العاملين المخلصين: لا يمتهد السبيل للقبول المرحلي بتعدد فصائل العمل الإسلامي، ألاّ إذا كان تعدد تنوع وتخصص، بأن اتفقت هذه الجماعات فيما بينها على أن تتكافل في أداء فروض الكفاية. فهذه كتيبة تعمل على المحافظة على السنة تخريجاً وتحقيقاً، وتسهر على بيانها للناس درساً وتصنيفاً. وهذه كتيبة تهتم بتصحيح عقائد الأمة ومحاربة البدع والخرافات. وهذه كتيبة تحيي في الأمّة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحثها على القيام بها. وهذه كتيبة تعمل على إحياء فريضة الجهاد وتقدم لها أمثلة في الفداء والتضحية. وهذه كتيبة تعمل على مقارعة المبطلين من الحكام وجبابرة السياسة، وتسعى إلى أن ينفذ صوت الإسلام على تلك المواقع، وأن تنتزع منها ما يمكن انتزاعه لمصلحة الأمّة. وهذه كتيبة تسعى لدعوة العوام وإخراجهم من بيئة الغفلة إلى بيئة الذكر ومن بيئة المعصية إلي بيئة الطاعة. ولو كان الأمر على هذا النحو، وتمّ الاتفاق بين هذه الجماعات على ذلك وقسموا العمل فيما بينهم على هذا النحو، وكفّوا ألسنتهم عن التقاذف بالتهم والمناكر، وجمعتهم المجالس للتنسيق والتعاون وتبادل الرأي، وجددوا مفهوم الأمّة في العمل الإسلامي، ودعوا إلى نبذ التعصب والتحزب الجاهلي الذي يربط الولاء باسم أو رسم دون الكتاب والسنة؛ لو فعلوا ذلك لهدوا إلى سواء السبيل.
إن الأعمال الكبيرة لا يقوم بها فرد وإنما تقوم بها مجموعات متعاونة تعمل حسب خطة تكاملية مدروسة، ولن نستطيع الوصول إلى أهدافنا عبر أفراد، بل مجموعات منظمة تضمن استمرار العمل وتعطيه الفاعلية، فتعالوا نجتمع معاً لنكون مجتمعاً من صفوة المجتمعات وصفوة الأفراد.
هل نحن مستعدون؟وهل نحن جادون؟
نعم! هل نحن مستعدون لليوم الذي سنجد أنفسنا فيه وجهاً لوجه مع اليهود وأعوانهم؟ والسؤال عن الاستعداد هنا ليس سؤالاً عن الاستعداد بالسلاح والعتاد؛ فهذا أمر له ظرفه وطبيعته، ولكن السؤال عن الاستعداد بحيازة أسلحة النصر الربانية.
بمعنى آخر: هل الإسلاميون وهم جزء من الأمة على حال تستحق نصر الله؟
هل لنا من أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا ما نستنزل به رحمات الله وتأييده الذي يؤيد به أولياءه؟ أم أننا ما زلنا نحتفظ كبقية الأمة بحقوق الفشل، وعلى رأسها التنازع والتدابر والتنافر؟ ماذا يبقى بأيدي الإسلاميين عندما ينزع بعضهم عن بعض أسباب القوة والاحترام ويرفضوا مبدأ الاتفاق والتعاون؟ لن يبقى إلا الفشل.. ثم الفشل ثم الفشل! حيث يكون هذا الفشل هو الإنجاز الأكبر، وعندها فما على أصحاب هذا (الإنتاج) إلا أن يتقاسموه فيما بينهم، فهو ثمرة طبيعية للأنانية وحبّ الذات.
الاختلاف الفقهي هل ينافي الاتفاق؟
إن الاختلاف من طبيعة البشر ولا يمكن التخلص منه في العادة، قال الله (تعالى): (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [سورة هود: 118 ــ 119">، قال الشاطبي: "فتأملوا رحمكم الله كيف صار الاتفاق محالاً في العادة.
فاشتراط رفع الخلاف لحصول التعاون كاشتراط المستحيل، وهذا فيه تعطيل مبدأ التعاون الذي دلت على مشروعيته نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.
إن الاختلاف الفقهي وتعدد الآراء ووجهات النظر ضمن إطار الدليل الشرعي وضمن ضوابط الشريعة، وفي إطار مسوغات وحجج مقبولة؛ لا يناقض الاتفاق، ولا يجعله محالاً؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنه يسانده يعاضده. يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: "فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء، ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنّة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له وهو الدين الأصلي الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له يثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه"( ).
وتعتبر هذه القضية ميزة تتحلى بها الأمة المحمدية؛ لأن الإسلام يمثل الدين الخاتم الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، فجاءت نصوص الوحيين تحمل في طياتها إمكانية تعدد الأفهام لمراعاة التغير على مر العصور، ولمواكبة التطورات والتغيرات المستحدثة. فإن الاختلاف يصبح مذموماً، إذا كان بعيداً عن ضوابط الشرع، وبما يؤول إليه من التشرذم والتحزب والتناحر والتحاقد، ومما تجدر الإشارة إليه أن وجود تيارات إسلامية في الساحة الإسلامية، ليس من الاختلاف والفرقة المشار إليها في الحديث: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة..))( )، بل هو من تعدد الآراء والاجتهاد وتنوع آليات العمل ووسائله مع الاتفاق على القواعد العامة والمبادئ الكلية، ما دامت تلك الاتجاهات في إطار الاختلاف التنوعي لا اختلاف التضاد. "والأصل في ذلك كله أنّ الحركات الإسلامية اليوم بمثابة الجيوش التي ينبغي أن تنتظم فيها الأمّة كلها على اختلاف نحلها ومشاربها لدفع فتنة الكفر والردة ودرء خطرهما عن دار الإسلام. فهي البديل عن الدولة الإسلامية التي كانت تجند المسلمين كافة إذا داهم العدو دار الإسلام، ولا تحجب أحداً ممن ثبت له عقد الإسلام من الاشتراك في هذا الجهاد ولا تمنعه من الغنيمة والفيء ما يده مع المسلمين.
إنّ قبول التعاون مع وجود الخلاف الذي لا يقتضي التفرق لا يعني بالضرورة المطالبة بأعلى صور الاتفاق والتعاون؛ بل المطالبة بدرجة منهما يتحقق فيها الواجب والمندوب، ويزول معها المحذور والمكروه، فإن أعلى صور الاتفاق والتعاون محمودة، ولكنها عزيزة الوجود خاصة وقد بَعُدَ الناس عن نهج النبوة. ومع تخطئة مبدأ: "ترك التعاون مع وجود الاختلاف"، يلزم التنبيه إلى ما يقابله، وهو: أنه لا يدعى إلى التعاون مع كل مخالف بلا شرط وقيد فإن الأصل عدم التعاون مع وجود اختلاف جذري يقتضي التفرق والمفاصلة، كما هو الحال مع أصحاب المبادئ العلمانية أو الاشتراكية أو البعثية أو الفرق الباطنية؛ لأن هذا تعاون على غير البر والتقوى، تقدم فيه المصالح النفعية، وتهضم فيه مبادئ إسلامية وتعطل فيه أحكام شرعية.
لا يعرف كثير من الناس إلا حالتين: إما التعاون الشامل، والوحدة الكاملة، أو التنازع والخصومة والمواجهة، وهذا التصور صورة من صور الجهل وضيق النظر وغياب الحكمة وقلة المعرفة بقواعد الشريعة وأحكامها، فما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وقد يُعذر بعض العامة والجهلة على هذا القصور، ولكن اللوم والتثريب يقع على من بيده زمام الأمور والطاعة والتوجيه لفئام من الناس. كيف يحجّر سبل التعاون الواسعة؟ ويحرم غيره من الانتفاع مما شرع الله من المحبة والألفة والتعاون والتقارب والتسامح والعفو والتواضع والإحسان إلى الخلق بإصلاح ذات البين؟
والذين ولاَّهم الله أمر أمتنا المبتلاة يعلمون ذلك ولكنهم لا يعملون، والظاهر أن جعبتهم ما تزال ملأى بالمزيد من التفريط في حق الأمة، والتوريط لها في مزيد من المحن والنكبات، ولا أمل ــ بعد الله ــ إلا في قيادة اعتبارية للأمة الإسلامية، من علمائها ودعاتها، وعامليها ومجاهديها، تكون بديلة للقيادات الشوهاء الرعناء على المدى القريب والبعيد، وهذا لن يكون إلا بأن يصبح الإسلاميون على مستوى رضا الله.
وختاماً أذكر بأمر مهم:
إن هذه التحديات العظمى التي تستهدف الإسلام والمسلمين لن تزول بنفسها، ولن تذوب بذاتها؛ بل إن حكمة الله تعالى تأبى أن تتعطل سُنة الأسباب لمجرد أن المسلمين مسلمون، والكافرين كافرون: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض) [سورة محمد: 4"، وفي الوقت نفسه، فإن الله تعالى، خالق الأسباب ومسبباتها، يشترط علينا لكي يسخِّر لنا الأسباب أن نسخر له أنفسنا، ونعبِّدها له متبعين لرضوانه، مبتعدين عن كل ما لا يليق بأولياء يطلبون النصرة وضعفاء يستنزلون التأييد. وعندها ــ أي عند إتباع رضوان الله ــ فلا علينا لو اجتمع علينا من بأقطارها (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [سورة آل عمران: 173ــ174">، نعم (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ). نعم (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)، فمن المخاطَبُ بتلك الآيات؟ أهم اللادينيون العلمانيون؟ أهم اللهاة اللاعبون؟ أهم الطغاة الظالمون؟ أهم السكارى والحيارى والعرايا وبقية أصحاب البلايا؟ أهم الهائمون في الطرقات أو المنغمسون في الشهوات؟ ليسوا هؤلاء! وإن كانوا عن التوبة غير محجوزين، ولكن الخطاب يستهدف قلوب المخبتين، ويستشرف وجوه وعيون الوعاة الهداة المستمسكين بالدين، ولو كانوا في غفلة أو مشغلة صارفة، أو في فرقة أو خصومات عارضة؛ فأولئك الأولياء الذين يخوفهم الشيطان بالأعداء، فمن يكون أولئكم إلا أنتم أيها الإسلاميون؟