المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

في فلسفة التاريخ والحضارة

في فلسفة التاريخ والحضارة

يولد الإنسان من رحم التاريخ، وإنَما وجوده ذلك الذي في قلب الزمان وذاكرته، فالتاريخ الإنساني جاء ليعرف بالإنسان وبتجربته على الأرض، وهو بهذا المعنى ليس قاصراً على أمة من البشر أو أحداث من الحياة فكل بني آدم يمثلون التاريخ الإنساني، ومما يؤكد هذه الحقيقة أن القرآن وهو يحكي لنا عن الإنسان ويقص علينا تاريخه لم يكتف بإبراز الوجود المثالي لتاريخ الإيمان، بل أردف ذلك تاريخ الكفر والعناد ليرسم لنا صورة الإنسان في جميع أطواره وأحواله يصفه وهو راسخ الإيمان واليقين، ويبين حاله كذلك وهو يلُجُ في كفره طغيانه، ذلك أنّ سنن الله في المجتمعات البشرية لاتتفاعل إلا بوجود الإنسان في كل صورة يمكن أن يكون عليها ليتشكل بذلك مشهد الحياة الإنسانية في كل مراحله وأدواره وبكل أعماقه وأبعاده.
إنّ الحضارة الإنسانية هي الجانب المشرق من التاريخ الإنساني لأنها عطاءٌ إنسانيٌ يضفي لمساته على لوحة الإنسان التاريخية، أو يدعم معاني الحياة بإضافة جديدة تسهم في رقيَها وتطورها، وهي في معناها الكبير تشمل كل جوانب الحياة البشرية بمختلف نشاطاتها المتعددة، و لئن  كانت الحضارة الإنسانية على الأرض فإن لواءها معقود في السماء… وإن كان مكانها  ظهر هذا الكوكب فإن سلطانها يمتد إمتداد هذا الكون الفسيح يمضي بها الإنسان وهي تسير به؛  وعلى هذا فإن الإنسان المتحضر من يكون حاضراً بوجوده الإنساني الذي يرمز إلى حقيقة ذاته في كل المواقف التي تتطلب تمثيلاً بشرياً وثيق الصلة بآدمية الإنسان تلك الآدمية التي تستمد وجودها من روح السماء، ذلك هو روح الحضارة بمفهومها الحقيقي، وإن أي حضارة لم تستصحب ذلك حضارة ناقصة وإن استلمت اللواء الحضاري…، ذلك أن إستلامها للواء وهي على  هذه الحال  إستلام من يريد  أن يوصله إلى غيره وليس من أجل أن يقود به فخير للواء أن تحمله يد إنسان بلا روح من أن يقع على الأرض وقد تُمر يد العناية الإلهية باللواء على جمع من الأمم والشعوب ليتبين من هو الأحق بحمله في المشهد التاريخي، ذلك أن الحضارة ليست حكراً لأحد دون  أحد، بل هي حق مشاع لكل البشر في أن ينتموا إليها ويسهموا فيها تتوارثها الأمم والشعوب بحسب الجدارة لتضع بصمتها عليها، وذلك عبر التنافس التاريخي لحمل لوائها فمنذ أن بدأت الحياة الإنسانية بالأبوين وركب الحضارة يسير بيد أن الإنتماء للحضارة والإسهام فيها يبغيه إتصال عميق الجذور بذلك الإنسان الكبير الذي ولد مع مولد الحضارة البشرية على ظهر الأرض، ثم أخذ ينمو عقلاً ووجداناً وفكراً وكياناً عبر رحلة عمره المديدة في الحياة وتفرقت شخصيته مع تفرق الناس لشعوب وقبائل، وإنّ ملامح شخصية الإنسان الكبير لاتتضح قسماتها لمن يسعى إليها إلَاَ من خلال التعارف بين الشعوب والقبائل على جسور التواصل التي تجمعها عبر المنظومة الإجتماعية للحياة البشرية والتي ليست سوى الشعب والقبيلة قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)…،من هنا تبرز قيمة الشعب والقبيلة في العملية الحضارية غير أن ميزان التفاضل بينهم في القاعدة الإجتماعية الكبرى التي يلتقون عليها يعطي بعداً حضارياً يجعل العنصر المادي في الإنسان يتضآءل بمفهوم روحيٍ يتصل بالسماء وذلك في النقلة النوعية التي يحدثها ذلك المفهوم  من الإنتساب للشعب أو القبيلة إلى الإنتساب إلى الله سبحانه ذلك البعد الحضاري يوحي لنا بمصطلح يمكن أن نطلق عليه ما يسمى (بالقبيلة الروحية أو الشعب الروحي)..
 إن موقف البشرية من الحضا رة  الإنسانية ينقسم إلى ثلاثة  أقسام:
 
القسم الأول: 
المبعدون عن الحضارة الإنسانية
وهي الأمم والسلالة البشرية التي انقطعت عن التواصل الحضاري و الإنساني أو التي لم تتصل لتنقطع والتي ظلت حبيسة نفسها في بدائية وتوحش وعداء منفية عن الحياة ومنبوذة من الحضارة ذلك أنها لم تواكب ركب الحضارة الإنسانية أو تساير حركة التطور البشري وليست هذه الأمم التي انقطعت أو التي لم تتصل لتنقطع سوى الشعوب الهمجية والقبائل المتوحشة الذين هم للوحش أقرب منهم للإنسان لم يكن لهم إتصال بالحياة إلا لتدميرها والفتك بالإنسان هذا إن اتصلت ومن أمثال هذه الشعوب قوم يأجوج ومأجوج وأمة التتار والمغول والقبائل البربرية وأمة اليهود فكان منها ماحبس كقوم يأجوج ومأجوج وكان منها ماردع كالتتار والمغول ومنها ماطرد من الإنسانية والحياة إثر التحول النكد عن الطبيعة البشرية جراء ما ارتكبوه من جرائم بحق الله وبحق أنفسهم وبحق الإنسانية جمعاء ومن الأمم التي لم تتصل سكان الأطراف وبعض القبائل المتفرقة في كل من  أستراليا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا
 
القسم الثاني: 
المتحوضرون دون الرسالة الحضارية
هذا النوع يسمى بالحضارات الطينية أوالأرضية المادية وهي الأمم التي امتلكت بعض مقومات الحضارة غير أنها لم يكن لها رسالة تقدمها للبشرية ولم تعرف سوى أن تعيش لنفسها وشهواتها في أنانية وجشع ونظرة أحادية لاتتعد ذواتهم البهيمية المتوحشة كأمثال عاد وثمود وفارس والروم التي لم يكن لديها ما تقدمه للإنسان فافرغت وسعها لرفاهية شعوبها وتلبية رغباتها على حساب الإنسانية كلها همها الأكبر أن تعيش في رغد من العيش وإن أدى ذلك لهلاك البشرية بأسرها وإن جاز لنا أن نعقد محاكمات تاريخية فسنزج بكثير من الأمم التي تدَعي الحضارة  إلى غياهب السجون بتهمة جرائم ضد الإنسانية وأول من نحاكمهم من سنوا قانون الجرائم ضد الإنسانية.
 
القسم الثالث:
أهل الحضارة الإنسانية
إنهم الذين نالوا شرف رفع لواء الحضاري بصك شرعي واستحقاق حضاري نزل به (أمين سر الوحي من السماء)…، ومضمون الصك الرباني يقول ( ياحملة الوحي والرسالة امضوا لتأسيس     دعائم الحضارة وتثبيت أركان الخلافة فإن مجال عملكم هو الإنسان في الأرض كلها لتسلموا الوجوه إلى بارئها)…
 
إن الحضارة الإسلامية التي بدأت منذ أن نزل سيدنا آدم عليه السلام إلى الأرض واستمرت إلى أن حمل لواءها محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-  هي الحضارة الإنسانية الحقيقة إلَا أنَ بقايا من الأمم المطرودة وحضارات الطين المنبتة ناصبتها العداء فحاولت الفرس ولا زالت تشويه الفكر الإسلامي وسعت بباديتها من الديلم إلى تقويض أركان الدولة العباسية والتلاعب بالخلفاء والترك الذين اجتاحت باديتهم من التتار موئل الخلافة في بغداد الرشيد لم يكن سلاطينها من بني عثمان أقل فتكاً بها من باديتها لأنهم كانوا عسكراً بدوياً أبعد ما يكونون عن روح الحضارة ومعانيها وإن حافظوا على شكل الدولة الإسلامية مدة خمسة قرون بيد أنهم كانوا من أسباب تقويضها أما الروم الذين جاءوا بفكرة التراب الوطني التي تشكلت عليها خارطة العالم المعاصر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً جاءت هذه الفكرة لفقدانهم لروح المكان ومعنى الإستقرارفأ رادوا أن يلقوا عصى الترحال بتقديس التراب وخير شاهد على ذلك أن باديتهم من الأرمن لايزالون متشردون تشرداً روحياً قبل أن يكون مكانياً ذلك أن الأرض لفظتهم لفظاً معنوياً فلم يطب لهم الإستقرار فيها وظلت حرب الروم على الحضارة الإنسانية حرباً عسكرية بدأت بما يسمى بالحروب الصليبية التي دامت مئتا عام واستمرت إلى الحرب المعلنة في هذا العصر تحت مسمى (الإرهاب) وأما أمة اليهود المطرودة فلم تزل دسائسهم ومؤامرتهم  منذ حيي بن أخطب وإلى الآن مستمرة.
 
إن الحضارة الإنسانية قادمة وماضية برغم كيد الكائدين وحرب الظالمين وإن الإسلام العظيم الذي استطاع أن يجمع سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أعظم حضارة عرفتها البشرية قادر أن يجمع أمة الإنسان بعد مواتها في ميلاد جديد تبدأ به الحضارة الإنسانية دورة جديدة تجمع فيها أشتات البشرية بمختلف أجناسها المنبتين منها والذين لم يتصلوا في أرقى إجتماع إنساني ستشهده الحياة البشرية على ظهر الأرض.