د. سعد أحمد سعد
كان الزبير بن عبد المطلب عم المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شقيق والده ، وكان الزبير من الحنيفيين أتباع الملة الإبراهيمية ، وتوفى الزبير بن عبد المطلب قبل البعثة .. ومما أُثر عنه أنه كان إذا رأي رجلاً طاغيةً شديد الظلم ، ولا يجد من يكفه ، أو يقوم له ، أو يردعه ، كان الزبير يقول : " هذا الرجل لا يموت سوياً "..
أي أن هذا الرجل لا يموت ميتة طبيعية عقوبة له على ما اقترفت يداه في حق المظلومين ، وكان الأمر يجري على ما يقوله الزبير ، ففي كل مرة كان الرجل المعني لا يموت سوياً ، بل يموت ميتةً فيها عظة وعبرة للظالمين ..
إلى أن جاء يوم قال فيه الزبير ما يقول لكل طاغية ظالم متجبر : " هذا الرجل لا يموت سوياً " .. إلى أن جاءت المفاجأة فقيل له إن الرجل الذي قلت أنه لا يموت سوياً قد مات ميتة طبيعية ، ومات على فراشه ووسط أهله وذويه ، ودفن كما يدفن سائر الناس ..
سمع الزبير المقالة وتأملها ، وصوب وصعد بعينيه فيما حوله ، وسكت ملياً ثم قال : " إذن لابد من يوم يبعث فيه الخلائق ويقفون أمام رب عادل قادر حكيم عليم يضع الميزان القسط ، ويقضي لكل مظلوم ممن ظلمه " ، فهداه هذا الحدث إلى الإيمان الفطري والعفوي بيوم القيامة ، ولعل هذا هو الذي ساقه إلى الإيمان بالحنيفية ملة إبراهيم ..
وها أنذا اليوم أقف مشدوهاً مأخوذاً بين مصدق ومكذب ، وأنا أنظر إلى الإنقاذ والتكذيب يدنيني ، والتصديق يبعدني ، وأعجب كيف لم أفطن إلاّ اليوم إلى أن الإنقاذ من أسماء الأضداد ، وأن اسمها الذي يلائم دورها هو الإزهاق ، والمحق ، والبوار ..
وأنا أسأل نفسي هل يُجدي الإنقاذ نفعاً أخذها بعادة أسلافنا في تسمية الأشياء بأضدادها ، كانوا يُكنون العبد الأسود أبا البيضاء ، أما توسمه الزبير بن عبد المطلب في ظلمة وجبابرة العصر الجاهلي حائق وحالٌ بالإنقاذ ، وإن الإنقاذ لا تموت سوية ..
ولكن الذي بين أيدينا من الوحي المنزل على محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغنينا عن منهج الزبير بن عبد المطلب مهما كان موفقاً ، ومهما كان ملهماً ومحدثاً ..
فالإنقاذ مهما كان ذهابها سوياً ، أو عبر سَوِى ، أما سوياً فبإصلاح ، أو توبة ، أو أوبة ، أو غير سوى بانقلاب ، أو ثورة دعوية على أيدي خصومها ، أو أصدقائها .. على أيدي أعداء الإسلام ، أو دعاة الإسلام ..
ومع ذلك للأسف الشديد فإن ذلك كله لا يمحو أخطائها أو خطاياها ، ولا يجعلها بمناجاة من نصب الميزان الذي لا يبخس شعرة ، والحاجة ليست ماسة إلى رجل مثل الزبير بن عبد المطلب ليقف في إحدى القنوات ، أو على أحد المنابر يوم الجمعة ، أو على صفحات صحيفة سيارة واسعة الانتشار ليقول للـ : " إنقاذ لا تموت سوية " ..
لقد كان الزبير بن عبد المطلب متقدماً على أهل زمانه لذلك سارت الركبان بقوله ، أما اليوم فأيما طفل يحسن الوضوء يدرك أن الإنقاذ في مأزق حقيقي ، ووضعت نفسها فيه طائعة مختارة .. معايب الإنقاذ وخطاياها لا تحتاج إلى بحث وتنقيب وتصفيف وتفتيش ..
فالإنقاذ حتى كتابة هذه السطور لم تفهم معنى قوله تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ، فالإنقاذ حتى كتابة هذه الأسطر لا تستطيع أن تعرف على وجه اليقين هل حكم الله المعني في هذه الآية والآيات الأخرى من نفس السورة ، هل هو في قوانين سبتمبر 1983 ، أم في دستور 1998 الذي صاغته يد علمانية ، أم لعله في دستور نيفاشا المسمى الدستور الإنتقالي لعام 2005 وهو دستور علماني كامل الدسم ، لا يُدارى ولا يداهن في علمانيته ..
بل لا تدري هل الطريق إلى الدستور الإسلامي أو إلى الحكم الإسلامي الرشيد الذي تنشده الآية والآيات الأخرى يأتي عبر الفجر الجديد الذي صاغه بعض شذاذ الآفاق (آفاق سياسية) .. والمرتزقة (مرتزقة العلمانية والعمالة) .. أم لعله يأتي عبر اللجنة التي شكلتها الإنقاذ لدراسة قضية الدستور ، وجعلتها مفتوحة إلى درجة أن أول مخاطبيها كان القس فيلوساوث فرج ، الذي لا يشك عاقل في أنه لا يرغب في دستور إسلامي ، وليس له ما يضيفه إلى لجنة الدستور ، فكل ما يحيك بصدره من مخاوف وتحفظات وسخائم سبقه بها متبرعاً لفيف من أبناء جلدتنا يتسمون بأسمائنا ، ويلبسون كما نلبس ، ويحيون كما نحيا ، ويتكلمون العربية كما نتكلم ، ويرفضون الإسلام كما يرفضه الماركسي ، والصليبي ، واليهودي ، والكافر ، والفاسق والظالم ..
الإنقاذ والله أعلم وحتى هذه اللحظة ليست على يقين في أن حكم الله الذي نادت به الآية والآيات التي تليها هل هو ما يطالب به ميثاق الفجر الإسلامي الذي أصدرته الجبهة الإسلامية للدستور ، أم أنه يتمثل فيما طالب به رئيس الجمهورية من الكف عن الدغمسة في تطبيق الشريعة ..
ولو كانت الإنقاذ تدرك ذلك .. ولو كانت تدرك ماذا تريد .. ولو كانت تعي في أي طريق يجب أن تسير .. لما احتاحت لبعض منسوبيها ومنسوبي المؤتمر الوطني ممن لم يسمع بهم أحد ، ولا يعرفهم أحد أن يتطاولوا ويفتوا في قضية هي لب ولباب المشروع الحضاري الذي تستمد الإنقاذ منه مشروعية وجودها وبقائها واستمراريتها بل وأنفاسها ..
ويسخر عبد السخي عباس من الموقعين على وثيقة الفجر الإسلامي ، ومن محاولتهم التأثير على المؤتمر الوطني لإعداد دستور إسلامي يتماشى مع منطلقاتهم وأهوائهم ، باعتبارهم أحرص على الإسلام من الآخرين ، وعدها مشكلة حقيقية ، وإقصاء للآخر ..
أنا فاقد للثقة في المؤتمر الوطني شكلاً ومضموناً ، ولكنني لم أكن أعلم أن فجيعتي فيه بلغت هذا الحد ، فدعوني أتوقف لأذرف دمعات عليه ، وعلى فقدي فيه ، وعلى المشروع الحضاري الذي قضينا فيه نصف قرن من الزمان نتعاهده تربية ورعاية ، فهل يسمعني أحد ؟؟ ..