علي صالح طمبل
إن الناظر في حال اللغة العربية اليوم يوقن أن هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وشكلت وعاء لثقافة الأمة وسمة من سمات وجودها وكينونتها في طريقها إلى التهافت والتميع، إن لم نقل الزوال والتلاشي.
حين ترثي اللغة نفسه ..
المعروف أن اللغة تشكل أحد أكبر مكونات الثقافة– إن لم تكن أكبرها – وملمحاً أساسياَ من ملامح الهوية، ولكن التراجع الذي تشهده اللغة العربية على كافة مستوياتها، سواء كان على مستوى المؤسسات التعليمية، أو أجهزة الإعلام، أو الإنترنت يستدعي اتخاذ إجراءات وتحوطات تعيد للغة هيبتها، وللأمة هويتها وثقافتها. ولا أجد وصفاً أبلغ لحال اللغة العربية اليوم من أبيات الشاعر حافظ إبراهيم:
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
لغة التعليم ..
تراجع اللغة العربية تشهد له المناهج التي تُدرَّس في مؤسساتنا التعليمية، فهذه المناهج تعاني من التخبط والعقيد وغياب الأهداف الواضحة، كما أنها لم تتجاوز الوسائل التقليدية في التدريس، متغاضية عن استصحاب الوسائل الحديثة التي تجعل من عملية التعلم عملية تفاعلية جاذبة، يشارك فيها المعلم والمتعلم على السواء، لا مجرد عملية تلقينية، تُشعر المتعلم بصعوبة اللغة، ومشقة التعاطي معها.
وفي مقابل تراجع مستويات الطلاب في مادة اللغة العربية في المدارس، نجد ازدياداً في إقبال أولياء الأمور على إلحاق أبنائهم بالمدارس الإنجليزية، بينما تشهد الجامعات زهداً في اختيار اللغة العربية كمادة للتخصص إذا قورنت باللغات الأخرى التي تجد سوقاً رائجة.
لغة الإعلام ..
تشهد لغة الإعلام اليوم – سواء كان مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً – بما وصلت إليه اللغة العربية من تراجع وانحطاط، فالأجهزة الإعلامية تعج بالأخطاء النحوية والإملائية والمطبعية، إضافة إلى أخطاء الأسلوب والصياغة؛ مما يعني انصراف هذه الأجهزة عن الاهتمام بمستوى اللغة العربية الذي كان من أهم السمات التي تميز الأجهزة الإعلامية الرصينة.
والواقع الإعلامي اليوم يوميء بوضوح إلى غياب دور التأهيل والتطوير لمقدرات الإعلاميين في مجال اللغة العربية، ويوضح أن إجادة اللغة العربية لم يعد شرطاً أساسياً للمتقدمين لشغل الوظائف الإعلامية.
وما دامت الأجهزة الإعلامية تؤثر على قطاعات واسعة في المجتمع، فإن واقعها يؤكد ما ذهبنا إليه من التراجع العام في مستويات اللغة العربية.
لغة الإنترنت ..
المتأمل في اللغة المتداولة في كثير من مواقع الإنترنت والمنتديات وغرف الحوار، يجد إما تمييعاً للغة العربية، أو محاولة لإيجاد لغة بديلة لها.
فمع ما يعج به الإنترنت من أخطاء لغوية يصعب حصرها وضبطها – لما يتمتع به من حرية في النشر والتعبير لا توجد في أجهزة الإعلام – نجد استخداماً مفرطاً للغة الدارجة، مما يجعل التواصل أمراً عسيراً بين منسوبي الدول العربية الذين تعتبر اللغة الفصيحة لغة التواصل بينها؛ مما يفضي إلى خلق لغة موغلة في المحلية.
كما تطفو على السطح لغة جديدة – خاصة في مواقع الحوار – تستعيض عن حروف اللغة العربية بالأرقام والرموز الإنجليزية؛ وهذا يعني إضعاف التواصل مع اللغة العربية وتنصلاً من الاعتداد بها.
الدول المتقدمة واللغات ..
ما من دولة متقدمة إلا وهي تعتز بلغتها، وتعمل على المحافظة عليها وتطويرها لتواكب مستجدات العلوم ومستلزمات العصر، كما تصر على التدريس بلغتها في مدارسها وجامعاتها؛ وتنشط في المقابل في ترجمة ما استجد من العلوم والآداب، وتنفق الأموال الطائلة لتعليم هذه اللغة للشعوب الأخرى؛ لأن تعلم لغتها يعني التأثر بثقافتها، والتعاطف مع توجهاتها، وفتح الأسواق لسلعها ومنتجاتها.
بل بعض هذه الدول يلزم أصحاب الشركات والمحلات التجارية بكتابة اللافتات بلغتها الرسمية، لا كما نجد في بلادنا من خلو لافتات بعض المؤسسات والمحلات التجارية من اللغة العربية. وفي بعضها لا يجيبك المواطنُ إذا تحدثت إليه بلغة أجنبية، رغم علمه بها، أما في بلادنا فنجد من يجاري الآخرين في لغتهم، وإذا تحدث بالعربية فاخر بإدخال كلمات أجنبية وسطها، حتى وإن لم يستدعها السياق، ولم يتطلبها التوضيح !
الاستلاب الثقافي والتبعية للآخر ..
في مقابل اعتزاز الشعوب الأخرى بلغتها ومحافظتها عليها وسعيها إلى تطويرها، نجد عزوفاً عن تعلم اللغة العربية من الناطقين بها، وإقبالاً على تعلم اللغات الأخرى، ليس لتُتخذ وسيلة للعلم والمعرفة، ولكن باعتبارها غاية في حد ذاتها. وهنا يبرز دور الاستلاب الثقافي والتبعية للآخر الناجمين عن إحساس بالدونية وفقدان للهوية.
ولعل أكبر مظاهر الاستلاب والتبعية: الإقبال على تعلم العلوم بلغات أجنبية، على نحو ما نجده في كثير من الجامعات والمدارس في بلادنا؛ إذ أن هناك فرقاً بين تعلم اللغات الأخرى كوعاء للتعرف على ثقافة الآخرين والتواصل معهم، وبين تعلم العلوم بلغة أجنبية؛ فالأول يضيف إلى اللغة الأم والهوية، والثاني يضعف اللغة الأم ويمسخ الهوية !
مجهود رسمي وشعبي ..
هناك جامعات أثبتت نجاحها على مستوى العالم، ونافس طلابها غيرهم في التميز الأكاديمي، بالرغم من تدريسها للعلوم باللغة العربية؛ وهذا يؤكد أن العيب لا يكمن في اللغة بقدر ما يكمن في التعاطي معها.
والعلاج – في رأينا – يكمن في بذل مجهود رسمي وشعبي للمحافظة على اللغة، وتطويرها، وتعزيز ثقة المواطن بها، باعتبارها من أكثر اللغات ثراء وسعة؛ وذلك بإنشاء معاهد ومراكز بحثية وتدريبية لتقوية مهارات التخاطب والكتابة باللغة العربية تستهدف الإعلاميين والموظفين والطلاب وغيرهم، إضافة إلى تعزيز دور المجامع اللغوية، ودعمها حتى تطور اللغة وتجعلها مواكبة للمستجدات العصرية، فضلاً عن دعم مراكز الترجمة لتضطلع بدورها في ترجمة العلوم والمعارف والآداب المفيدة إلى اللغة العربية.