علي صالح طمبل
كثيراً ما يصادفني صوت الشيخ محمد سيد حاج – رحمه الله – أو أطالع صورته، أو أسمع من يستشهد بأقواله، فأزداد يقيناً بأن بركة العلم لا تضاهيها بركة، وأن فضل العلماء لا يدانيه فضل، ويكفي قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة فصلت: الآية 33]، وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [سورة الزمر: الآية 9].
أذهبُ إلى الأسواق فأراه شاخصاً بموعظته، وأصعد إلى الحافلات فأجده حاضراً بعلمه، وأمرُّ بالبيوت فألفيه ماثلاً بفقهه، بل وجدت رسالته قد وصلت إلى الوحدات العسكرية حيث يمنع الاقتراب والتصوير ! فكان داعياً وحياً وميتاً !
مات الشيخ عن ثمانية وثلاثين عاماً، لكنه ترك إرثاً لم يحصِّله من عاش أضعاف عمره؛ لأن الفيصل في تحصيل بركة العلم هو الإخلاص والتقوى، وليس طول العمر أو قصره، أو كثرة الشهادات والألقاب العلمية، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: الآية 282].
عشرات الآلاف من الشباب نهلوا من معينه، فاقتدوا به أدباً وسمتاً ومنهاجاً، وآلاف الأسر اقتبست من مشكاته، فاحتذت حذوه تربية وأخلاقاً ومُثُلاً؛ فكم حائر أخذ بيده لدرب الرشاد؛ فاستقام على الحق، وكم تائه دعاه إلى طريق الهدى؛ فانصلح أمره، وآب إلى الحق.
كانت قضيته توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبودية، ومنهجه الدعوة إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، وغايته إصلاح المجتمع، وربطه بخالقه – عز وجل – على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال لي أحد من استمع إليه ذات مرة حينما جاء ملبياً لدعوة زواج أحد الشباب في أقاصي ولاية الخرطوم – وكثيراً ما كان يجيب الدعوات مهما بعدت المسافات – قال لي ذلك الرجل الذي كانت علاقته بالمساجد واهنة – وقد انشرح صدره، وسُرَّ سروراً عظيماً: لقد تمنيت ألا يصمت هذا الشيخ أبداً !
لا تمل أجهزة الإعلام – مقروءة كانت أو مسموعة أو مرئية – من إعادة نشر ميراثه العلمي والاستشهاد بأقواله، ولا تخلو صفحات الإنترنت من حِكَمِه ومأثوراتِهِ؛ حتى اتخذ كثيرون صورته شعاراً لهم على صفحات التواصل الاجتماعي والمدونات.
بالرغم من مُضي زهاء ثلاث سنوات على وفاته – رحمه الله – ما زال الشيخ محمد سيد يشكِّل حضوراً متجدداً؛ بسبره لأغوار المجتمع بعمق وسلاسة، وتشخيصه لمشكلات الأمة بحذق وبراعة، ليستنطق المسكوت عنه، وينتقد المعوج، ويستنبط الحلول، ويستخلص النتائج والعبر، ويجذب الناس بعلمه الغزير، وأدبه الجمِّ، وتواضعه الفائق.
أستمع إليه فأجدني أدوِّن بعقل متعجب، وقلم لاهث، ما يجود به من استدعائه الحاذق للماضي التليد، وقراءته الثاقبة للحاضر المضطرب، واستشرافه النافذ للمستقبل القريب والبعيد، لينبش المكنون، ويستخرج المخبوء، ويستخلص الكنوز، بأسلوب محبب إلى النفس، ينأى عن التكلف والجمود؛ لا تفارقه الابتسامة الصافية، ولا تغيب عنه الطرفة الذكية، ولا تنقصه الإشارة اللماحة، ولا يفوته ضرب الأمثال من مفردات الحياة اليومية.
دخل القلوب، ولم يحتج للاستئذان، وحاز محبة الناس دون تكلف، فصار بمنهجه الوسط بين مغالاة الغالين ومجافاة الجافين يغدو ويروح في قبول الناس وتقديرهم؛ والقبول لدى الناس علامة على محبة الله للعبد.
كلما أستمعت إليه أوقن كم كان متفرداً، سابقاً لزمانه، بعيداً في رؤاه، متميزاً عن أقرانه؛ فأجدني لا أمل الاستماع إليه، ولا أكاد أقف على العظات والفوائد من محاضراته وخطبه، ولا أحصي العبر والثمرات من دروسه ونصائحه؛ أستمع إلى ما قاله منذ سنوات، فكأنه وليد اللحظة والساعة، فأجد معظم ما ذهب إليه حقيقة ماثلة، وجُلًّ ما تنبأ به واقعاً مشاهداً.
إن كان الحزن قد غشينا لوفاته عن عمر قصير، في زمن كان المجتمع أحوج ما يكون إليه، فعزاؤنا أنه تُوفي في طريقه لإيصال دعوة الله عز وجل، وسَلْوَانَا أنه ترك رصيداً وافراً من العلم النافع؛ فلا نملك إلا أن نسلِّم بمشيئة الله تعالى، ونسأله سبحانه المغفرة والرحمة له، وأن يرفع درجاته في عليين، بقدر ما قدم للأمة الإسلامية من خير عميم، وفضل غامر.
ونختم بأبيات الدكتور أنس ابنعوف في الشيخ أبي جعفر محمد سيد حاج، حيث ذكر يوم وفاته واحتشاد الجموع الغفيرة التي جاءت لتشييعه من كل فج عميق، فكانت شاهدة على توفيق الله له بأن غرس محبته وقبوله لدى سائر أطياف المجتمع وشرائحه؛ وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: (بيننا وبينكم يوم الجنائز):
يا رب جاءت جموع الناس شافعةً
فيه وضاقت بها الساحات تزدحمُ
وأنت أكرم منهم أنت خالقهمْ
أنت الرحيم ومنك الجود والكرمُ
يدعونك اليوم والأحداقُ دامعةً
فاقبل شفاعتهم واقبل دعاءَهمُو
وارحم أبا جعفر.. ضاعِفْ مثوبتَهُ
أنعِمْ عليه.. فمنك المَنُّ والنِعمُ