المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

الوسطية المفترى عليها

الوسطية المفترى عليها

مشهد واقعي:
شاهدت في أحد المساجد بالعاصمة قبل عقد من الزمان أحدهم يلقي درساً أسبوعياً بعد الجمعة، يتناول في سلسلة من الحلقات المتتابعة ثلة من العلماء والدعاة – الذين عرفوا بين الناس بسابقتهم في الدعوة إلى الله، وعلو كعبهم في العلم – بالقدح والسلب مع الضحك من بعض الحضور فساءني ذلك، ولنا أن نتساءل أين أمثال تلك الشخصيات الآن في حقل الدعوة؟ لا نسمع لهم حساً، وأردد حين أرى من على شاكلة هؤلاء الذين يطعنون في أهل العلم كلمة للسلف تكتب بمداد الذهب بأحرف من نور: "لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب"، وكم رأينا ذلك المنهج لفئام من الشباب الذين ينسبون أنفسهم للاستقامة، ثم في المقابل نجد طائفة أخرى  يغلو الواحد منهم في شيخه فلا يرى الحق أو الباطل إلا ما رآه شيخه بتقليد مناف للدليل الذي يقوم عليه دين الإسلام: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
شرف الإنتساب إليه:
ولا شك أنّ هذا أو ذاك مناهج منافية للعدل والوسطية التي جاءت بها دعوة الإسلام في الحكم على الأشخاص، وإنّ مما خص الله به هذه الأمة الإسلامية دون ما سواها من الأمم الغابرة، والأديان السابقة أنهم أمة وسطية، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )، ويأتي مفهوم الأمة الوسط بمعنى التوسط بين شيئين، أو بمعنى العدل الذي هو ضد الجور، أو بمعنى الخيار، ومن معاني العدل: الحكم بالعدل، والاستقامة، والتقويم، والتسوية، والمماثلة، والموازنة، والتزكية، والمساواة، والإنصاف، والتوسط .
الوسط: ما له طرفان متساويا القدر، والوسط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان كالجود بين البخل والسرف، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل، وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر، ذكره الراغب.
وعلى العموم دون الخوض في المعاني اللغوية للفظ الوسط واشتقاقاته اللفظية نقول: أنّ من أراد أن يدخل في زمرة أهل الوسط الذين مدحهم تعالى بهذه الخصيصة العظيمة فليسلك أهم معالمها، ولينبذ ضدها، فلا يُعطى هذا الشرف بدعوى تقال، وإنما هي أقوال يتبعها أفعال.
وفي الأسطر القادمة سنحاول أن نسلط الضوء على أهم مفاهيم الوسطية في الأمة الإسلامية، بمعنى أوسع وأشمل مما ابتدأت به الكلام – إن شاء الله تعالى وبه الثقة -.

عقيدة تجمع ولا تفرق:
عقيدة السلف الصالح وسط بين الإفراط والتفريط، عقيدة تجمع ولا تفرق، لها من الخصائص العظيمة ما لم ولن يتوافر في ما سواها من العقائد المنحرفة التي ضلت الطريق القويم، وطرحت دلالة الوحي والجري وراء عقليات سقيمة، وفلسفات عقيمة أدّت إلى تعطيل الخالق عن صفات الكمال، وإلى القول بالجبر ونفي الغيبيات الثابتة، والتكفير لمذنبي الأمة.
وبالمثال يتضح المقال نضرب أمثلة لبعض وسطية أصحاب المنهج الحق في المعتقد إذا ما قورن بالأديان السابقة، أو أصحاب المناهج المنحرفة والتي ضلت سواء الصراط.
فالمسلمون وسط بين النصارى الذين غلوا في عيسى ـ عليه السلام ـ حين رفعوه إلى مرتبة الإلهية، أو البنوة للآلهة، وبين اليهود الذين كذبوه وادعوا قتله، فعيسى ـ عليه السلام ـ عند المسلمين عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، جعله الله مثلاً لبني إسرائيل، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، بل رفعه الله إليه، وسينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً فيكسر الصليب،  ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام.

الأساس الذي تبنى عليه الدولة الإسلامية:
وأهل السنة وسط بين أقوام غلوا في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وادعوا أنّ الكون كله خلق من أجله، وأنّ الكون خلق من نوره، أو أنّه يتصرف في الكون، وبين أقوام جفوا في الأدب معه ووصفوه بصفات لا تليق بجنابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأهل الحق يقولون أنه عبد الله ورسوله، وأنه بشر ولكنّ الله اصطفاه بالوحي، وأيّده بالرسالة، وجعله خاتم النبييين.
فلله حق لا يكون لغيره، فلا يُعبد إلا الله، فما خلق الثقلين إلا لعبادة الله وحده، وصرف جميع أنواع العبادات له وحده سبحانه: كالدعاء، والاستعانة، والاستغاثة وقت الشدة والرخاء، والذبح والنذر، والتوكل والحكم بما أنزل الله، وغير ذلك من أنواع العبادة، هو الأساس الذي تبنى عليه الدولة الإسلامية الصحيحة؛ ولا بدّ من إبعاد الشرك ومظاهره الموجودة في أكثر البلاد الإسلامية، لأنه من مقتضيات التوحيد، ولا يمكن النصر لأي جماعة تهمل التوحيد، ولا تكافح الشرك بأنواعه، أسوة بالرسل جميعا، وبرسولنا الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ ، ولنبينا ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ الحب والتقدير والطاعة فيما أمر، والإنتهاء عما عنه نهى وزجر.

أجمل وأرق لفظ:
وقل مثل ذلك في جانب الإيمان فإنه ليس في الوجود كلمة تعبر عن فعل من أفعال الإنسان أجمل ولا أرق ولا أندى من لفظ الإيمان بالله، فالقلب بغيره ميت، والبال بدونه فاسد، والنفس بها فاقة لا يسدها إلا الإقبال على الله والإيمان به،, فالإيمان بالله هو غذاؤها فلا جوع معه، وهو ريُها الذي لا ظمأ معه، وكساؤها السابغ لعُريِّه، وهو الروح لحياته، والنور لإبصاره، ولكن وجد في هذه الأمة من فرّ ط في جانب الإيمان حيث  ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الإرجاء بشكل مخيف، وانبرى لترويجها عدد كثير من الكتَّاب، يعتمدون على نقولات مبتورة من كلام بعض أهل العلم، مما سبب ارتباكاً عند كثير من الناس في مسمِّى الإيمان، حيث يحاول هؤلاء الذين ينشرون هذه الفكرة أن يُخْرِجُوا العمل عن مُسمَّى الإيمان، ويرون نجاة من ترك جميع الأعمال، وذلك مما يُسَهِّل على الناس الوقوع في المنكرات وأمور الشرك وأمور الردة، إذا علموا أن الإيمان متحقق لهم ولو لم يؤدوا الواجبات، ويتجنبوا المحرمات، ولو لم يعملوا بشرائع الدين بناء على هذا المذهب، ولا شك  أن هذا المذهب له خطورته على المجتمعات الإسلامية وأمور العقيدة والعبادة، ولو قدر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه، ومن الدين إلاّ اسمه.
وقد عبر الإمام ابن القيم الجوزية –رحمه الله – في نونيته  عن مدى خطورة المذهب الإرجائي وما يؤول إليه من طمس معالم الدين  فقال:

وكذلك الإرجاء حين تقر …         بالمعبود تصبح كامل الإيمان
فارم المصاحف في الحشوش …  وخرب البيت العتيق وجد في العصيان
واقتل إذا ما اسطعت كل موحد … وتمسحن بالقس والصلبان
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا … من عنده جهرا بلا كتمان
وإذا رأيت حجارة فاسجد لها …    بل خر للأصنام والأوثان
وأقر أن الله جل جلاله هو…       وحده الباري لذي الأكوان
وأقر أن رسوله حقا أتى …       من عنده بالوحي والقرآن
فتكون حقا مؤمنا وجميع ذا …    وزر عليك وليس بالكفران
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم …  من كل جهمي أخي الشيطان

المنهزمون فكرياً:
بعض الناس يظن أنّ الوسطية هو رأي تتقبله المجتمعات المعاصرة ولو كان على حساب ما هو معلوم من ثوابت الدين وقطعياته، فالدين ليس محاولة لإرضاء الناس والبحث عن الفكرة الأكثر رواجاً عندهم، والوسطية التي هي الخيار أو العدل ـ كما بيناه في المقال السابق ـ هو في حقيقته ما رآه الشرع وأقره، فالخير ما رآه الشرع حقاً، والشر ما رآه الشرع شراً، ورضى الناس كلهم غاية لا تدرك، ويكفي المرء المسلم رضى ربه عنه ولو سخط الناس كلهم، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :(مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ).
وتجد مثل هؤلاء المنهزمين فكرياً وثقافياً يريد في حقيقة أمره اتباع أذناب الغرب، وأخذ كل ما هو عند هؤلاء بخيره وشره، أو يلبس الحق الذي جاء به ديننا الحنيف بما عند هؤلاء من حضارة، فكأنه يريد التوفيق بين ما عند المسلمين من أصول ثابتة وتعاليم واضحة لا يستطيع إنكارها لأنها مستمدة من الوحي الذي وعدنا البارئ ـ تبارك وتعالى ـ بحفظه، وبين ما عند هؤلاء من ثقافات وقيم تخالف شرعنا الحنيف أصلاً ومضموناً، ولا بد لمثل هؤلاء أن يخرجوا أنفسهم من هذه الانهزامية النفسية أمام كل ما هو غربي الذي يأتينا متلبّساً بالثقافة والانفتاح.. وكل همّه الانقضاض على مجتمعاتنا لتغريبها، وقد آن الأوان لنعلم أنه لن تقوم للمسلمين قائمة حتى نعود إلى ما شرعه الله ـ جل وعلا ـ وهو أعلم بمن خلق.
ويسوء المرء جداً حين يسمع أو يرى بعض الناس الذين ينسبون أنفسهم للوسطية ممن أصابته حمى التبعية العمياء للغرب، والإنبهار بحضارتهم يردد شعار أنّ في الدين قشور ولب، حين تجده يتكلم عن قضايا الأمة الإسلامية التي تهم المسلمين حال كونهم يحاورون الغرب، وهذا أمر طيب لا ينتطح فيه عنزان، فالاعتناء بأمور المسلمين في مصالح دينهم ودنياهم مما رغّب فيه الشرع الحكيم لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :«مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ولإِمَامِهِ ولِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ»، ولكنه يدير ظهره لأمور مما نصّت فيها الشريعة بنصوص واضحة في حكمها، ويعتبرها من السفاسف أو القشور، وأذكر عبارة واحد ممن هم على شاكلة هؤلاء يقول لي: " يا أخوي الناس في شنو وإنت في شنو الناس وصلوا القمر "، وكما سمعت بعضهم يسمي من يهتم بأمور الأحكام الفقهية من علماء المسلمين بعلماء الحيض والنفاس، أو بالعلماء الرجعيين، أو بالمتنطعين وأصحاب الغلو في الدين، وغير ذلك من الأوصاف الذميمة التي تأباها النفوس الطائعة لربها، ومع ذلك تجد بعض هؤلاء يميع للناس قضية الولاء والبراء مع أعداء الأمة والملة، فهل يا ترى ينطبق على مثل هؤلاء قول الشاعر:

ولو ألقاك فهمك في مهاو .. فليتك ثم ليتك ما علمت
ونقول كل ما تكلم فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحيث صار من الدين فلا يجوز أن يوصف بأي وصف يوهم بالإغراء أو التنقّص، وإلا فقد أعظم على الله الفرية، وعرّض نفسه لغضب الله ـ عز وجل ـ وعقوبته وانتقامه! نعم هناك في قضايا الدين أصول وفروع، وكلّيات وجزئيات، وهناك أهم ومهم، لكن ليس موضوع حديثنا هو مناقشة أولويات الأمور وأهميتها، بل نريد أن نتكلم عموماً عن كل أمور الدين، حيث أن كل ما كان من أمور الدين وإن دقّ فهو من المعالي، ولا يمكن أن يُحتقر أو يوصف بالسفاسف أو بغير ذلك من الأوصاف الرديئة ، ولذلك اشتد نكير العلماء على من أطلق مثل هذه العبارات الفجّة في حق مسائل الدين وأمور الشريعة، بل إنّ منهم من أفتى بزجره وتأديبه، ولاسيما هذا التعبير المحدث، والمصطلح الدخيل، وهو تقسيم أمور الدين إلى قشور ولباب،أو غير ذلك من هذه العبارات الموهمة بانتقاص الدين، وقد سُئل سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام ـ رحمه الله تعالى ـ : هل يجوز أن يقول المكلف: إن الشرع قشر وإن الحقيقة لُبّه، أم لا يجوز؟ فأجاب ـ رحمه الله تعالى ـ : لا يجوز التعبير عن الشريعة بأنها قشر؛ من كثرة ما فيها من المنافع والخير، ولا يكون الأمر بالطاعة والإيمان قشراً؛ لأن العلم الملقب بعلم الحقيقة جزء من أجزاء علم الشريعة، ولا يُطلقِ مثل هذه الألقاب إلا غبي شقي قليل الأدب، ولو قيل لأحدهم: إنّ كلام شيخك قشور، لأنكر ذلك غاية الإنكار، ويطلق لفظ القشور على الشريعة، وليست الشريعة إلا كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم.