د. محمد عبد الكريم الشيخ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
إنّ من خصائص عقيدة الإسلام أنها قائمة على الحجج النقلية الواضحة، والبراهين العقلية الساطعة، فليس في أصولها ولا في فروعها ما يأباه العقل الرشيد أو يرفضه، وفي سبيل ترسيخ هذه العقيدة في الأنفس، ولضمان ديمومتها وثباتها خاطب القرآن الكريم العقول واستنهضها للتدبر والتفكر؛ قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (1)، وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (2)، وقال سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (3). ومع قوة الإيمان في نفوس المؤمنين، وطمأنينة القلب إلى ما أخبر الله تعالى به من الحق المبين، إلا أنّ هذه العقيدة معرَّضة للفتنة والابتلاء لا محالة؛ قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (4). ومن هذه الفتن، محنة الشيطان اللعين ـ عدونا المبين ـ الذي أخذ على نفسه ميثاقاً أمام رب العالمين أن يغوينا أجمعين، كما قال تعالى حكاية عنه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (5)، وكما قعد لنا بالوسوسة والإضلال في كل طريق ومرصد؛ فإنه حريص على قذف سمومه في قلوب المسلمين كي يزعزع إيمانهم بالله العزيز الحميد، ويلقي بالريب فيما أخبرنا الله به من الغيب في كتابه المجيد؛ عن سبره بن أبي فاكه رضي لله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد بطريق الإسلام، فقال: تُسلمُ وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءَك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؟ فهو جهدُ النفس والمال، فتقاتلُ فتقتَلُ، فتنكح المرأة ويُقسَّم المال؟ فعصاه فجاهد؛ فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قُتل كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) (6)، إنّ الشيطان الرجيم ليس له من سلطان على البشر إلا بالدعوة والإغراء، والاستمالة والإغواء عن طريق الوسوسة، فما أهون كيده، وأوهن فكره قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (7).
معنى الوسوسة:
الوسوسة: مصدر قولهم: وسوس يُوَسْوِس، مأخوذ من مادة (و س س) التي تدل على صوت غير رفيع. يُقال لصوت الحُلْي: وسواسٌ، وهمس الصائد: وسواسٌ، وإغواء الشيطان ابن آدم وسواس (8).
واصطلاحاً: الوسوسة والوَسواس: ما يلقيه الشيطان في القلب. وقال الراغب: الوسوسة: الخطرة الرديئة ، وقال البغوي: الوسوسة القول الخفي لقصد الإضلال، والوسواسُ: ما يقع في النفس وعمل الشر وما لا خير فيه (9) ، وهذا بخلاف الإلهام فهو لما يقع فيها من الخير.
قال ابن القيم رحمه الله: "الوسوسة: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من أُلقِيَ عليه، وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان للعبد"(11).
وقال البغوي في قوله تعالى: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ): "بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع" (12) .
وقد جاءت الوسوسة في القرآن الكريم في بضع آيات.
فتارة تكون من فعل الشيطان الجني كما قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا) (13)، وقال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) (14) ، وسمى الله تعالى شيطاني الجن والإنس "وسواساً" فقال تعالى: (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)(15) ، وتارة تضاف الوسوسة إلى فعل النفس كما قال تعـالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه)(16) .
أنواع الوسوسة:
يحضر الشيطان ابن آدم عند كل شأنه، حتى عند طعامه وشرابه فتنة وابتلاءً؛ بيدَ أنّه لا يعمد إلى الأشياء التافهة، فيشكك فيها، أو يطعن في حقيقتها فمثلاً: أنت تسمع بوجود مدن مهمة كبيرة مملوءة بالسكان والعمران في المشرق والمغرب، لم يخطر ببالك يوماً من الأيام الشك في وجودها أو عيبه بأنها خراب ودمار لا تصلح للسكن، وليس فيها ساكن ونحو ذلك. لأنّه لا غرض للشيطان في تشكيك الإنسان في مثل هذه الأمور، ولكن غرضه الأعظم الكبير في إفساد إيمان المؤمن، فهو يسعى بخيله ورجله ليطفيء نور العلم والهداية في قلبه، ويوقعه في ظلمة الشكِّ والحيرة، ومن هنا كانت وساوسه تتجه صوب أمرين دينيين:
أحدهما: وسوسة الشيطان في العِلْمِيَّات: وهي مسائل الاعتقاد والإيمان، وهو أشدُّ النوعين ذلك لأنّ التوحيد: هو أساس الإسلام، وصرحه الشامخ، ورأس مال المؤمن، ومن خلاله يمكن للشيطان أن ينفث سمومه ليفسد على المرء دينه، ولهذا يوجه إبليس جلَّ سهامه وجنوده لإفساد هذه العقيدة، والتشكيك في التوحيد الخالص فتنة للناس عن دين الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)(17) .
الثاني: الوسوسة في العَمَلِيَّات: وهي العبادات والمعاملات، فهو يحضر المسلم عند طهارته وصلاته وذكره ودعائه، وحجه وطوافه وصيامه، ليلبّس على الناس عباداتهم ويفسد عليهم طاعاتهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الشيطان إذا سمع النداء أحال له ضراط، حتى لا يسمع صوته فإذا سكت الشيطان رجع فوسوس فإذا سمع الإقامة ذهب لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس)(18) .
وقد بسط العلماء طريقة الوقاية من هذا النوع في أبواب الفقه، وكتب الآداب والسلوك كما في (تلبيس إبليس) لابن الجوزي (وزغل العلم) للذهبي.
ومقصودنا من البحث إنما هو النوع الأول: وهو وسوسته في العقائد، فمن حيل الشيطان وألاعيبه ببعض الناس أن يزين لهم حبَّ الفضول والسؤال عما لا قِبَلَ لمخلوق أن يدركه عن الخالق عز وجل، فتقع وسوسة السؤال عن ماهية الله تعالى، ووجوده، والحِكْمةِ من خَلْقِ ما خَلَقَ، وما يقضي به تعالى من تقدير الأشياء وإيجادها خيراً وشراً، حلواً ومراً وقد يقع شيء من هذا لكثير من المؤمنين الصادقين، فيدفعونه بالاستعظام والإجلال كما أتى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: ((إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان)(19) . وعن عبد الله رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: ((تلك محضُ الإيمان)(20) قال الخطابي: "معناه: أنّ صريح الإيمان هو الذي منعكم من قول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به، وليس معناه أنّ الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله، فكيف يكون إيماناً صريحاً، لأنّ الإيمان: التيقن، وأنّ الإشارة إلى أنّ ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبهم على ما وقع في نفوسهم: هو محض الإيمان، إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه" (21).
قال ابن تيمية رحمه الله: "أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد و(الصريح) الخالص كاللبن الصريح، وإنما صار صريحاً لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها فخَلص الإيمان فصار صريحاً، ولا بدّ لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً أو منافقاً، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين فإما أن يصير مؤمناً وإما أن يصير منافقاً؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلّوا لأنّّ الشيطان يكثر التعرُّض للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرَّب إليه والاتصال به، فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك(22) شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة.." (23)، وقال في موضع آخر: "فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة فدفعوه؛ تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك، والاستعظام له؛ فكان ذلك صريح الإيمان، ولا يقتضي ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأموراً به، والعبد أيضاً قد يدعوه داعٍ إلى الكفر أو المعصية فيعصيه ويمتنع؛ ويورثه ذلك إيماناً وتقوى، وليس السبب مأموراً به، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ – فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ )(24) الآية، فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو، وليس ذلك مشروعاً بل العبد يفعل ذنباً فيورثه ذلك توبة يحبه الله بها، ولا يكون الذنب مأموراً به وهذا باب واسع جداً.." (25).
هذا وقد أنبأ نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه أنّ هذه الوساوس سيتكلم بها الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزالون يسألونك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله فمن خلق الله؟ قال: فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم، ثم قال: قوموا قوموا، صدق خليلي)(26) .
طرق علاج الوسوسة في العقائد:
إنّ السلامة من فتنة الشيطان بالوسوسة في الإيمان والاعتقادات تكون بطريقتين:
الطريقة الأولى: وقائية: وهي الاحتراز من الوسوسة قبل حصولها، وذلك بالتحصن بالعلم والعكوف على مسائل التوحيد والإيمان، دراسة ومذاكرة، لأنّ الشيطان لا يجد السبيل سالكاً لتشكيك أهل العلم بالإيمان، فكلما أراد عدو الله أن يصرعهم صرعوه، وإذا شغب عليهم بوساوسه، ردوها عليه بما عندهم من الهدى والعلم ورجموه، ((وَلَعالِـمٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد))، ومَن عرف الله تعالى من خلال صفاته ومخلوقاته، عظّم ربه حق التعظيم، وقَدَّره كل التقدير، ولا يزال أبداً يحسن الظن بمولاه حتى يلقاه.
الطريقة الثانية: إذا وقعت الوسوسة في النفس، دفعها المسلم المدرك، وأبطلها بستة أمور:
الأمر الأول: الكف عن الاسترسال في الوسوسة، والانتهاء عنها بقطع حبالها ومتعلقاتها، مستعيناً لذلك بالاستعاذة بالله من شر الشيطان الرجيم، وذلك لما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته)(27) ، والمعنى: إذا عرض له هذا الوسواس، فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أنّ هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو أن يسعى بالفساد والإغواء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها، بالاشتغال عنها. وهذا كما قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ – إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (28)وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ للشيطان لـمَّة بابن آدم، وللمَلَك لـمَّة، فأما لـمَّة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لـمَّة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم))، ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء) (30)(29).
فلا بد إذن من ضبط النفس عن الاستمرار في هذه الوساوس، لأنّ الأضرار والعواقب المترتبة على التسليم لهذه الوساوس وخيمة. ومن أخطرها ثلاثة أمور:
أ ـ وقوع الشك في الإيمان بالله، والشك في ذلك كفر وإلحاد. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )(31) .
ب ـ فقدان المرء الثقة بنفسه لدرجة الشك في نفسه هل هو مسلم أم كافر؟
ج ـ الاعتراض على الله تعالى في أفعاله وقضائه وهو سبحانه وتعالى: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ).
الأمر الثاني: لا يسأل أسئلة صريحة عن هذه الوساوس التي تدور بخاطره، أي لا يصرح بشيء من ذلك، فإنه في عافية، مادامت الوساوس محصورة في قلبه لم تنتقل بعد إلى لسانه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله تجاوز لأمتي عما وسوست ـ أو حدثت ـ به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)(32) .
وهذا ما كان يتأدب به الصحابة إذا وقع لهم شيء من ذلك كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إني أحدث نفسي بالشيء، لأنْ أكون حُمَمَة أحب إليَّ من أن أتكلم به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة)(33) .
الأمر الثالث: أن يقول إذا وجد الوسوسة بثبات جنان ونطق لسان: "آمنت بالله"، وذلك لحديث: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا، خلق الله الخلق. فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله)(34) ، ومن المعلوم أنّ الإيمان به تعالى هو ركن الإيمان الأول بالغيب، ومنه ينطلق الإيمان ببقية الأركان، فالتأكيد عليه بالنطق كذلك تذكير بالله تعالى وطرد للشيطان، ولقد تظافرت الدواعي النقلية والعقلية معاً على وجود الله واستحقاقه العبادة وحده دون سواه، وهذا الإيمان بالغيب هو الذي يميز المؤمن بالله تعالى في الدنيا عن غيره من البشر الملحدين المشركين، فلا داعي للتفكير في ذات الله تعالى، أو السؤال عن كنه صفاته، لأنّ إدراك ذلك محال على العبد الضعيف المحدود، (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(35) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )(36) .
الأمر الرابع: قال ابن القيم رحمه الله: "وأرشد ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ من بُلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلية، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ أن يقرأ: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(37) . كذلك قال ابن عباس لأبي زُميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: "ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، قال: قال لي: أشيءٌ من شك؟ قلت: بلى. فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) قال: قال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (38)، فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أنّ ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه، لكان ذلك هو الربَّ الخلاق، ولا بدّ أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق، وغني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شيء قائم به، موجود بذاته، وكل شيء موجود به، قديم لا أوَّل له، وكل ما سواه موجود بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاء كل شيء به، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء" (39).
الأمر الخامس: الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء، وطلب تثبيت القلب على الإيمان. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو فيقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(40) وكان يقول أيضاً: ((إنّ الإيمان يبلى في جوف أحدكم كما يبلى الثوب فاسألوا الله أن يجدد إيمانكم))، ثم الابتهال بجدٍّ في العبادة والعمل امتثالاً لأمر الله، وابتغاء مرضاته، فمن فعل ذلك نجاه الله ووقاه من وساوس الشيطان.
الأمر السادس: إذا استمرت الوساوس، فما عليه إلا أن يردَّ ما يُشكل عليه ويؤرقه، ويكدر صفو اعتقاده بربه ويزعزعه، إلى أهل العلم، لقول الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ). وقوله سبحانه: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْن أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ).
وختاماً:
لا ينبغي للعبد المسلم المؤمن بربه أن يحزن، أو يصاب بالقلق، بل لا يلقي بالاً لما يوسوس به الشيطان له من الأباطيل والأوهام التي تزعزع طمأنينة فؤاده؛ لأنّ هذا كله من تلبيس الشيطان على المؤمنين ليُحزنهم وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله كما قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(41).
وأحْسِن الظنّ بالله تعالى إحساناً بالغاً فهو عند ظن عبده به، فإن ظنّ العبد به خيراً كان خيراً له، وإن ظنَّ به غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه. (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (42).
والله الهادي إلى سواء السبيل.
———————
(1) سورة يونس: الآية 101.
(2) سورة سبأ: الآية 46.
(3) سورة المؤمنون: الآية 91.
(4) سورة العنكبوت: الآية 2،1.
(5) سورة ص: الآية 83،82.
(6) رواه النسائي: 6/21 ـ 22، وصححه ابن حبان وإسناده حسن.
(7) سورة النساء: الآية 76.
(8) مقاييس اللغة: 6/76.
(9) المفردات للراغب: 522.
(10) الكليات: 941.
(11) نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم: 11/5702. نقلاً عن مخطوطة هدية المحب (ورقة 124).
(12) تفسير البغوي: 3/548.
(13) سورة الأعراف: الآية 20.
(14) سورة طه: الآية 120.
(15) سورة الناس.
(16) سورة ق: الآية 16.
(17) رواه مسلم 2813 عن جابر رضي الله عنه.
(18) البخاري مع الفتح 3(1231)، ومسلم 389 واللفظ له.
(19) رواه مسلم 132.
(20) رواه مسلم 133.
(21) معالم السنن بحاشية مختصر سنن أبي داود للمنذري: 8/12.
(22) يعني الشيخ رحمه الله غير طلاب العلم والعبادة.
(23) الفتاوى: 7/260.
(24) سورة آل عمران: الآية 173، 174.
(25) الفتاوى: 10/553.
(26) رواه مسلم: 2/515.
(27) مسلم 134.
(28) سورة الأعراف: الآيتان 201،200.
(29) سورة البقرة: آية 286.
(30) رواه الترمذي 2988 وقال: حسن غريب، وابن حبان في صحيحه رقم40.
(31) سورة الحجرات: الآية 15.
(32) البخاري الفتح: 11/6664.
(33) رواه أبو داود.
(34) رواه مسلم: 134.
(35) سورة الأنعام: الآية 103.
(36) سورة الشورى: الآية 11.
(37) سورة الحديد: الآية 3.
(38) الأثر رواه أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: 5/335. قال الأرناؤوط: وسنده حسن.
(39) زاد المعاد: 2/461.
(40) رواه الترمذي: 2066، وأحمد في المسند: 11664.
(41) سورة المجادلة: الآية 10.
(42) سورة النحل: الآية 60.