هشام بن عبد العزيز الحلاف
يسم الله الرحمن الرحيم
(طرق معرفة العلة)
لما كانت العلة سبباً خفياً غامضاً = كان لا بد من وجود طرق ترشد إلى وجودها، ووسائل تعين على الوقوف عليها، ومن خلال كلام العلماء في هذا العلم -وممارستي له- تبيّن لي أنه لا بد من عدة خطوات حتى يمكن معرفة سلامة الحديث من العلة أو وجودها فيه.
وإليك هذه الخطوات:
أولاً: جمع طرق الحديث:
وقد كان المحدثون يهتمون بذلك ويؤكدون عليه:
قال أحمد: (الحديث إذا لم تُجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً).
وقال علي بن المديني: (الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبين خطؤه).
وقال عبدالله بن المبارك: (إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض).
ولهذا قال يحيى بن معين: (اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة).
وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه).
وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من مائة وجه ما وقعنا على الصواب).
وقال أبو حاتم الرازي: (لو لم يُكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه).
وكان بعض الحفاظ يقول: (إن لم يكن الحديث عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم).
وللمحدثين في ذلك الأخبار الكثيرة، ومن ذلك:
قال ابن حبان: سمعت محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي يقول: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة، فقال له: (سمعتها من أحد؟) قال: (نعم، حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة)، فقال: (والله، لا حدثتك). فقال: (إنما هو درهم، وأنحدر إلى البصرة، وأسمع من التبوذكي)، فقال: (شأنك). فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى موسى بن إسماعيل، فقال له موسى: (لَمْ تسمع هذه الكتب من أحد؟) قال: (سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفساً، وأنت الثامن عشر). فقال: (وماذا تصنع بهذا؟) فقال: (إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميّز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم بخلافه، علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه، وبين ما أخطئ عليه).
ثانياً: الموازنة بين الطرق:
وفي هذه الخطوة يتم المقارنة بين طرق الحديث بعد جمعها، فإن اتفقت الطرق، ولم يوجد بينها اختلاف = علمنا حينئذ سلامة الحديث من العلة.
قال ابن حجر: (السبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف -أي ابن الصلاح- عن الخطيب: أن يُجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف).
قلتُ: وإن وجد اختلاف بين هذه الطرق (كالاختلاف بين الوصل والإرسال، والوقف والرفع، ونحوه..) فلابد حينئذٍ من تحديد الراوي الذي اختلف عليه، ومعرفة الأوجه التي رويت عنه، ثم يكون الترجيح بين هذه الطرق بقرائن كثيرة لا يمكن حصرها.
قال العلائي: (ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده، والله أعلم).
وقال ابن الصلاح: (ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه).
وهناك أحاديث ليس فيها اختلاف في طرقها، وإنما تدرك علتها بأمور أخرى:
قال ابن رجب: (حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك. وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى أهله، إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم).
(أقسام العلة، وأنواعها)
يمكن تقسيم العلة بعدة اعتبارات:
((أ)) تقسيم العلة بحسب تأثيرها.
فالعلة بحسب تأثيرها على قسمين:
1- علة قادحة: وهي العلة التي يُضعّف الحديث من أجلها.
2- وعلة غير قادحة: وهي العلة التي لا يُضعف بها الحديث.
((ب)) تقسيم العلة بحسب محلها.
فالعلة بحسب محلها على قسمين أيضاً:
1- علة في الإسناد: وهي العلة التي تقع في إسناد الحديث.
2- علة في المتن: وهي العلة التي تقع في متن الحديث.
وسيأتي أمثلة للتقسيمين السابقين في التقسيم الثالث.
((ج)) تقسيم العلة بحسب تأثيرها ومحلها معاً.
من خلال التقسيمين السابقين يمكن لنا ظهور هذا التقسيم الثالث، وهذا التقسيم هو الذي ذكره ابن حجر في [نكته على ابن الصلاح] فإنه قال: (إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح وقد لا تقدح، وإذا قدحت فقد تخصه وقد تستلزم القدح في المتن. وكذا القول في المتن سواء.
فالأقسام على هذا ستة:
§ فمثال ما وقعت العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً:
ما يوجد مثلاً: من حديث مدلس بالعنعنة، فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبيّن أن العلة غير قادحة.
وكذا: إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته، فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أن تلك العلة غير قادحة.
§ ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن:
ما مثّل به المصنف من إبدال راو ثقة براو ثقة، وهو بقسم المقلوب أليق. فإن أبدل راو ضعيف براو ثقة وتبين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة.
§ ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما:
ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث [الصحيحين] إذا أمكن رد الجمع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها.
§ ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد:
ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ، والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي فيعلل الإسناد.
§ ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد:
ما ذكره المصنف -أي ابن الصلاح- من أحد الألفاظ الواردة في حديث أنس، وهي قوله: (لا يذكرون: ’بسم الله الرحمن الرحيم‘ في أول قراءة ولا في آخرها) فإن أصل الحديث في [الصحيحين]، فلفظ البخاري (كانوا يفتتحون بـ: ’الحمد لله رب العالمين‘)، ولفظ مسلم في رواية له نفي الجهر، وفي رواية أخرى نفي القراءة).
انتهى ما ذكره الحافظ ابن حجر باختصار يسير.
((د)) تقسيم العلة بحسب صورها.
وقد قسمها أبوعبد الله الحاكم في كتابه [معرفة علوم الحديث] إلى عشرة أقسام، ولم يذكر تعريفاً لكل نوع، وإنما اكتفى ببيان أمثلة لكل نوع.
وجاء السيوطي بعده في [تدريب الراوي] وذكر هذه الأنواع باختصار، معرفاً لكل نوع منها، فقال: (وقد قسم الحاكم في [علوم الحديث] أجناس المعلل إلى عشرة، ونحن نلخصها هنا بأمثلتها.
(أحدها): أن يكون السند ظاهره الصحة، وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه.
– كحديث موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: ’سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك‘». فروى أن مسلماً جاء إلى البخاري، وسأله عنه، فقال: (هذا حديث مليح، إلا أنه معلول. حدثنا به موسى بن إسمعيل، ثنا وهيب، ثنا سهيل، عن عون بن عبد الله قوله. وهذا أولى، لأنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل).
(الثاني): أن يكون الحديث مرسلاً من وجه رواه الثقات الحفاظ، ويسند من وجه ظاهره الصحة.
– كحديث قبيصة بن عقبة، عن سفيان، عن خالد الحذاء وعاصم، عن أبي قلابة، عن أنس، مرفوعاً: «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر» الحديث.. قال: فلو صح إسناده لأخرج في الصحيح، إنما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة مرسلاً.
(الثالث): أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي، ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته، كرواية المدنيين عن الكوفيين.
– كحديث موسى بن عقبة، عن أبي إسحق، عن أبي بردة، عن أبيه، مرفوعاً: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة». قال: هذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا ظن أنه من شرط الصحيح، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا، و إنما الحديث محفوظ عن رواية أبي بردة، عن الأغز المزني.
(الرابع): أن يكون محفوظاً عن صحابي، فيروي عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته، بل ولا يكون معروفاً من جهته.
– كحديث زهير بن محمد، عن عثمان بن سليمان، عن أبيه: (أنه سمع رسول الله ﷺ يقرأ في المغرب بالطور). قال: أخرج العسكري وغيره هذا الحديث في الوحدان، وهو معلول، أبو عثمان لم يسمع من النبي ﷺ، ولا رآه، وعثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، وإنما هو عثمان بن أبي سليمان.
(الخامس): أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه رجل دل عليه طريق أخرى محفوظة.
– كحديث يونس، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن رجل من الأنصار: (أنهم كانوا مع رسول الله ﷺ ذات ليلة، فرمى بنجم، فاستنار) الحديث.. قال: وعلته أن يونس -مع جلالته- قصر به، وإنما هو عن ابن عباس، حدثني رجال، هكذا رواه ابن عيينة، وشعيب، وصالح، والأوزاعي، وغيرهم.. عن الزهري.
(السادس): أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره، ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد.
– كحديث علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: قلت: (يا رسول الله، مالك أفصحنا؟) الحديث.. قال: وعلته ما أسند عن علي بن خشرم، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، بلغني أن عمر، فذكره.
(السابع): الاختلاف على رجل في تسمية شيخه، أو تجهيله.
– كحديث الزهري، عن سفيان الثوري، عن حجاج بن فرافصة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، مرفوعاً: «المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم». قال: وعلته ما أسند عن محمد بن كثير، حدثنا سفيان عن حجاج، عن رجل، عن أبي سلمة، فذكره.
(الثامن): أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه، لكنه لم يسمع منه أحاديث معينة، فإذا رواها عنه بلا واسطة فعلتها أنه لم يسمعها منه.
– كحديث يحيى ابن أبي كثير ،عن أنس: أن النبي ﷺ كان إذا أفطر عند أهل بيت قال: «أفطر عندكم الصائمون» الحديث.. قال: فيحيى رأى أنساً، وظهر من غير وجه أنه لم يسمع منه هذا الحديث، ثم أسند عن يحيى، قال: حُدثت عن أنس فذكره.
(التاسع): أن تكون طريقه معروفة، يروي أحد رجالها حديثاً من غير تلك الطريق، فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم.
– كحديث المنذر بن عبد الله الحزامي، عن عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ كان إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم» الحديث.. قال: أخذ فيه المنذر طريق الجادة، وإنما هو من حديث عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي.
(العاشر): أن يروي الحديث مرفوعاً من وجه، وموقوفاً من وجه.
– كحديث أبي فروة يزيد بن محمد، حدثنا أبى، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، مرفوعاً: «من ضحك في صلاته يعيد الصلاة، ولا يعيد الوضوء». قال: وعلته ما أسند وكيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، قال: سُئِل جابر، فذكره.
قال الحاكم: وبقيت أجناس لم نذكرها، وإنما جعلنا هذه مثالاً لأحاديث كثيرة).