المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

أهم مميزات علم الحديث (1)

أهم مميزات علم الحديث (1)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قد تنبهت إلى أربع خصائص لعلم الحديث، أحسبها أهم خصائصه، فأحببت لفت نظر طلاب العلم إليها، ليبتدئوا طلب علم الحديث بالأسلوب والمنهج الصحيح اللائق بهذا العلم، ولكي لا تتعثر خطاهم ويضيعوا أزماناً (لا تقدر بثمن) قبل إدراك ذلك المنهج الصحيح.

وإليك هذه المميزات الأربعة، تحت عناوين أربعة فيما يلي؛ متبعاً كل ميزة منها بالمنهج الذي تستلزمه في الطلب، وبأسلوب التحصيل الصحيح في مواجهتها، وما هي وسائل احتوائها دون أن تصبح عقبة كأداء في طريق علم الحديث.

الميزة الأولى:

من أهم مميزات علم الحديث أنه علم شديد المأخذ، صعب المرتقى، دقيق المسالك، بعيد الغور. ولذلك فليس من السهل فهمه، ولا من اليسير تعلمه، ولا يقدر على فقهه كل أحد، ولا يستطيعه كثير أناس.

ولهذا كان الإمام 'الزهري' (ت: 124هـ) يقول: (الحديثُ ذَكَر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم) (1). ومعنى هذا أن الحديث يحتاج إلى عقل فحل، في عزم وحزمه وإصراره وقوته، ولا ينفع معه العقل الضعيف المتردد المتحيّر الملول؛ وهذا غير الذكاء وسرعة الفهم، فربما كان العقل ذكياً لكنه ليس ذكراً!!

ولذلك فقد قلّ من ينجب في علم الحديث ويتميز، يوم أن كان طالبو الحديث ألوفاً! ويوم كانت ألوفهم من الطراز الأول من طلبة العلم!!

يقول 'شعيب بن حرب' (ت: 197هـ): (كنا نطلب الحديث أربعة آلاف، فما أنجب منا إلا أربعة) (2). ولما كثر من يطلب الحديث في زمن 'الأعمش'، قيل له: (يا أبا محمد، ما ترى؟! ما أكثرهم!!) قال: (لا تنظروا إلى كثرتهم،، ثلثهم يموتون، وثلثهم يلحقون بالأعمال -يعنى الوظائف الحكومية-، وثلثهم من كل مائة يفلح واحد) (3).

ولهذا العمق في علم الحديث نهى نقاد الحديث عن شرح كثير من علل الروايات إلا عند أهل الحديث، لما يخشى من شرح ذلك على غير أهل الحديث أن يكون سبباً في أن يفتتنوا أو يفتنوا!! من باب: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) (4)، وباب: (إنك لست محدثاً قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) (5)!!

يقول الإمام 'أبو داود السجستاني' (ت: 275هـ) في [رسالته إلى أهل مكة]: (وربما أتوقف عن مثل هذه -يعني: إبراز العلل-، لأنه ضرر على العامة، لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن ذلك) (6).

ويقول 'الخطيب البغدادي' (ت: 463هـ): (أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا تعرف جودة الدينار والدرهم بلون، ولا مس، ولا طراوة، ولا يبس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة؛ وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج الزائف والخالص والمغشوش. وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به) (7).

وقلبهما يقول 'عبد الرحمن بن مهدي' (ت: 198هـ): (معرفة الحديث إلهام) (8)، ويقول أيضاً: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) (9). ولما أنكر 'ابن مهدي' حديثاً رواه رجل، غضب للرجل جماعة، وقالوا 'لابن مهدي': (من أين قلت هذا في صاحبنا؟!) فلم يبيّن لهم العلة الحديثية التي جعلته ينكر على ذلك الرجل، وإنما قال لهم: (أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: ’انتقد لي هذا‘، فقال الصيرفي: ’هو بهرج‘، يقول له: ’من أين قلتَ لي: إنه بهرج؟‘ -فأجاب 'ابن مهدي' على لسان الصيرفي-: ’الزمْ عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم‘) (10).

ويؤكد أيضاً 'أحمد بن صالح المصري' (ت: 248هـ) أن علم الحديث لا يفهمه إلا أهله، عندما قال: (معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب، إنما يبصره أهله) (11).

وبذلك يقرر هؤلاء العلماء وغيرهم من أئمة السنة أن علم الحديث علم تخصصي، لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى إلى صرف الهمة كلها له، ووقف الجهد جميعه عليه، وقصر الحياة على تعلمه وتحصيله؛ وما ذلك إلا لأنه علم شديد العمق بعيد الغور، كما سبق.

ومع ذلك:

لا يؤيسنك من مجد تباعــــــده ×× فإن للمجد تدريجاً وترتيبـا

إن القناة التي شاهدت رفعتها ×× تسمو فتنبت أنبوباً فأنبوبا

وقال آخر

اصبر على مضض الإدلاج بالسحر ×× وبالرواح على الحاجات والبكر

لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها ×× فالنجح يتلف بين العجز والضجر

إني رأيت –وفي الأيام تجربة- ×× للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقل من جد في أمر يطالبه ×× واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

ومن رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أن قرن بصعوبة علم الحديث وشدته لذة وشهوة ومتعة عارمة، تملك فؤاد طالبه، وتجعله ينسى الدنيا بما فيها، وتتركه بين رياض السنة جذلان هيمان. إنها (شهوة الحديث)، تلك الشهوة التي صنعت المستحيلات، وتضاءلت أمامها كل العقبات. ولولا هذه الشهوة لمات علم الحديث قبل أن يولد، ولتفتت همم الرجال على سفوح جباله، ولساحت العزائم العظام في صحاريه، ولغرقت عقول العباقرة في لجج بحاره. لقد بلغت هذه الشهوة الحديثية إلى درجة أن خاف بعض الأئمة على أنفسهم من أن تتجاوز بهم إلى طرف مذموم من الغلو في التعمق، إلى درجة التقصير في حقوق الخالق أو المخلوقين أو حق النفس، حيث إنها شهوة تفوق وله العاشقين (وهي أطهر)، وقد فعلت بأصحابها من عجائب الأفاعيل، ما قيدته حقائق التاريخ؛ فلئن هام العاشقون على وجوههم في الصحاري، فلقد كانت الصحارى بعض ما قطعه المحدثون في طلب الحديث، ولئن تعرض الولهون لغيرة أهل المحبوبة من أجل نظرة عابرة منها، فلقد ركب المحدثون الأهوال وعاشوا مع الأخطار من أجل كتابة حديث بإسناد عال كانوا قد كتبوه نازلاً، ولئن تغرب المدنفون وراء مرابع الأحباب، فلقد هجر المحدثون الأهل والأولاد والأوطان إلى غير رجعة، ولئن كان (مجنون ليلى) وأضرابه بالعشرات، فإن أهل الحديث بعشرات الألوف!!

إنها شهوة الحديث: التي حفظ الله تعالى بها الدين، وحمى بها السنة!!

يقول 'سفيان الثوري' (ت: 161هـ): (فتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة) (12).

فأنعم بهذه الفتنة التي يحتقر معها الدينار والدرهم!!!

ولصعوبة علم الحديث قل أهله العارفون به كما سبق!

يقول الإمام 'البخاري ' (ت: 256هـ): (أفضل المسلمين رجل أحيى سنة من سنن رسول الله قد أميتت؛ فاصبروا يا أصحاب السنن -رحمكم الله-، فإنكم أقل الناس).

فقال 'الخطيب' عقبه: (قول 'البخاري': ’إن أصحاب السنن أقل الناس‘ عنى به: الحفاظ للحديث، العالمين بطرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق -رحمه الله- في قوله؛ لأنك إذا اعتبرت لم تجد بلداً من بلدان الإسلام يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويعولون فتاواهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به، مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته. وقد كان العلم في وقت 'البخاري' غضاً طرياً، والارتسام به محبوباً شهياً، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال هذا القول الذي حكيناه عنه!!! فكيف نقول في هذا الزمان؟!! مع عدم الطالب، و قلة الراغب!! وكأن الشاعر وصف قلة المتخصصين من أهل زماننا في قوله:

وقد كنا نعدهم قليلاً ×× فقد صاروا أقل من القليل (13)).

وأقول: رحم الله 'الخطيب'! فقد قامت المناحة على أهل الحديث من قرون!!! وما عادوا قليلاً، ولا أقل من القليل، بل هم عدم من دهور، تكاد -والله- آثارهم تنمحي، وأخبارهم تنسى ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].

لكننا ننتزع من كلمة 'الخطيب' السابقة الروح التي قد تبعث موتى أهل الحديث، وتنشرهم من القبور؛ إنه التخصص الدقيق العميق في علم الحديث. إذ إن صعوبة علم الحديث وشدة مأخذه، لا يواجهها إلا التخصص، ولا يجاوزنا عقبتها إلا جمع الهمة كلها في تحصيله والتفرغ الكامل له.

وقبل الحديث عن حاجة علم الحديث إلى التخصص فيه، وأنه علم يستعصي على من قرن به غيره، ولا يقبل له عند طالبه ضرة، كالليل والنهار، والدنيا والآخرة؛ قبل ذلك أتكلم عن أهمية التخصص في جميع العلوم، وبيان أن التخصص منهج ضروري لا حياة ولا بقاء للعلوم إلا به.

وقد نبّه العلماء قديماً على أهمية التخصص في العلوم، فقال 'الخليل ابن أحمد الفراهيدي' (ت: 170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه) (14).

وقال 'أبو عبيد القاسم بن سلام' (ت: 224هـ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك) (15).

إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم -أو على رأي 'الخليل بن أحمد': (الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)- جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئاً.

وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعباً، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين؛ وذلك بيّن واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا..

أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله أكثر!!!

أولئك كانت حياتهم كرامة، و وجهدهم معجزة خارقة للعادات!!!

فأين نحن من أن نحوي علومهم؟! وأنى لنا أن نستوعب علم ما خلفوه لنا؟!

ومع ذلك فقد تكلم هؤلاء أنفسهم عن فضل التخصص في العلم، فما أجهلنا إن حسبنا أننا بغير التخصص سنفهم علماً من العلوم!!!

ولقد سبرت بعض أحوال المتعلمين، فوجدت أكثرهم علماً وإنصافاً وتواضعاً، وأدقهم نظراً وفهماً، وأحسنهم تأليفاً وإبداعاً: هم أصحاب التخصصات.

في حين وجدت أقلهم علماً وإنصافاً، وأكثرهم كبراً وتعالياً وتعالماً، وأبعدهم عن الفهم والتدقيق وعن الإبداع والإحسان في التأليف: المتفننين أصحاب العلوم، أو سمهم بالمثقفين؛ إلا من رحم ربك.

ومن فضل صاحب التخصص الفضل الظاهر -الذي يقرني عليه المنصف- أن صاحب التخصص لا يثرب على المتفنن، بل يراه أكثر أهلية منه في أمور، كإلقاء المحاضرات والدعوة ومواجهة العامة، ويعتبره بذلك على ثغرة من ثغرات الإسلام، ويرى أن الأمة في حاجة إلى أمثاله. وأما أصحاب الفنون، فعلى الضد من ذلك، فهم أكثر الناس تثريباً وعيباً على المتخصصين، ولا يرون لهم فضلاً عليهم، ولا في العلم الذي تخصصوا فيه، وينازعونهم مسائلة (وهم بها جهلاء)، ويشنعون عليهم لعدم معرفتهم ببعض ما لم يتخصصوا فيه.

ولك بعد هذا أن تحكم، أي الفريقين أدخل الله في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [سورة المائدة: 42].

ولله ما يلاقيه أصحاب التخصصات من إخوانهم المتفننين!! من عدم فهم الأخيرين لتخصصاتهم، مع كلامهم فيها ومنازعتهم أهلها، بل قد يصل الأمر إلى استغلال أصحاب الفنون علاقتهم بالعامة والغوغاء، وانبهار هؤلاء بهم، فيتطاولون على أصحاب التخصصات وعلى علومهم، بما لا يؤلم العالم شيء مثله، وهو الكلام بجهل، وتشويه العلوم.

ومن فضل صاحب التخصص إذا وفقه الله تعالى، أنه من أكثر الناس لقالة: (لا أدري)، إذا سئل عن غير تخصصه. ولهذه القالة بركة لا يعرفها إلا قليل، فهي باب التواضع الكبير، وباب للعلم أكبر. وأما صاحب الفنون، فهو عن (لا أدري) أبعد؛ لأنه يضرب في كل علم بسهم، وبكثير جوابه على أسئلة العامة وأنصاف المتعلمين، التي هي -في الغالب– سؤالات عن الواضحات وعن ظواهر العلوم؛ فينسى مع طول المدة (لا أدري)، ولا يعتاد لسانه عليها، ولا تنقهر نفسه لها؛ لذلك فهو عن بركاتها ليس بقريب!!

ثم إن للعلم دقائق لا يعرف المتفننون عنها شيئاً، أما المتخصصون فقد خبروها، وقادتهم إلى دقائق الدقائق. فهم فقهاء العلوم حقاً، وأطباء الفنون صدقاً.

يقول 'الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني' تلميذ 'الشافعي' (ت: 260هـ): سمعت 'الشافعي' يقول: (من تعلم علماً فليدقِّق، لكيلا يضيع دقيق العلم) (16).

كذا نصائح الأئمة، نور على نور!!

وأما 'الشافعي' فقد كان آمناً من ضياع جليل العلم وعظمه، خائفاً من ضياع دقيقة. أما نحن الآن فنقول: (من تعلم علماً فليدقّق، لكيلا يضيع جليل العلم)؛ فدققوا يا بني إخوتي ما شئتم من التدقيق، فنحن مع تدقيقكم هذا لعلى جليل العلم وجلون!!!

وهنا أنبّه على أن مطالبتنا بالتخصص لا يعني أن نطالب بذلك على حساب فروض الأعيان من العلوم، كتصحيح العقيدة، وعلم التوحيد الجملي، وما يحتاج إليه من فقه العبادات، وما شابهها من الفروض العينية من العلوم؛ فهذا ما لا يجوز على مسلم جهله، فضلاً عن طالب العلم؛ بل نحن نطالب طالب العلم بما فوق ذلك، وهو أن لا يكون جاهلاً بنفع كل علم نافع (ولا أقول أن يكون عالماً بكل علم نافع، فهذا ضد ما أحث عليه)؛ لأن الجهل بنفع علم ذي علم فائدة دنيوية أو أخروية يدعو إلى معاداة ذلك العلم، على قاعدة: ’من جهل شيئاً عاداه‘؛ ويقبح بطالب العلم أن يعادي علماً نافعاً، مهما قل نفعه في رأيه، فإنه لا ينقص على أن يكون فرضاً كفائياً.

وما أجمل وصية 'خالد بن يحيى بن برمك' (ت: 165هـ) لابنه، عندما قال له: (يا بني، خذ من كل علم بحظ، فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئاً من العلم عاديته، وعزيز عليَّ أن تعادي شيئاً من العلم) (17).

وأخص من العلوم مما يقبح بطالب العلم جهله العلوم الإسلامية جميعاً، كعلم الفقه، وأصوله، والتفسير، وأصوله، والعقيدة، وعلوم الآلة من نحو، وصرف، وبلاغة، وأدب، مما ينبغي على طالب علم الحديث المتخصص أن يحصل شيئاً منها. وضابط تحصيله لهذه العلوم (حتى لا يناقض ذلك مطالبتي له بالتخصص) أن يجعل مقصوده من طلبه لهذه العلوم تكميل استفادته لتخصصه وعميق فهمه له؛ حيث إن العلوم الإسلامية بينها ترابط كبير، لا يمكن من أراد التخصص في علم منها أن يكون جاهلاً تمام الجهل بما سواه. بل ربما قادته مسألة دقيقة في علم الحديث (مثلاً) إلى التدقيق في مسألة من مسائل أصول الفقه أو غيره، حتى يخرج بنتيجة في مسألته الحديثية. وليس ذلك بغريب على من عرف العلوم الإسلامية، وقوة ما بينها من أواصر القربى العلمية.

ولأزيد الأمر إيضاحاً أقول: كيف يتسنى لطالب الحديث أن يعرف الصواب في إحدى مشاهير مسائله؟ وهي مسألة الرواية عن أهل البدع وحكمها، إذا لم يكن عارفاً بالسنة والبدعة، وبصنوف البدع وأقسام المبتدعة، وبالغالي منهم ومن بدعته غليظة ومن يكفر ببدعته ممن هو بخلاف ذلك؛ وهذا كله باب من أبواب العقيدة عظيم.

وكيف يمكن لطالب الحديث أن يميز بين الروايات المختلفة، مثل زيادات الثقات: مقبولها ومردودها، والشاذة منها والمنكرة، والناسخة والمنسوخة، والراجحة والمرجوحة، إذا لم يكن عنده أصول الفقه والقدرة على الاستنباط والفهم للنصوص ما يتيح له الحكم في ذلك كله؟!

المهم أن يأخذ من العلوم التي لم يتخصص فيها، بقدر ما يخدم العلم الذي تخصص فيه، ولا يزيد على ذلك، وإلا لم يصبح متخصصاً، وإنما يكون متفنناً.

وطريقة تحصيله لتلك العلوم التي لا ينوي التخصص في واحد منها، مما لا يخرجه عن حد التخصص إلى حد التفنن، هي أن يدرس مختصراً من مختصرات تلك العلوم، تمكنه من مراجعة مطولات تلك الفنون، فيما إذ أحوجه علمه الذي تخصص فيه إلى ذلك، كما سبق التمثيل له. وعليه أيضاً أن لا يقطع صلته بعلماء تلك العلوم المتخصصين فيها، وأن يصوب فهمه من علومهم عليهم، وأن لا يستبد بشيء من علمهم دون الرجوع إليهم.

وأما التخصص في علم الحديث، فقد سبق أنه من أحوج العلوم إلى التخصص فيه، لشدة عمقه وسعة بحور وامتداد آفاقه. مع ذلك فعندي في مشروعية التخصص فيه (ولو على حساب الفقه!) سنة ثابتة وحديث صحيح مشهور! وهو قول النبي : «نضر الله امرأً سمع منا مقالة فحفظها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (18).

و (نضر) بتخفيف الضاد وتشديدها: من النضارة، وهي الحسن والرونق والبهاء. فالنبي يدعو لراوي الحديث بالحسن والبهاء مطلقاً، في الدنيا والآخرة. وقيل إن المعنى: أبلغه الله تعالى نضارة الجنة.

وراوي الحديث الذي دعا له النبي بالنضارة: هو رواية باللفظ، ولو كان لا يفهم كل معاني الحديث (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ولو كان لا فهم له في الحديث أبداً (رب حامل فقه لا فقه له)!!

وهذا يدل على مشروعية رواية الحديث دون فقه، بل يدل على استحباب ذلك؛ ويدل على أن رواي الحديث دون علمه بفقهه محمود غير مذموم، وأنه مستحق بفعله هذا دعوة النبي له.

وقد تعقب 'الرامهرمزي' (ت: 360هـ) هذا الحديث في كتابه [المحدث الفاصل بين الراوي والواعي] بقوله: (ففرق النبي بين ناقل السنة وواعيها، ودل على فضل الواعي بقوله: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه». وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر (19)؛ ومثال ذلك: أن تمثل بين 'مالك بن أنس' و 'عبيد الله العمري'، وبين 'الشافعي' و 'عبد الرحمن بن مهدي'، وبين 'أبي ثور' و 'ابن أبي شيبة' (20)، فإن الحق يقودك إلى أن تقضي لكل واحد منهم بالفضل.

وهذا طريق الإنصاف لمن سلكه، وعلم الحق لمن أمه ولم يتعده) (21).

ورحم الله السلف! فقد كانوا أسبق إلى كل خير وعلم وإنصاف؛ ولهذا لما روى 'مطر بن طهمان الوراق' (ت: 125هـ فيما يقال) حديثاً، وسئل عن معناه، قال: (لا أدري، إنما أنا زاملة)، فقال له السائل –وكان عاقلاً منصفاً– (جزاك الله خيراً، فإن عليك من كل: حلو وحامض) (22).

وانظر إلى إجلال السلف لرواة الحديث، في العبارة التالية: يقول 'محمد بن المنكدر' (ت: 130هـ): (ما كنا ندعو الراوية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول للذي يروي أحاديث الحكمة إلا: عالم) (23).

ومما سبق إليه السلف من العلم والخير والحق، التنبيه إلى أن علم الحديث علم لا يقبل الشركة، ولا توزيع الهمة على غيره معه.

يقول 'الربيع بن سليمان المرادي' (ت: 270هـ) تلميذ 'الشافعي': مر 'الشافعي' 'بيوسف بن عمرو بن يزيد' -وكان من كبار فقهاء المالكية، (ت: 250هـ)- وهو يذكر شيئاً من الحديث، فقال: (يا 'يوسف'، تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه؟!! هيهات!!!) (24).

وقد قدم 'الخطيب' هذه الكلام من 'الشافعي'، وهو يصف الذي يبرع في علم الحديث بقوله: (أن يعاني علم الحديث دونما سواه، لأنه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يضم غيره من العلوم إليه) (25).

ثم أخرج 'الخطيب' عقب ذلك العبارتين التاليتين:

يقول 'أبو يوسف القاضي' (ت: 182هـ): (العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض على غرر) (26).

ويقول 'أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي': (لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله إليه فلم يشهد جنازته) (27).

فإن كانت هاتان العبارتان حقاً في العلوم جميعها، فهي في علم الحديث أولى أن تقال وأحق. وهذا هو ما قصده 'الخطيب'، عندما ساقها في ذلك السياق.

وللتخصص في كل العلوم معناه، وفي علم الحديث له معناه الخاص به؛ فهو تخصص لا يقبل الانقطاع إلى غيره، مهما طال زمن التفرغ في تحصيله، ومهما ظن طالبه أنه تملا منه وتضلع. لأنه خبرة دقيقة وحاسة لطيفة، لا تدوم إلا مع بقاء الالتصاق بالعلم. وسرعان ما تفسد تلك الخبرة، وتتعطل تلك الحاسة، إذا انقطع الطالب عن العلم فترة يسيرة.

يقول في بيان ذلك 'عبد الرحمن بن مهدي' (ت: 198هـ): (إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصرة) (28).

وبلسان أهل عصرنا: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة تاجر العملات، لا يستطيع أن يستفيد ويربح، إلا إذا كان متابعاً لأسواق العملات، دون انقطاع؛ فإذا انقطع يوماً واحداً، أصبح كالجاهل بهذا السوق تماماً، وكأنه لم يكن عليماً به يوماً من الأيام! لأنه لا يستطيع أن يشتري أو يبيع، لعدم علمه باختلاف أسعار العملات الذي يتبدل كل ساعة.

ولذلك لم يجعل الإمام 'أحمد' (ت: 241هـ) لطلب الحديث زمناً ينتهي عنده، ولم يوقت له فترة يجعلها حده؛ عندما سئل: (إلى متى يكتب الرجل الحديث؟) قال: (حتى يموت) (29).

فإن قيل: (قد جاءت عبارات كثيرة في كتب العلم، تدل على ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، أو على ذم إفناء العمر في جمع طرق الأحاديث وتتبع الأسانيد؟

§ فمن الأول: قول القائل:

زوامل للأسفار لا علم عندهـم ×× بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ×× بأحماله أو راح ما في الغرائر

§ ومن الثاني: قصة 'حمزة بن محمد الكناني' الحافظ (ت: 357هـ)، قال: (خرّجتُ حديثاً واحداً عن النبي من مائتي طريق، أو من نحو مائتي طريق، فداخلني من ذلك الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك. قال: فرأيت ليلة من الليالي 'يحيى بن معين' في المنام، فقلت له: (يا 'أبا زكريا'، خرجت حديثاً واحداً عن النبي من مائتي طريق!) قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: (أخشى أن يدخل هذا تحت: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [سورة التكاثر: 1]))) (30).

فما هو معنى تلك العبارات؟ مع ما ندعو إليه من التخصص في علم الحديث.

فأقول:

 

§ أما ما جاء في ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، فلا يعارض كلام من كان من الناس بقوله النبي الذي سبق ذكره، مما يدل على مشروعية بل استحباب ما عابه ذلك العائب. ثم إن الذي صدر منه ذلك الذم أحد رجلين:

– إما أنه من أهل العلم والفضل، وحينها يحمل كلامه على ذم من قصر فيما لا يجوز التقصير فيه من الفقه بالفروض العينية ونحوها، مما تقدم ذكره.

– وإما أن هذا الذام من أهل الرأي وأصحاب البدع، الذين يعادون السنة وأهلها، وينفرون من علومها؛ وهؤلاء لا وزن لمدحهم وذمهم، بل ربما كان ذمهم مرجحاً كفة المذموم على الممدوح منهم!!

§ وأما ما ورد من عيب إفناء العمر في تتبع طرق الأحاديث وجمع الأسانيد، فليس الأمر على إطلاقه.

فهذا 'يحيى بن معين' الذي رآه 'حمزة الكناني' يذم فعله في ذلك، يقول 'يحيى بن معين' هذا: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه) (31).

ويقول الإمام 'أحمد': (الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً) (32).

وقال 'علي بن المديني': (الباب إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه) (33).

 إذن ما هو الأمر المعيب في تتبع الطرق وجمع الأسانيد؟

أجاب عن ذلك 'الخطيب البغدادي' في كتبه، وحصر سبب عيب ذلك في أمرين:

– الأول: جمع الأحاديث وقطع الأعمار في كتابتها، صحيحها وضعيفها وموضوعها، دون تمييز الصحيح بمزيد اعتناء، ولا معرفة الضعيف بعلته، ولا التنبيه على المكذوب والباطل؛ فهو جمع وتصنيف على الإهمال والإغفال، يضر أكثر مما ينفع.

يقول 'الخطيب ' في [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع]: (ينبغي للمنتخب أن يقصد تخير الأسانيد العالية، والطرق الواضحة، والأحاديث الصحيحة، والروايات المستقيمة. ولا يذهب وقته في الترهات، من تتبع الأباطيل والموضوعات، وتطلب الغرائب والمنكرات … -ثم قال- والغرائب التي كره العلماء الاشتغال بها، وقطع الأوقات في طلبها، إنما هي ما حكم أهل المعرفة ببطلانه، لكون رواته ممن يضع الحديث، أو يدعي السماع. أما ما استغرب لتفرد رواية به، وهو من أهل الصدق والأمانة، فذلك يلزم كتبه، ويجب سماعه وحفظه) (34).

وقال 'الخطيب' أيضاً: (ولو لم يكن في الاقتصار على سماع الحديث وتخليده الصحف، دون التمييز بمعرفة صحيحة من فاسده، والوقوف على اختلاف وجوهه، والتصرف في أنواع علومه، إلا تلقيب المعتزلة القدرية من سلك تلك الطريقة بالحشوية؛ لوجب على الطالب الأنفة لنفسه، ودفع ذلك عنه وعن أبناء جنسه) (35).

– الثاني: يقول في بيانه 'الخطيب' في [شرف أصحاب الحديث]: (إنما كره 'مالك' و 'ابن إدريس' وغيرهما الإكثار من طلب الأسانيد الغريبة والطرق المستنكرة، كأسانيد: (حديث الطائر، وطرق حديث المغفر، وغسل الجمعة، وقبض العلم، وإن أهل الدرجات، ومن كذب علي، ولا نكاح إلا بولي..) وغير ذلك، مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه، ويعنون بجمعة؛ والصحيح من طرقه أقلها. وأكثر من يجمع ذلك: الأحداث منهم، فيتحفظونها ويذاكرون بها. ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثاً وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة التي أكثرها موضوع وجلها مصنوع، ما لا ينتفع به، وقد أذهب من عمره جزءاً في طلبه. وهذه العلة هي التي اقتطعت أكثر من في عصرنا من طلبه الحديث عن التفقه به، واستنباط ما فيه من الأحكام. وقد فعل متفقهة زماننا كفعلهم، وسلكوا في ذلك سبيلهم، ورغبوا عن سماع السنن من المحدثين، وشغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين. فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على مالا فائدة فيه) (36).

فبيّن 'الخطيب' أن سبب كراهة 'مالك' وغيره لتتبع الطرق وجمع الأسانيد من طلبة الحديث، لا لأنه تتبع وجمع وحسب، ولكنه جمع لطرق أحاديث صحيحة أصلاً، وليس هناك أي فائدة زائدة من تتبع أسانيدها الأخرى التي قد يكون أغلبها ضعيفاً أو باطلاً. ومثال ذلك في عصرنا: ذاك الذي سود صفحات طويلات في تخريج حديث واحد، متوسعاً غاية التوسع في ذكر مصادر العزو، من مسانيد، ومعاجم، ومشيخات، وأجزاء، وتواريخ.. مع أن الحديث صححه الشيخان من قبل، ولعلّه وافقهما على تصحيحه أئمة آخرون، ولا مخالف لهم في تصحيحه؛ فيخرّج أخونا هذا، دون أي فائدة زائدة على ما كان قد بدأ به، عندما عزا الحديث [للصحيحين]، وهو أن الحديث صحيح!!

ثم إنه لا تتحقق كراهية ذلك الجمع للأسانيد إلا بشرط، وهو إذا ما كان الجامع لها من أحداث طلبة العلم وصغارهم، ممن لم يصلوا إلى درجة معرفة قدر جيد من صحيح السنة، فتنقطع أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، ولعل أحدهم لا يعرف حديثاً صحيحاً -كما يقول 'الخطيب'- فذهب عمره فيما لا ينتفع به. فمثل هذا لا تخصص في الحديث، ولا تعلم الفقه؛ ولذلك عاب عليهم 'الخطيب' انشغالهم عن الفقه بما هم فيه، فالفقه أجل وأشرف بكثير مما هم فيه.

ولذلك قال 'علي بن المديني': (إذا رأيت طالب الحديث أول ما يكتب الحديث يجمع: (حديث الغسل، وحديث من كذب علي..) فاكتب على قفاه: ’لا يفلح‘) (37).

أما إذا كان الجامع لطرق الحديث -ولو كان أصل الحديث صحيحاً بأقل تلك الطرق، أو بواحد منها- من الأئمة الكبار في السنة، الذين هم (أولاً): أئمة في الاطلاع على صحيح السنة والثابت منها، وفي تمييز المقبول من المردود، وهم (ثانياً): لم يقطعوا أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، بدليل إمامتهم واطلاعهم العظيم على السنة = فهؤلاء لو جمعوا أسانيد حديث صحيح بأحد تلك الأسانيد، أي لو قاموا بمثل ما عبناه على الأحداث الصغار في العلم، لما عبناهم بذلك، بل نفرح بجهدهم هذا، ونعتبره من النفائس والأعلاق؛ وذلك لأن جمعهم الأسانيد لم يكن على حساب كمال علمهم بالسنة، ولم يشغلهم عما ينتفعون به من الأحاديث الصحيحة وتمييزها عن السقيمة. ولذلك فإن الأحاديث التي مثل بها 'الخطيب' مما يعاب على الأحداث جمعه، لا يكاد يوجد حديث منها إلا قام بجمع طرقه حفاظ كبار وأئمة أعلام ممن يقتدي بهم.

• (فحديث الطير) للإمام 'الذهبي' فيه مصنف.

• و (حديث غسل الجمعة) جمع طرقه الحافظ 'ابن حجر'، كما نقله 'الزبيدي' في [لقط اللآلي المتناثرة].

• و (حديث من كذب علي) جمع طرقه 'الطبراني'ـ و 'ابن الجوزي'.

• و (حديث لا نكاح إلا بولي) جمع طرقه 'شرف الدين الدمياطي'.

بل إن 'الخطيب' نفسه ذكر جل هذه الأحاديث، في سياق ما ينصح بجمعه، اقتداء بالمحدثين الذين جمعوا تلك الأحاديث (38). ومن قبله ذكرها 'الحاكم' في كتابه [معرفة علوم الحديث]، في نوع خاص بها (39).

وخلاصة ما سبق، فيما يلام عليه طالب الحديث وما لا يلام عليه من التدقيق في العلم، هو أنه يلام في قضاء العمر: في جمع الأباطيل والمناكير، وعدم تمييزها عن الصحاح المشاهير؛ وفي تتبع أسانيد حديث صحيح بأحد تلك الطرق، ولا فائدة في تتبع الأسانيد الأخرى، إلا انقضاء الحياة دون معرفة قدر كبير من صحيح السنة، وتعلم علوم الحديث.

أما اللوم على التدقيق في العلم مطلقاً، فهو من أعظم الصواد عن العلم، ومن أكبر الدواعي إلى الجهل؛ وإلا فمتى يصل طالب العلم إلى مصاف العلماء؟ إذا لم يدقّق التدقيق الذي بحسب مرتبته من العلم، والذي هو من باب الترقي في التعلم والتدرج فيه؛ من هو فهم رءوس المسائل، إلى فهم فروع المسائل، إلى التفقه في العلم وأدلته وأصوله، إلى الاجتهاد فيه والاستنباط. وقد سبقت عبارة الإمام 'الشافعي' التي يقول فيها: (من تعلم علماً فليدقّق، لكيلا يضيع دقيق العلم).

وإنما أطلتُ هذه الإطالة في الحثّ على التخصّص، وفي علم الحديث خاصة، لكثرة من يعيب ذلك!! وفي هؤلاء العائبين من نحسن به الظن، وغالبهم من إخواننا المتفننين، كما سبق!!

وأطلت هذه الإطالة أيضاً، لمزيد احتياج علم الحديث إلى التخصص الدقيق حقيقة، وإلى التعمق فيه؛ وخاصة في هذه الأعصار؛ فأين هم نقاده وصيارفته؟! وأين هم أطباء علله؟!!

 

الهوامش:

(1) انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (64)، و المحدث الفاصل للرامهرمزي (179 رقم 31 – 32)، و المجروحين لابن حبان (1/62)، و الكامل لابن عدي (1/58 –59)، و المدخل إلى الإكليل للحاكم (27)، و حلية الأولياء لأبي نعيم (3/365)، و شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم150، 151)، و مسألة العلو والنزول لابن طاهر (رقم 9)، وترجمة الزهري من تاريخ دمشق –الترجمة المطبوعة المفردة– (150).

(2) الجامع للخطيب (رقم93).

(3) الجامع للخطيب (رقم 96).

(4) أثر صحيح عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: أخرجه البخاري (رقم 127)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 610)، والخطيب في الجامع (رقم 1355).

(5) أثر صحيح عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: أخرجه مسلم في مقدمة صحيحة (1/11)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 611)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (رقم 888)، والخطيب في الجامع (رقم 1358).

(6) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (31-32).

(7) الجامع للخطيب (رقم 1835).

(8) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9)، و معرفة علوم الحديث للحاكم (113)، والجامع للخطيب (رقم 1837).

(9) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9).

(10) الجامع للخطيب (رقم 1838).

(11) الجامع للخطيب (رقم 1839).

(12) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 277).

(13) الجامع للخطيب (1/168 رقم 91).

(14) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 850).

(15) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 852).

(16) الأنساب المتفقة لابن طاهر المقدسي (3).

(17) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 853).

(18) حديث صحيح مشهور، أخرجه أصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما. وروي من حديث نحو ثلاثين صحابياً. ولأبي عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم المديني (ت: 333هـ) جزء حديثي عنون به. وللشيخ عبد المحسن العباد دراسة حديث (نضر الله أمرأ سمع مقالتي – رواية ودراية.

(19) ما أحسن قوله: (وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر)! فإنك إن ذكرت فضل الفقيه، قلنا لك: وهل تفقه الفقيه إلا بما رواه له المحدث وميز له صحيحه من سقيمه؟! وإن ذكرت فضل المحدث، قلنا لك: وهل يكون للرواية فائدة إلا بفقهها للعمل بما فيها؟! 

(20) هذه الأمثلة الثلاثة، ذكر في كل واحد منها قرينين، الأول منهما: إمام في الفقه، والثاني: إمام في الحديث؛ فمن ينتقص أحد الإمامين؟!! أمن يستطيع ذلك؟!!!

(21) المحدث الفاصل للرامهرمزي (169 – 170).

(22) جامع بيان العلم لابن عبد البر  (رقم 1944)، والجامع لأخلاق الراوي للخطيب (رقم 1371).

(23) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 1533).

(24) الجامع للخطيب (2/251 رقم 1569).

(25) الجامع للخطيب (رقم 1569).

(26) الجامع للخطيب (رقم 1570).

(27) الجامع للخطيب (رقم 1571).

(28) الجامع للخطيب (رقم 1909).

(29) شرف أصحاب الحديث (رقم 145).

(30) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 1988).

(31) التاريخ لابن معين (رقم 4330)، والجامع للخطيب (رقم 1699).

(32) الجامع للخطيب (رقم 1700).

(33) الجامع للخطيب (رقم 1701).

(34) الجامع للخطيب (126 – 227 رقم 1523، 1528).

(35) الجامع للخطيب (رقم 1599).

(36) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 304).

(37) الجامع للخطيب (رقم 1986).

(38) الجامع للخطيب (رقم 1983).

(39) معرفة علوم الحديث للحاكم (250 – 254).