مروان محمد أبو بكر
هل لإبليس زوجة؟!
مروان محمد أبو بكر
محاضر بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة السودان
تَرِدُ على الباحثين الشرعيين أسئلةٌ لا يستطيعون البحث عن جوابها مدةً من الزمن، لا للتفكير في المراجع مَظَنَّةَ الإجابة، أو النظرِ في مقصد السائل، أو التفكير لمعرفة الباب -من أبواب الدين- الذي إليه يُنسَبُ هذا السؤال: الفقهُ، أم العقيدةُ، أم الآدابُ والسلوك؟ ولا ليطلبَ توضيحاً من السائل؛ لكونه أغفل بعض الجوانب المهمة التي تتوقف عليها الإجابة؛ لا ليفعل شيئاً من ذلك؛ ولكنه في حاجة ماسة لا يستطيع دفعها إلى تلكم المدة الزمنية، التي قد تطول أو تقصر، حسب السؤال، والتي يحتاجها الباحث فقط ليضحك!
فبعض الناس لهم قدرة خارقة على التفكير في أسئلة ما سبقهم إليها أحد من العالمين! ولا فائدة تعود عليهم من معرفة جوابها، ولا ضرر يلحقهم من الجهل بها.
وكنت أظن أن هذا داءٌ حديثٌ، حتى وجدت المتقدمين يشكون من ذلك الداء، فعرفت أن وجودَه قديمٌ.
قال الإمامُ الشَّعْبِيُّ: (إني لَجَالسٌ يوماً، إذ أقبلَ حَمَّالٌ معه دَنٌّ حتى وضَعَهُ، ثم جاءني فقال: (أنتَ 'الشَّعْبِيُّ'؟) قلتُ: (نعم!) قال: (أخبرني عن 'إبليس'؛ هل له زوجة؟!!) قلتُ: (إنَّ ذاك لَعُرْسٌ ما شَهِدْتُهُ!) (1).
ونحوُ هذا سؤالُ بعضِهم عن اسمِ كلبِ أهلِ الكهف!! أو أنواع الطير المذكورةِ في قوله تعالى 'لإبراهيم' -عليه السلام-: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ﴾ [البقرة:260]!!
ومثل هذا ما وقع من بني إسرائيل، لمّا قال لهم 'موسى' -عليه السلام-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة:67]، فسألوا عن أوصافها..
إن العلم ليس كلُّه نافعاً مفيداً، بل من العلم ما لا نفعَ فيه، والمسلمُ ينبغي أن ينأى عنه ويجتنبَه؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا» (2).
ومن العلم ما لا يصلحُ أن يَطَّلِعَ عليه كلُّ الناسِ؛ إذ قد يكون اطِّلاعُهُم عليه وَبَالاً عليهم، قال شيخ الاسلام 'ابن تيمية': (ومن المعلوم ما لو عَلِمَه كثيرٌ من الناس لَضَرَّهُم عِلْمُه، ونعوذ بالله من علمٍ لا ينفعُ، وليس اطِّلاعُ كثيرٍ من الناس -بل أكثرهم- على حكم الله في كل شيء؛ نافعاً لهم، بل قد يكون ضارّاً، قال تعالى: ﴿ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة:101]) (3).
وإن كثيراً من تلكُمُ الأسئلةِ المُتَقَعِّرَةِ لم تَلْقَ من الشارع جواباً؛ لأنها لا تفيد عملاً، فلما سأل سائلٌ عن الهلال: (لِمَ يَبْدُو صغيراً ثم يَكْبُرُ؟) تجاوزَ الشارعُ الجوابَ عن هذا التساؤل، الذي لا يفيد عملاً، وقصد إلى ما يفيد، فأجاب إجابةً لم يُرِدْها السائلُ، ولكنها أنفعُ له وأحسن، فقال تعالى: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة:189].
ولما جاء رجلٌ إلى النبيِّ صصص يسألُه: (متى الساعةُ؟) أَعْرَضَ النبيُّ صصص عن الإجابةِ عن هذا السؤال، الذي لا نفعَ في جوابِهِ للسائلِ، ووَجَّهَهُ للبحثِ في الأنفعِ غير الذي عَنَاه، فقال: «وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: (مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ)، قَالَ: «إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» (4).
فلقد لَفَتَ النبيُّ صصص السائلَ عن أمر لا يَدَ له فيه -وقتِ قيامِ الساعةِ- إلى أمر يستطيع أن يفعل فيه شيئاً ينفعُه، وهو الإعدادُ للساعة، والتزودُ لها، بالأعمال الصالحة.
وقد وقف 'عمرُ' -رضي الله عنه- يوماً على المنبر، فقرأ: ﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ [عبس:27-31]، فقال: (فَكُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الأَبُّ؟) ثَمَّ نَقَضَ عَصَاً كانتْ في يَدِهِ، فَقالَ: (هَذَا لَعَمْرُ اللهِ التَّكَلُّفُ! اتَّبِعُوا مَا تَبَيَّنَ لَكُم مِن هَذَا الكِتَابِ) (5).
وَلَمَّا سَأَلَ 'ابنُ الكَوَّاءِ' 'عَليّاً' -رضيَ الله عنه- عنِ السَّوَادِ الذي في القَمَرِ؟ قالَ له 'عليٌّ' -رضي الله عنه-: (عَمِيٌّ سَأَلَ عَن عَمْيَاءَ!!) (6).
إنَّ 'عليّاً' -رضي الله عنه- يَصِفُ سائلَه عمّا لا يفيدُ بالعَمَى، مع أنَّ السائلَ يريد -في الظاهر- الاستبصارَ بنور العلم؛ ولكن، ليس كلُّ علم يُسْتَبْصَرُ به؛ فالسِّحْرُ عِلْمٌ، قال الله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة:102]، ولكنه علمٌ لا يُسْتَبْصَرُ به.
إن آثار هذه الأسئلة -العمياءِ- وخيمةٌ على سائلِها، وقد بَيَّن الأمامُ 'الشاطِبِيُّ' في [الموافقات] (7) بعضَ تلك الآثار، وإليك تلخيصَ شيءٍ مما ذكرَه:
• تَشْغَلُ هذه الأسئلةُ غيرُ المفيدة المكلَّفَ عما كُلِّفَ به من الأوامر الشرعية، التي يجب عليه تعلُّمُها والعملُ بها.
• إن المنشغل بهذه الأسئلة قد يخرجُ عن الصراط المستقيمِ، ويقعُ في الفتنِ والأهواءِ والضلالات.
• تؤدي هذه الأسئلة إلى التنازعِ، والتفرقِ، والخلافِ، والتقاطعِ، والتدابرِ، والتعصبِ، ومتى بلغتْ بالناس ذلك أخرجتْهم من السُّنَّةِ، ولم يكن أصلُ التفرقِ إلا بهذا السبب.
• في هذه الأسئلة إهدارٌ للزمن، في غير طائلٍ ولا فائدةٍ تُرجَى، وقد أَمَرَتِ الشريعةُ باستثمار الوقت والعنايةِ به.
• تَتَبُّعُ النظرِ في كل شيء وتَطَلُّبُ علمِه من شأن الفلاسفة، ولم يكونوا كذلك إلا لتعلقهم بما يخالف السُّنَّةَ، فاتِّباعُهم في أمرٍ هذا شأنُه خطأٌ عظيمٌ، وانحرافٌ عن الجادة.
إن علماءَ الأمة قد فَطِنوا لهذا الداء، وألَّفوا ما يشفي النفوسَ في بيان كيفية طلب العلم، وما العلمُ الذي يُطلَب، وما هي أولوياتُ طلبِ العلم، فَكَفُوا وشَفُوا، ومِن أنفعِ ما يُقرَأُ للتخلصِ من هذا الداءِ كتابُ الإمامِ 'ابنِ رجبٍ الحنبلي' [فضلُ علم السَّلَف على علم الخلف].
الهوامش:
(1) تهذيب الكمال، 14/37.
(2) رواه مسلم، 4/2088، (2722).
(3) منهاج السنة النبوية، 3/39.
(4) رواه البخاري، 5/2282، (5815)، ومسلم، 4/2032،(2639)، واللفظ للبخاري.
(5) المستدرك، 2/559، (3897)، والبيهقي في السنن الكبرى، 7/116، (13444)، قال الذهبي في التلخيص: على شرط الصحيحين، ولم يخرجاه.
(6) تفسير الصنعاني، 1/241.
(7) راجع الموافقات، 1/51.