المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

معنى اعتزال الفتنة عند الطبري

معنى اعتزال الفتنة عند الطبري

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في الحديث: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به».

ما معنى هذا الحديث؟

وما هي هذه الفتنة التي أمر النبي باعتزالها؟

وهل ذلك يعني أن يعتزل المسلمون كل فتنة، وكل قتال بين المسلمين، فلا ينصرون المظلوم، ولا يأخذون بيد الظالم؟

نقل الإمام 'ابن بطال' -رحمه الله- في [شرحه لصحيح البخاري] قول الإمام 'الطبري' في شرحه لهذا الحديث، ومناقشته لكل المسائل المطروحة أعلاهُ.

(مع تبويبنا لكلامه، ووضع بعض العناوين؛ لتسهيل قهم المراد من كلامه)..

قال الإمام 'ابن جرير الطبري' -رحمه الله تعالى-:

إن قال قائل: (ما معنى هذا الحديث؟

وهل المراد به كل فتنة بين المسلمين، أو بعض الفتن دون البعض؟

فإن قلتَ: ’المعنى به: كل فتنةٍ‘، فما أنت قائل في الفتن التي مضت؟ وقد علمتَ أنه نهض فيها من خيار المسلمين خلق كثير.

وإن قلت المعنى به: ’البعض‘، فأيتها المعنيّة به؟ وما الدليل على ذلك؟)

قيل: قد اختلف السلف في ذلك..

القول الأول: الاعتزال الكامل لكل الفتن، والاستسلام للقتل:

§ فقال بعضهم: (المراد به: جميع الفتن، وغير جائز للمسلم النهوض في شيء منها)، قالوا: (وعليه أن يستسلم للقتل إن أريدت نفسه، ولا يدفع عنها.

• و(الفتنة): الاختلاف الذي يكون بين أهل الإسلام، ولا إمام لهم مجتمع على الرضا بإمامته، لما يستنكر من سيرته في رعيته، فافترقت رعيته عليه حتى صار افتراقهم إلى القتال بأن رضيت منهم فرقة إماماً غيره، وأقامت فرقة على الرضا به).

• قالوا: (وإذا كان كل واحد من هذين المعنيين، فهي التي أمر النبي بكسر السيوف فيها، ولزوم البيوت، وهي التي قال : «القاعد فيها خير من القائم».

• وممن قعد في الفتنة: 'حذيفة'، و'محمد بن سلمة'، و'أبو ذر'، و'عمران بن حصين'، و'أبو موسى الأشعري'، و'أسامة بن زيد'، و'أهبان بن صيفي'، و'سعد بن أبي وقاص'، و'ابن عمر'، و'أبو بكرة'. ومن التابعين: 'شريح'، و'النخعي'..

• وحجتهم: من طريق النظر: أن كل فريق من المقتتلين في الفتنة فإنه يقاتل على تأويل، وإن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسه فيه محق وغير جائز لأحدٍ قتله، وسبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضى بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صواباً، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتاباً ولا سُنّةً ولا جماعة، فكذلك المقتتلون في الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره بما يدعون من التأويل، وغير جائز لأحد قتالهم، وإن هم قصدوا لقتله فغير جائز دفعهم بضرب أو جرح، لأن ذلك إنما يستحقه من قاتل وهو متعمد الإثم في قتاله، والواجب على الناس إذا اقتتل حزبان من المسلمين بهذه الصفة ترك معاونة أحدهما على الآخر وعليهم لزوم البيوت، كما أمر النبي 'أبا ذر'، و'محمد بن سلمة'، و'عبد الله بن عمر'، وما عمل به من تقدّم ذكرهم من الصحابة).

القول الثاني: الاعتزال، مع دفاع الفرد لماله وعرضه إذا اعتدي عليه:

§ وقال آخرون: (إذا كانت فتنة بين المسلمين، فالواجب على المسلمين لزوم البيوت، وترك معاونة أحد الحزبين، ولكن إن دخل على بعض من قد اعتزل الفريقين منزله، فأتى من يريد نفسه، فعليه دفعه عن نفسه، وإن أتى الدفع على نفسه.

• روى ذلك عن 'عمران بن حصين'، و'ابن عمر'، و'عبيدة السلماني'..

• واحتجوا: بعلة الذين تقدم قولهم، غير أنهم اعتلوا في إباحة الدفع عن أنفسهم بالأخبار الواردة عن النبي أنه قال: «من أريدت نفسه وماله فقتل، فهو شهيد». فالواجب على كل من أريدت نفسه وماله ظلماً دفع ذلك ما وجد إليه السبيل، متأولا كان المريد أو معتمداً للظلم؛ لأن ذلك عندهم ظلم، وعلى كل أحد دفع الظلم عن نفسه بما قدر عليه).

القول الثالث: التفصيل حسب حالة الفرق المقتتلة:

§ وقال آخرون: (كل فرقتين اقتتلتا فغير خارج أحدهما من أحد وجهين:

الحالة الأولى: أن يكون كلا الفريقين مخطئ:

• من أن تكون الفرقتان مخطئتين في قتال لعضهم بعضاً.

• وذلك كقتال أهل الغصب والمقتتلين على النهب وأشباه ذلك.. مما لا شبهة في أن اقتتالهم حرام.

• وأن على المسلمين الأخذ على أيديهم وعقوبتهم بما يكون نكالاً لهم.

الحالة الثانية: أن يكون أحد الفريقين مخطئ، والآخر مصيب:

• أو تكون إحداهما مخطئة والأخرى مصيبة.

• فالواجب على المسلمين الأخذ على أيدى المخطئة ومعونة المصيبة؛ لأن النبي قد أمر بالأخذ على يدى الظالم بقوله: «لتأخذن على يدى الظالم حتى تأطروه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم». فإذا كان كما قلنا، وكان غير جائز أن تكون فرقتان تقاتل كل واحدة منهما صاحبتها أو يسفك بعضها دماء بعض كلاهما مصيبة؛ لأن ذلك لو جاز = جاز أن يكون الشيء الواحد حراماً وحلالاً في حالة واحدة! وإذا كان كذلك فالواجب على المسلمين معونة المحقّة من الفئتين، وقتال المخطئة حتى ترجع إلى حكم الله، فلا وجه لكسر السيوف والاختفاء في البيوت عند هيج الفتنة!

 

• روى ذلك عن 'علي بن أبي طالب'، و'عمار بن ياسر'، و'عائشة'، و'طلحة'، ورواية عن 'ابن عمر'.

روى الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه قال: (ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله).

وروى سفيان، عن 'يحيى بن هانئ'، أنه قال 'لعبد الله بن عمرو': ('علي' كان أولى، أو 'معاوية'؟) قال: ('علي'!). قال: (فما أخرجك؟!) قال: (إني لم أضرب بسيفٍ، ولم أطعن برمح، ولكن رسول الله قال: «أطع أباك» = فأطعته).

وقال 'إبراهيم بن سعد': (قُتل 'أويس القرني' مع 'علي' في الرجالة).

وقيل 'لإبراهيم النخعي': (من كان أفضل؟ 'علقمة'، أو 'الأسود'؟) فقال: ('علقمة'؛ لأنه شهد صفّين، وخضب بسيفه فيها).

وقال 'ابن إسحاق': (شهد مع 'على': 'عبيدة السلماني'، و'علقمة'، و'أبو وائل'، و'عمرو بن شرحبيل'). وقال 'ابن إسحاق': (خرج مع 'ابن الأشعث' في الجماجم ثلاثة آلاف من التابعين، ليس في الأرض مثلهم: 'أبو البختري'، و'الشعبي'، و'سعيد بن جبير'، و'عبد الرحمن بن أبي ليلى'، و'الحسن البصري')).

 القول الرابع: أن تقع الفتنة، وليس للمسلمين إمام لهم:

§ وقال آخرون: (كل قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم، يأخذ للمظلوم من الظالم = فذلك القتال هو: (الفتنة) التي أمر رسول الله بالاختفاء في البيوت فيها، وكسر السيوف، كان الفريقان مخطئين، أو كان أحدهما مخطئاً والآخر مصيباً..

• روى ذلك عن 'الأوزاعي'، قال: (ما كانت منذ بعث الله نبيه إلى اليوم، طائفتان من المؤمنين اقتتلتا:

– إلا كان قتالهم خطأ ومعصية.

– فإن كانتا في سواد العامة: فإمام الجماعة المصلح بينهم يأخذ من الباغية القصاص في القتل والجراح، كما كان بين تينك الطائفتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله، وإلى الولاة بعده.

– وإن كان قتالهم وليس للناس إمام يجمعهم: فهي الفتنة التي النجاة منها الأخذ بعهد النبي ، أن يعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن يعض بأصل الشجرة حتى يدركه الموت.

– وإن كانت خارجة: فشهدت على أختها بالضلالة في إيمانها وبالكفر = لم تسم فئة باغية، وقد برئت من ولايتها قبل خروجها عليها، فكفى بالخروج براءة وبرجوع، فلهم إذا هزموا إلى مقرهم مروقاً).

 

ترجيح الإمام 'الطبري' -رحمه الله- للقول الثالث، ومناقشة المعترضين له:

 

قال 'الطبري': وأنا قائل بالصواب في ذلك، ومبيّن معنى الفتنة التي القاعد فيها خير من القائم، وأمره بكسر السيوف ولزوم البيوت والهرب في الجبال، والخبر المعارض لهما وهو أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، والأخذ على يد السفهاء والظالمين، إذ غير جائز التعارض في أخباره ؛ إذ كل ما قال حق وصدق.

فنقول:

أنواع الفتنة:

(الفتنة) في كلام العرب: الابتلاء والاختبار، فقد يكون ذلك بالشدّة والرخاء، والطاعة والمعصية.

الواجب على المسلم حيال الفتنة، نصرة المظلوم على الظالم في كل الأحوال:

• وكان حقاً على المسلمين إقامة الحق ونصرة أهله، وإنكار المنكر والأخذ على أيدى أهله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ [الحج: 41].

• كان معلوماً أن من أعان في الفتنة فريق الحق على فريق الباطل = فهو مصيب أمر الله تعالى.

مناقشة المنكرين لذلك:

• ومن أنكر ما قلناه، قيل له: (أرأيت المفتئتين -الملتمسين ولاية أمر الأمة في حال لا إمام لهم يقيم عليهم الحق- هل خلوا عندك من أحد أمور ثلاثة؟

– إما أن يكون كلاهما محقين.

– أو كلاهما مبطلين.

– أو أحدهما محقاً والآخر مبطلاً؟)

فإن قال: (نعم).

مناقشة الحالة الأولى: أن يكونا مبطلين:

قيل له: (أو ليس الفريقان إذا كانوا مبطلين = حق على المسلمين الأخذ على أيديهما، إن قدروا على ذلك؟) -وإن لم تكن لهم طاقة- فكراهة أمرهما، والقعود عنهما، وترك معونة أحدهما على الآخر = فقد أوجب معونة الظالم على ظلمه، وذلك خلاف حكم الله.

وإن قال: (بل الواجب عليهم ترك الفريقين يقتتلون، واعتزالهما) = أباح للمسلمين ترك إنكار المنكر، وهم على ذلك قادرون!

وسُئل عن: (رجل غصب امرأة نفسها للفجور بها على أعين الناس، وهم على منعه قادرون، هل يجوز لهم تركه؟)

فإن أجاز ذلك، لم يمكن خصمه الإبانة عن خطأ قوله بأكثر من ذلك!

فإن أوجب منعه والأخذ على يده، قيل له: (فما الفرق بينه وبين من رآه يريد قتل رجل ظلماً وعدواناً، وما الذي أوجب عليهم منع ذلك ظاهراً وأباح لهم ترك من يريد قتل النفس التي حرمها الله؟!)

مناقشة الحالة الثانية: أن يكون أحدهما محقاً والآخر مبطلاً:

ويقال له: (أرأيت إن كان أحد الفريقين محقاً، والآخر مبطلاً، أيجب على المسلمين معونة المحق على المبطل؟)

فإن قال: (لا) = أوجب ترك الساعي في الأرض بالفساد، وهذا خلاف قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المائدة: 33] الآية.

فإن قال: (تجب معونة المحق على المبطل) = أوجب قتال الفرقة الباغية.

مناقشة الحالة الثالثة: أن يكونا محقين:

وأما الحالة الثالثة: فإنها حالة ممتنع في العقل وجودها، وذلك حال حرب فريقين من المسلمين يقتلان وهما جميعاً محقان في ذلك، ولو جاز أن يكون كل واحد منهما مصيب حقيقة حكم الله في ذلك = لجاز أن يكون الشيء الواحد بحكم الله حلالاً وحراماً في حالة واحدة، وشخص واحد! وهذا ما لا يجوز أن يوصف به تعالى.

الاعتراض بتصور وقوع الحالة الثالثة: بالخطأ في التأويل، دون الاختلاف في حقيقة الحكم:

فإن قيل: (فما تنكر أن يكون الفريقان المقتتلان مصيبين في قتال، كل واحد منهما صاحبه حقيقة حكم الله؟ إذا كان قتالهما في وجهة التأويل، لا من وجهة الخلاف للنصّ الذي لا يحتمل التأويل؟ فقد علمتَ قول من قال باجتهاد الرأي فيما لا نصّ فيه، من أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله في الحادثة على كل مجتهد ما أداهُ إليه اجتهاده، وأنه لا خطأ في شيء من ذلك.

صحة ذلك: بما يكون من الصحابة -رضوان الله عليهم- فيما لا نص فيه الله وللرسول من الاختلاف بينهم، ثم لم يظهر واحد منهم لصاحبه البراء ولا الخروج من ولايته)، قال: (فكذلك الفريقان المقتتلان. إذا كانا كلاهما طالبي الحق عند أنفسهما، ورأى كل واحد منهما أنه محق، كالمختلفين من أصحاب رسول الله؟).

الرد على الاعتراض، بتوصيف التصور الصحيح لحالة التأويل:

(1) المتأول معذور، ولكنه مخطئ في الحقيقة، مصيب في أداء ما طُلب منه وهو (أصل الاجتهاد):

قيل له: (أما قول من قال: (كل مجتهد [مصيب])، وإن كان غير مصيب في خطئه حكم الله الذي طلبه، فأضله = فقد أخطأ!

وذلك كالملتمس عين القبلة للصلاة إليها في يوم دخن في فلاة من الأرض بالدلائل، غير موجب له التماسه إياها، وقد أخطأها = أن يكون مصيباً في طلب جهتها.

فكذلك المقتتلان على التأويل الذي يعذر فيه المخطئ؛ إذا أخطأ أحدهما حكم الله في قتاله الفريق المصيب حكم الله. وإن عُذر بالخطأ الذي وضع عنه الوزر فيه، إذا كان سبيله فيما كلف فيه سبيل المحنة والابتلاء، إذا لم يوقفوا على عينه بالنص الذي لا يحتمل التأويل.

(2) ليس كل مجتهد مصيب في نتيجة اجتهاده، بل مصيب ومخطئ:

وأما استشهاد من قال: (كل مجتهد مصيب) باختلاف أصحاب النبي فيما لا نص فيه بعينه = فإن أصحاب النبي لم ينكروا فيما قالوا فيه من الاجتهاد والاستنباط أن يكون فيهم مصيب ومخطئ، فلا حجة لمحتج باختلافهم.

إكمال الرد على الاعتراض:

فإذا بطل الوجه الثالث: وهو أن يكونا معاً محقين، ثبت أن قوله : «ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم» غير معني به القتال الذي هو معونة المسلمين للمحق، والقتال الذي يكون من المسلمين لأهل السّفُه والفسق، للأخذ على أيديهم، ومنعهم من السعي في الأرض بالفساد.

ما هي الحالة التي يصفها الحديث؟

فإن قيل: (فأي حالة هي التي وصف النبي من الفتنة؟ أن القاعد فيها خير من القائم؟)

قيل: (هذه حالة لها ثلاث منازل:

(1) وقوع الاستضعاف على المسلمين، وعدم رجاء الإصلاح بالنصح:

(أحدها): أن يكون الفريقان المقتتلان مبطلين، وسائر المسلمين مقهورين بينهما، لا طاقة لمن أراد الأخذ على أيديهما على النهوض في ذلك، فإن هو نهض عرض نفسه للهلاك، ولم يرج إصلاحاً بينهما، فهذه حالة هو فيها معذور بالتخلف، والسلامة له في الهرب وكسر السيوف، وهذه التي قال : «القاعد فيها خير من القائم»، يعنى القاعد عن هذه الفتنة خير من القائم فيها، للنهوض إليها معين أهلها؛ لأنه خير من القائم بذكر الله والعمل بطاعته.

(2) وقوع الإشكال في تمييز المصيب من المخطئ عند غالبية الناس:

(والحالة الثانية): أن يكون أحد الفريقين مخطئاً والآخر مصيباً، وأمرهما مشكل على كثير من الناس، لا يعرفون المُحقّ فيها من المبطل، فمن أشكل عليه أمرهما فواجب عليه اعتزال الفريقين، ولزوم المنازل، حتى يتضح له الحق، ويتبين المحق منهما، وتنكشف عنه الشبهة، فيلزمه من معونة أهل الحق ما لزم أهل البصائر.

(3) أن يكون معنى الفتنة خاص بفتنة بعينها:

(وأما المنزلة الثالثة): فأن يكون مخرج الكلام من رسول الله في ذلك: كان في خاص من الناس، على ما روى عن 'عمار بن ياسر' أنه قال 'لأبي موسى' حين روى عن النبي أنه قال: «إذا وقعت الفتنة فاضربوا سيوفكم بالحجارة» الحديث.. فقال له 'عمار': (أنشدك الله يا 'أبا موسى'، قال هذا رسول الله لك أنت خاصةً؟) قال: (نعم).

 

التحذير من التخاذل عن نصرة الحق، استدلالاً بحديث المبحث:

 

ولو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه، ولزوم المنازل، وكسر السيوف = لما أقيم لله تعالى حق، ولا أبطل باطل!

ولو وجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ونسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: (هذه فتنة، قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكفّ الأيدي والهرب منها)!!. وذلك مخالفة لقوله : «خذوا على أيدي سفهائكم»، ولقوله : «مثل القائم، والمنتهك والمدهن في حدود الله، مثل ثلاثة نفر اصطحبوا في سفينة، فقال أحدهم: (نحفر لنأخذ الماء)، وقال الآخر: (دعه، فإنما يحفر مكانه). فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعاً» الحديث..

 

شبهة فتنة مقتل 'عثمان بن عفان' -رضي الله عنه-، وأن القعود فيها خير:

 

فإن قال قائل: (فإنك قد ذكرتَ أنه لا فتنة تخلو من الأسباب الثلاثة، ثم أوجبت في جميعها على أهل البصائر بالحق النهوض مع أهله، على أهل الباطل لقمعه، وقد علمت أنه لا فتنة كانت -ولا تكون- منذ بعث الله نبيّه أفضل أهلاً، ولا أقوم بالحق، ولا أطلب له، من قوم نهضوا فيها بعد مقتل 'عثمان'، فإنهم كانوا أهل السابقة والهجرة وخيار الأمة، ولم تكن فتنة يرجى بالنهوض لمعونة أحد فريقيها على الآخر ما كان يرجى فيها، لو كان النهوض في فتن المسلمين جائزاً، وقد علمتَ من تثبط عن النهوض فيها، ونهى عن المشي إليها، وأمر بالجلوس عنها، من جلة الصحابة 'كسعد'، و'أسامة'، و'محمد بن مسلمة'، و'أبي مسعود الأنصاري'، و'ابن عمر'، و'أبي موسى'، وغيرهم يكثر إحصاؤهم..؟)

الرد على الشبهة: أن الجميع فيها كانوا متأولين، فهم بين الخطأ والصواب، وبين الأجر والأجرين:

قيل له: (إن سبيل كل ما احتج من أمر الدين إلى الاستخراج بالقياس، والاستنباط بالعقول، والأفهام = سبيل ما كان من الاختلاف بين الذين نهضوا في الفتنة التي قعد عنها من ذكرتَ من القاعدين فيها، ولذلك عذر أهل العلم من قعد عنها، ومن نهض فيها من أهل الدين، ولولا ذلك عظُمت المصيبة، وجسمت البلية، ولكن قعود من قعد عنها لما كان بتأويل، ونهوض من نهض فيها بمثله = رجا العالمون بالله للمصيب منهم الثواب الجزيل، وعذروا المخطئ في خطئه؛ إذ كان خطؤه بالتأويل، لا بالخلاف للنصّ المحكم الذي لا يحتاج للتأويل.

ولا شك أن الناهضين في الفتنة التي قعد عنها 'سعد'، و'محمد بن مسلمة'، و'أسامة' كانوا أفضل وأعلم بالله ممن قعد عنها، وذلك أن الناهضين فيها كان منهم من يقر له جميع أهل ذلك الزمان بالفضل والعلم، ومنهم من لا يدفعه جميعهم عن أنه إن لم يكن أفضل منه وأعلم أنه ليس بدونه..

وإذا كان الأمر كذلك، لم يكن المحتج إذا أغفل سبيل الصواب، لتأويل تأوله -وإن كان خطأً- حجةً على من خالفه في تأويله).

الاعتراض: بأنهم لم يكونوا متأولين، لصراحة النص:

فإن قال: (فإن جلوس من جلس ممن ذكرنا لم يكن تأويلاً، ولكنه كان نصاً لا يحتمل التأويل، لقوله : «القاعد فيها خير من القائم»؟)

الرد على الاعتراض: أن لا نص صريح في المسألة:

قيل: (إنه لا أحد روى عن النبي في الفتنة التي قعد عنها أنه نهاه عن النهوض فيها بعينها نصاً، وإنما قال : «القاعد فيها خير من القائم» من غير نص على فتنة بعينها أنها هي تلك الفتنة، من غير تسميته بها باسم، وتوقيته لها بوقت.

وقد روى أهل العراق: عن 'علي'، و'عبد الله': (أن النبي أمر 'علياً' بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين). وعن 'أبي سعيد'، وغيره.. أن النبي قال: «لتقاتلنّ على تأويله كما قاتلت على تنزيله».

وروى أهل الشام: عن النبي في 'معاوية' أنه الذي يقاتل على الحق، وأنه ذكر فتنة فمرّ به 'عثمان'، فقال: (هذا وأصحابه يومئذ على الحق).

وكل راوٍ منهم لرواية يدعى أنها الحق، وأن تأويله أولى!

فإذا كان الأمر كذلك: عُلم أن القول في ذلك من غير وجه النص الذي لا يحتمل التأويل، وأن الاختلاف بينهم كان من جهة الاستنباط والقياس، والذي لا يوجد في مثله إجماع من الأمة على معنًى واحد، ولذلك قيل في قتلى الفريقين ما قيل، من رجاء الفريق الآخر الإصابة، وأمن على فريق الشبهة.

آثار من السلف تؤكد حالة الاجتهاد من جميع الأطراف، والتأويل المعذور صاحبه:

وكذلك ما حدثنا: خلاد بن أسلم، قال: حدثنا النضر بن شميل، عن ابن عون، عن ابن سيرين: (أن 'عائشة' سمعت صوتاً فقالت: (من هذا؟ 'أخالد ابن الواشمة'؟)، قال: (نعم). قالت: (أنشدك الله، إن سألتُ عن شيء أتصدقني؟) ،قال: (نعم). قالت: (ما فعل 'طلحة'؟) قال: (قُتل). قالت: (ما فعل 'الزبير'؟) قال: (قتل). قالت: (إنا لله وإنا إليه راجعون). قال: (بل نحن إنا لله وإنا إليه راجعون، على 'زيد'، وأصحاب 'زيد'، والله، لا يجمعهم الله وقد قتل بعضهم بعضاً!) قالت: (أو لا تدري؟! وسعت رحمته كل شيء، وهو على كل شيء قدير). قال: (فكانت أفضل مني).

وحدثنا: مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد، حدثنا العوّام بن حوشب، عن عمرو بن مرة، عن أبى وائل قال: رأى 'عمرو بن شرحبيل' 'أبا ميسرة' -وكان من أفضل الناس عند الله- قال: (رأيتُ كأني دخلت الجنّة، فإذا قباب مضروبة، فقلت: (لمن هذه؟) فقالوا: ('لذى الكلاع'، و'حوشب' -كانا ممن قتل مع 'معاوية'- قلت: (فأين 'عمار'، وأصحابه؟!) فقال: (أمامك). فقلتُ: (قد قَتل بعضهم بعضاً؟) قيل: (إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة). قلتُ: (فما فَعَل أهل النهر؟) قال: (لقوا برجاء)).

انتهى كلامه -رحمه الله-، والحمد لله رب العالمين..