علي صالح طمبل
من واقع تجربتي الشخصية هناك صفتان ما اتصف بهما ملتزم إلا وكانتا إيذاناً بانتكاسه ونكوصه رأساً على عقب: الكِبْرُ، والجفاء.
الملتزم حين يصيبه الكِبْرُ والغرور والخيلاء يمنُّ على الله تعالى أنه عبد الله وحده بينما عبد الكثيرون غيره، وأنه استقام على الطاعة مع كثرة العصاة والغافلين!
وينسى أنه ما كان ليهتدي لولا أن هداه الله جلَّ وعلا ووفقه إلى عبادته وطاعته، وأنه مهما عمل من الصالحات والقربات فلن يكافئ المولى عز وجل على جزيل أفضاله وسابغ نعمه، وأنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، وإن كان أحد يدخل الجنة بعمله لكان أولى الناس بذلك سيد ولد آدم كما في الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) أخرجه البخاري (5673)، ومسلم ( 2816).
إن من يغترَّ بعبادته وتعجبه طاعته يحتقر العصاة ويراهم هالكين لا محالة ولا يدري لو لم يوفقه الله تعالى لكان أسوأ منهم، وفي الحديث: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلَكُهم) رواه مسلم (2623).
ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله أن (طغيان المعصية أسلم من طغيان الطاعة)، حيث قال في كتابه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين):
(إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثماً من ذنبه، وأشد من معصيته؛ لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب: أنفع له وخير من صولة طاعتك وتكثرك بها والاعتداد بها والمنة على الله وخلقه بها.
فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما أقرب هذا المُدلِّ من مقت الله، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه، وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً؛ فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المُدِلِّين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو، ولا يطالعها إلا أهل البصائر فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر، ووراء ذلك ما لا يطَّلع عليه الكرام الكاتبون، كما قيل: كم طاعة أورثت استكباراً، وكم معصية أورثت انكساراً(.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (ج: 16 ص: 175): (واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزناً لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه…
وقال الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك؛ فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم، والله أعلم).
وكان الأولى بمن يغتر بطاعته أن يسأل الله تعالى القبول؛ فإنه لا يدري هل قُبل عمله الذي يمنُّ به على الله تعالى ويتكبر به على خلقه أم ردَّ عليه، وإن الشيطان يريد أن يظفر من العبد ولو بذرة كبْر، قد تكون سبباً في دخوله النار عياذاً بالله!
والصفة الثانية التي تنذر بالانسلاخ من الالتزام هي الجفاء في معاملة الناس، وهذا الجفاء يدل على أن الإيمان لم يستأصل في القلب، إذ لو خالطت بشاشته القلب لأورث رحمة وليناً وشفقة ورأفة؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه الله عز من قائل:
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [سورة التوبة: الآية 128]؛ فالدين يورث خلقاً رفيعاً وسمتاً حسناً، لا خلقاً سيئاً وغلظة في القلب، ودوننا حديث المرأة التي كانت تصوم النهار ولكنها تؤذي جيرانها..
(قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها سليطة. قال: لا خير فيها هي في النار. وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بالأثوار وليس لها شيء غيره ولا تؤذي أحداً قال: هي في الجنة) رواه البخاري في الأدب المفرد.
إن الملتزم ينبغي أن يكون دائم النقد لنفسه والتنقيص من قدرها والاتهام لها، في مقابل إحسانه الظن بالآخرين ومعاملتهم بالحسنى، وأن يسأل الله دائماً الثبات والقبول؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ أما الاغترار بالطاعة والتكبر على الناس وجفاء الطبع فهو التزام قشري، لا يمت لجوهر الالتزام بصلة.