المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

المعارضة السودانية.. رحلة بلا رواحل!! (1-3)

المعارضة السودانية.. رحلة بلا رواحل!! (1-3)

المعارضة السودانية.. رحلة بلا رواحل!! (1-3)

الجبهة الثورية.. الغبن وقود التغيير!!

في ظل الإشكالات والأزمات الكبيرة والمعقدة التي يعيشها نظام الإنقاذ، يطل سؤال محيّر، ويضع علامة استفهامه في خانة المعارضة؟!!..

لماذا فشلت الأخيرة في ظل كل إشكاليات النظام – التي توفر لها فرصاً ذهبية – في إحراز تقدم كبير، في قدراتها على تحريك الشارع، ناهيك عن إسقاط النظام؟!!.

ثلاثة تيارات رئيسة تتنازع المعارضة السودانية الليبرالية، اليوم؛ وهي تيار المعارضة المسلحة..

التي تكتلت فيما يسمى الجبهة الثورية، وتتشكل مادتها من متمردي الحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركات دارفور المسلحة، وهي قد اتخذت الخيار العسكري، والذي يعد واحداً من أزمات السودان!!.

التيار الثاني هو الذي يتبنى الخيار السلمي في اسقاط النظام، ويرفض الخيارالعسكري، يرى أنه يزيد أزمات البلاد تعقيداً.. ولن يأتي إلا بمزيد من الخراب..

ويتصدر هذا التيار حزب الأمة القومي، رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، ويقترب منه كثيراً حزب المؤتمر الشعبي، بقيادة حسن الترابي!!..

أما التيار الثالث فهو تيار يتبنى خياراً يمازج بين العمل السلمي لإسقاط النظام، والعمل المسلح، ويلتقي مع الجبهة الثورية في بعض أطروحاتها، مثل وثيقة (الفجر الجديد)..

ويمثل هذا التيار تجمع أحزاب المعارضة، التي يتصدر قيادته المعارض ذي التوجهات اليسارية، فاروق أبو عيسى، ويضم 20 حزباً معارضاً.

والحقيقة أن أكبر نقائص طيف المعارضة السودانية، بمختلف تياراته، هو الرؤية الضبابية الغائمة، لإشكاليات السودان، والطريق إلى حلها، مما يتعذر معه وجود أي برنامج منطقي، يمكن أن يحظى بقبول شعبي، ويؤدي إلى تغيير سياسي..

النقيصة الثانية: هي أنه تأسيس بني على قاعدة الغبن ضد النظام السياسي الحاكم، وليس نتاجاً لقناعات سياسية محددة في بناء الدولة!!..

وبالتالي عجزت المعارضة السودانية بكافة تياراتها المسلحة، أو السلمية، أن تحقق قبولاً شعبياً واسعاً، رغم انحدار رصيد النظام الحاكم في القبول الشعبي إلى الحضيض!!..

الجبهة الثورية:

وعندما نناقش هاتين النقطتين بالنسبة للمعارضة المسلحة، فإننا نلاحظ أن تكوين الجبهة الثورية نفسه بدأ مرتكزاً على قاعدة الغبن السياسي..

فالنواة الأولى للجبهة الثورية، كانت هي تمرد الحركة الشعبية قطاع الشمال في جنوب كردفان والنيل الأزرق..

في أعقاب انفصال الحركة الشعبية الأم بدولة الجنوب، وتخليفها لجيبها الحاكم في النيل الأزرق بزعامة مالك عقار، وجيبها الآخر المتنافس مع المؤتمر الوطني على السيطرة على جنوب كردفان بقيادة عبد العزيز الحلو..

رفض عبد العزيز الحلو نتائج الانتخابات في جنوب كردفان، وأعلن تمرده بشن هجمات على كادقلي عاصمة الولاية..

فيما تصاعدت الخلافات بين مالك عقار والحكومة المركزية، منتهية بإعلان تمرده، إشعال الحرب في المنطقة بعد إخراجه من المدن الكبرى!!.

انضمت إلى متمردي قطاع الشمال، بقية حركات دارفور المتمردة سلفاً، مثل حركة عبد الواحد، وحركة العدل والمساواة، وحركة ميناوي التي نفضت يدها من تحالف كان بينها وبين الدولة..

وذلك في أعقاب استبعاد زعيمها من منصب كبير مستشاري رئيس الجمهورية، وبسبب تجاهل الدولة لبنود اتفاقية معه في أبوجا 2006م التي دخل القصر بموجبها!!.

وتكوَّن تحالف عرقي جعل من قضية (المركز، والهامش)، محوراً لخطابه السياسي، المسنود بالآلة العسكرية، لم يكن لهذا النوع من التكوينات العرقية الجهوية أن يكون مصدراً للارتياح من قبل شعب متعدد الأعراق!!..

مما سهَّل على النظام الحاكم مهمة تبشيع صورة تلك الجبهة!!.. وجعل التحام بقية فصائل المعارضة بها، أمراً له تكاليفه الباهظة!!

وبعد وقت طويل انتبهت الجبهة الثورية إلى تلك المنقصة، وحاولت محاولات مرتجلة لتجميل تلك الصورة، بجذب بعض القيادات الشمالية إلى صفوفها، متمثلة في بعض العناصر من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وبعض العناصر من حزب الأمة، وبعض العناصر التي كانت محسوبة على التيار الإسلامي مثل يوسف الكودة!!.

من الواضح أن كل فصيل من تلك الفصائل كانت له غبينته الخاصة التي دفعته إلى حمل السلاح والتمرد على النظام..

وفيما عدا فصيل عبد الواحد، وحركة العدل المساواة، فإن كل واحد من تلك الفصائل كان متحالفاً مع النظام، ومشاركاً في مؤسسة الحكم بكل سلبياتها مناقصها، ولم ينفض يده إلا بعد أن امتدت يد الدولة لتنتقص من نصيبه في كعكة الحكم!!.

الأمر الثاني، بدأ التمرد في جنوب كردفان جهوياً، وصراعاً على السلطة، بعد رفض الحلو ومجموعته لنتائج الانتخابات، ولم يكن له علاقة برفض بنية النظام!!..

وكذلك الأمر مع مالك عقار، حيث بدأ بخلافات مع بعض عناصر النظام، وانتهى بإعلان التمرد!!..

وحتى بعد تكوين تحالف (كاودا)، كان الهدف هو إنهاء حكم المؤتمر الوطني.. ولم يطرح التحالف برنامجاً قومياً، إلاّ بعد زمن طويل فيما عرف بميثاق (الفجر الجديد).

ميثاق الفجر الجديد:

 في يناير الماضي تمخضت مداولات اجتماع لفصائل المعارضة في العاصمة الأوغندية كمبالا، عن ميلاد ما سُمي بـ (ميثاق الفجر الجديد)..

والذي وقعته الجبهة الثورية، وقوى الإجماع الوطني، وبعض المنظمات النسوية، والشبابية، ومنظمات مجتمع مدني، ووصف الميثاق بأنه (إنجاز تأريخى لرؤية سياسية جامعة للانتقال من الشمولية نحو الديمقراطية والسلام العادل ودولة المواطنة المتساوية).

ويتأسس الميثاق على فكرة إسقاط النظام القائم، واستبداله بحكم انتقالي لمدة أربع سنوات، ينعقد خلالها مؤتمر دستوري، يحقق الإجماع الوطني حول كيفية حكم البلاد، وتجرى بعدها انتخابات حرة ونزيهة، تأتي بحكومة ديمقراطية.

وتمضي الوثيقة في رصّ بنودها على نحو يشبه البناء الدستوري، فتتناول الهوية، ونظام الحكم، والمواثيق الدولية، والدستور الانتقالي، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والاقتصاد، ومستويات الحكم…إلخ، من التفاصيل المعتادة في كل صياغة دستورية..

ولكنها لا تعدو كونها عناوين عامة، لا يوجد تحتها سوى عبارات عامة وفضفاضة، مثل  (تتأسس الدولة السودانية على دستور ديمقراطى يقوم على إقامة دولة العدالة و الرعاية الاجتماعية)!!..

واجهت وثيقة الفجر الجديد انتقادات كثيرة، من مختلف القوى، فكل القوى الإسلامية، باستثناء حزب الوسط الإسلامي – اتخذت رأياً مبدئياً حوله، لأنه نص بصورة واضحة على العلمانية كخيار للحكم..

حيث نص صراحة على (إقرار دستور وقوانين قائمة على فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين فى السياسية .).. وانتقدته بعض قوى المعارضة الجديدة، مثل جبهة الحراك الوطني، واصفة إياه بالوثيقة الإقصائية.. ووصفه حزب البعث بأنه "غير توافقي، وغير إجماعي".

فيما تنصلت عنه قوى أخرى مثل حزب الأمة، بعد توقيعها عليه، ضمن أحزاب قوى الإجماع الوطني، مرجحة خيار النضال السلمي..

وانتقد حزب المؤتمر الشعبي الذي يقوده حسن الترابي، الميثاق في نصه على إعادة هيكلة السودان إلى أقاليم، معتبراً ذلك تمزيق للسودان!!.

ولكن العيب الأهم في ميثاق الفجر الجديد – بعد كونه علمانياً – هو أنه لا يحمل رؤية محددة لحل أزمات البلاد متعددة الجوانب، ولا يعدو أن يكون أفكاراً عامة جداً، وغير مكتملة تتصل بما يمكن أن يكون جدلاً حول دستور ما.

وكان واضحاً جداً أن أدبيات العداء للنظام، كانت مسيطرة على الجبهة الثورية، والموقعون معها على وثيقة الفجر الجديد، مما أدى إلى أن تصبغ إسقاطاتها بنود الميثاق، فاختزلت كل الأهداف في هدف واحد إزالة النظام القائم، كما تتضح تلك الصبغة في بقية بنود الميثاق، فكل البنود تشبه أن تكون ردوداً مقابلة للمآخذ على سياسات النظام!!..

من ذلك الكلام عن إعادة هيكلة السودان في أقاليم بدلاً عن ولايات، رغم أنها لم تلغِ الولايات، بل جعلت الأقاليم مستوى أعلى من الولايات، وفي ذلك إمعان في التجزئة، حيث يمثل كل إقليم كتلة من الولايات، تشبه دولة في طريقها للانقسام!!.

ومعلوم أن تلك القضية كانت واحدة من نقاط الخلاف الكبرى مع النظام وحركات دارفور، في كافة جولات التفاوض!!.

ومن ذلك أيضاً الحديث عن: (إعادة النظر فى الصيغ المصرفية الحالية المسماة إسلامية لتنزيهها من أي استغلال حتى تتوافق مع المقاصد الكلية للاقتصاد)!!..

لم يشر إلى المقاصد الكلية لأي نوع من الاقتصاد، هل هو الاقتصاد الإسلامي؟!.. أم هو الاقتصاد الرأسمالي (الربوي)!!..

ويلاحظ أيضاً أن الوثيقة، حرصت على تضمين ما يرضي كل الموقعين، لذلك جاءت البنود في شكل تجميع فج لرؤى مشتتة..

فخرج الوثيقة ورقة غير ناضجة.. فلا هي رؤية قومية لحل أزمات البلاد.. ولا هي مسودة لمبادئ عامة لدستور جديد.. ولا هي مشروع انتخابي تسوق فيه الجبهة الثورية وقوى الإجماع نفسها بديلاً للنظام القائم!!..

مكونات متنافرة.. اجتمعت على بغض النظام:

لم يقم تحالف (كاودا) أو الجبهة الثورية على نظرية واضحة لبناء ما ينادون به من سودان جديد.. بل كان محور الالتقاء هو إسقاط حكومة المؤتمر الوطني..

غير أن هناك صفة أخرى تجمعهم، وتفرقهم في نفس الوقت، وهي ارتفاع النزعة الجهوية لديهم!!.. فجمعتهم بالغبن على هيمنة المركز.. أو(الشماليين) بالتعبير الجهوي.. في مقابل إقصاء الهامش!!..

وبينما فرقتهم لأن النظرة الجهوية والعنصرية أصبحت تحكم العلاقات في الجبهة الثورية، وهو ما ينذر بتفجر أزمة جديدة داخل هذا الكيان..

إرهاصات الخلاف حول رئاسة التحالف، بدأت تخرج إلى العلن، حيث تناقلت الصحف السودانية، أن خلافات تفجرت بين فصائل دارفور وقادة قطاع الشمال حول موضوع رئاسة التحالف..

بل وضعت بعض الفصائل شروطاً لمشاركتها في اجتماع الجبهة الثورية الذي جرى في كمبالا، منها إدراج قضية الرئاسة ضمن أجندة الاجتماع!!.

وترى قيادات الحركات الدارفورية ضرورة انتقال قيادة الجبهة الثورية من قطاع الشمال إلى حركاتهم، حتى لا تكون الجبهة خاضعة لتقلبات العلاقات بين الخرطوم وجوبا!!.

وأشار المركز السوداني للخدمات الصحفية، إلى أن زعيم حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، وقائد حركة تحرير السودان مني أركو ميناوي، هما من أكثر المتشددين لانتقال رئاسة الجبهة من قطاع الشمال إلى حركات دافور..

وأن أركو ميناوي يصر على تقديم شكوى لرئاسة الاجتماع يتهم فيها عبد العزيز الحلو باستحواذه على دعومات قدمتها حكومة جنوب السودان لمقاتلي الجبهة في معارك أبي كرشولا.

ورغم إحرازها تقدماً عسكرياً على المستوى الميداني، في الفترة الأخيرة، في جبهات كردفان، أبو كرشولا، وأم روابة وغيرها، إلاّ أن الجبهة الثورة، لم تستطع أن تستثمر ذلك الأمر، في رصيدها الشعبي، بحيث تواكبه بطرح يطمئن الشعب السوداني إلى أنها يمكن أن تكون بديلاً قومياً، غير مشحون بالغبن، والرغبة في الانتقام!!..

بل العكس هو الصحيح، فقد استطاعت النظام أن يستثمر ما عدته هي انتصارات في أم روابة وأبي كرشولا، إعلامياً، فحول هزيمته العسكرية، إلى نصر، بالنشر الواسع عن للممارسات الانتقامية ذات الطابع العرقي والجهوي، التي نفذتها عناصر الجبهة في أبي كرشولا!!..

فتكرست الصورة المفزعة للكتلة العرقية المسكونة بالهوس الانتقامي في المخيلة الشعبية!!..

ويسند ذلك التأريخ السييء لقادة قطاع الشمال الذين يسيطرون على الجبهة.. وخلفياتهم الفكرية والسياسية المناهضة للدين، والمرتبطة بميراث الحقد العرقي للحركة الشعبية التي فصلت الجنوب عن الشمال!!.

فشلت الجبهة الثورية في استقطاب كافة تيارات المعارضة، ولم تتحول إلى ذراع عسكري للمعارضة السوداني، على غرار نجحت الحركة الشعبية أيام جون قرنق، مع التحالف الديمقراطي، قبل نيفاشا!!..

ولعل السبب في ذلك، يرجع إلى ما ذكرنا من إسقاطات التكوين الجهوي للجبهة الثورية.. كما يرجع إلى حرص الجبهة على الهيمنة على القيادة السياسية، بجانب القيادة العسكرية!!..

مما يجعل من الأحزاب الكبرى تابعاً، وهو ما لا ترضاه.. ولعله كان السبب في فشل كل محاولات تجميع المعارضة، من إجماع جوبا، إلى تحالف أحزاب ..إلخ.

التبني الصارخ للعلمانية، وخلط الأوراق، بين النظام الإسلامي، والممارسات السيئة لحكومة الإنقاذ، لتبني عليها رفض الأول..

بالإضافة إلى ارتباط قيادتها بالدولة الوليدة في الجنوب، المتقلبة في علاقتها بالسودان، كل ذلك يجعل من الجبهة الثورية، كياناً غير مريح، ويصعب على أحزاب ذات قاعدة شعبية، أساسها الإسلام، مثل حزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والمؤتمر الشعبي، أن تركن إلى تحالف استراتيجي معه!..

ليس السلاح وحده هو العنصر الحاسم في إحداث تغيير إيجابي في السودان، بل الطرح الجامع المستلهم لثقافة الأمة، وطبيعة التكوين غير المتأثر بالجهوية والغبن العرقي، سلامة صفحة القيادات، وعدالة القضية، عناصر أساسية يجب أن تتوفر في كل تكوين ينشد التغيير..

ونصيب الجبهة الثورية في تلك العناصر ضعيف جداً.. وهذا ما يجعل عقلاء الشعب السوداني، يخشون من أن تغيير يأتي من جهتهم سيؤدي في النهاية إلى تفجير السودان، وتمزيقه بأسوأ مما هو عليه الآن.