في إحدى ضواحي العاصمة التي شهدت هطول أمطار غزيرة سئل سائق (ركشة) عن سعر مشوار لا يتعدى ثمنه 8 جنيهات في أحسن الأحوال فقال: – 30 جنيهاً! – ولماذا؟! – الأمطار، وليس هناك مواصلات كما ترى! **** وفي إحدى المدن التي تأثرت بالسيول وصل سعر الراكب للحافلة المتجهة إلى الخرطوم 15 جنيهاً، مع أن السعر […]
في إحدى ضواحي العاصمة التي شهدت هطول أمطار غزيرة سئل سائق (ركشة) عن سعر مشوار لا يتعدى ثمنه 8 جنيهات في أحسن الأحوال فقال:
– 30 جنيهاً!
– ولماذا؟!
– الأمطار، وليس هناك مواصلات كما ترى!
****
وفي إحدى المدن التي تأثرت بالسيول وصل سعر الراكب للحافلة المتجهة إلى الخرطوم 15 جنيهاً، مع أن السعر لم يتعدَّ قبل السيول جنيهين فقط! بينما بلغ لوح الثلج 60 جنيهاً!
****
قلت لأحد تجار السوق المحلي الذي امتلأت شوارعه بالوحل، واختلطت فيه مياه الأمطار بمياه الصرف الصحي والوحل والقاذورات:
– لماذا لا يتفق التجار بأن يدفع كل فرد منهم مبلغاً معيناً فينشئوا صرفاً صحياً أمام محلاتهم؟!
– وماذا تفعل الحكومة؟
– نعم هذه مهمة الحكومة لكن إذا لم تقم هي بواجبها هل تنتظرونها إلى أجل غير مسمى؟!
– نحن ندفع للمحلية ما لا يقل عن 20 ألف جنيه سنوياً، أين تذهب هذه النقود؟!
– إذا قصرت الحكومة اعتبروا هذا العمل عمل خير؛ لأنه يساعد المارة ويسهم في إصحاح البيئة ويساعدكم في إنعاش تجارتكم بسهولة وصول الزبائن لها!
– لا، نحن هكذا نساعد الحكومة، فعليها أن تقوم بواجبها لوحدها دون مساعدة من أحد!
***
بعد زهاء أسبوع من الأمطار والسيول التي غمرت عدة قرى ومدن في شرق النيل كنت أجلس على مقعد قرب النافذة في حافلة عامة، سارت بنا في الشارع الرئيسي الذي يمر بعدد من المناطق المتأثرة، فراعني منظر الأهالي الذين يجلسون على جانبي الطريق وقد غمرت بيوتهم المياه، فلم يجدوا مكاناً جافاً يلجؤون إليه سوى جانبي طريق الإسفلت!
كان بعضهم يجلس على الأرض، والبعض يجلس على الأسرة، وكان يجلس في السرير الواحد ما لا يقل عن خمس أو ست من الرجال النساء والأطفال – وأحياناً قد يزيدون على ذلك – تظهر على وجوههم أمارات الكآبة والحزن والوهن، وقد وضعوا في أطراف الأسرة عيداناً ثَّبتوا بها ملاءات أو مشمعات، لتكون بمثابة سقف متهالك، حاولوا به عبثاً أن يتقوا لفحات الشمس المحرقة.
وأدهشني أنه بعد مسافة طويلة قطعتها الحافلة في الطريق لم أجد سوى خيمة واحدة، سألت عنها فأُخبرت بأنها لإحدى المنظمات، فتساءلت حينها في نفسي بحسرة: أين المساعدات التي يقول المسؤولون في أجهزة الإعلام أنهم قدموها للمتضررين وهم لا يجدون خيمة واحدة تؤويهم وتستر نساءهم وذراريهم من وهج الشمس ونظرات الناس؟!
***
وتطالعنا صحيفة الانتباهة يوم الجمعة بتاريخ 16 أغسطس 2013م في صدر صفحتها الأولى بتصريح من وزير الداخلية إبراهيم محمود قال فيه: (إن هناك إشكالات فنية في تخطيط المدن في كل السودان، إضافة إلى إشكالات البنى التحتية وتصميم الطرق والشوارع والترع، ووصف الوزير إشكالية ساكني القرى المتأثرة في الوديان بالمزمنة.
واستعرض الوزير تقرير خريف العام الحالي حتى منتصف أغسطس، مشيراً إلى الخسائر الواقعة على الأرواح والممتلكات، حيث بلغ عدد الأسر المتضررة على مستوى السودان 40,578 أسرة، وتوفي منهم 53 وأصيب 77، فيما بلغ عدد المنازل المنهارة كلياً 20,027 منزلاً، وانهيار 21,999 منزلاً انهياراً جزئياً، وتضرر 251 مرفقاً عاماً أغلبها مدارس، ونفق جراء السيول والأمطار 30,058 رأساً من البهائم. وقال الوزير إن الوضع الماثل لا يعتبر كارثياً وفقاً للمعايير العالمية، وإن الأوضاع تحت السيطرة!)
وفي ذاات الصحيفة ص (3) نقرأ خبراً آخر: (7000 أسرة متضررة من السيول والفيضانات: ولاية الجزيرة.. صيحات استغاثة فهل من مجيب؟!)
وفي صحيفة أخرى نقرأ الأخبار التالية (استشهاد خمسة من أسرة واحدة بينهم رائد شرطة بعد سقوطهم داخل حفير مليء بمياه الأمطار…
في تطور جديد: العثور على جثة المفقود في حادث مصرع أربعة أشخاص جرفت عربتهم السيول…
خبر حزين: وفاة معلم ثانوي غرقاً داخل حفرة أمطار بأمدرمان…
العثور على جثة شاب داخل مجرى مائي بعد أن جرفه السيل بأمدرمان!).
التقصير المريع في أداء المسؤوليات من قبل المسؤولين لو كان في بلاد أخرى غير بلادنا لاستقال فيها المسؤولون أو أقيلوا…
نعم ظهرت كثير من الإشراقات التي تظهر في بلادنا عند المحن والابتلاءات – وما أكثرها – فقد وقف كثير من المحسننين والمتطوعين والمنظمات جنباً إلى جنب لنجدة المتضررين وتقديم المعونة إليهم، بينما اتسم دور الكثيرين بالسلبية واكتفوا بإلقاء اللائمة على الحكومة، في حين استغل البعض الوضع ليشبعوا أطماعهم الشخصية وينموا أموالهم على حساب معاناة الآخرين!
حقاً إن المحن والابتلاءات في بلادنا تفضح كثيراً من المخبوء، وتعري كثيراً من الزيف والادعاء، وتظهر في المقابل المعادن الأصيلة لمن ينكرون ذاتهم في سبيل مد يد العون للآخرين ومواساتهم في مصائبهم.