المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

أبعاد أزمة المياه في السودان

أبعاد أزمة المياه في السودان

الماء هو مصدر الحياة، (وجعلنا من الماء كل شيء حي).

والماء هو الذي يميز كوكبنا من بين سائر الكواكب في أكثر من مائتي  ألف من المجرات ومليارات الأجرام السماوية في هذا الكون الواسع والمتسع.

وتغطي نسبة المياه في هذا الكوكب  73% من مساحته، و يعد الماء من آلاء الله ونعمه قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) الواقعة:68–70.

وهي داعية للتأمل والتفكر في هذه النعمة العظيمة؛ لذا  ذُكرت في القرآن الكريم 63 مرةً، ويأتي من أوائل النعم التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (( إنّ أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك بدنك، ونروك من الماء البارد؟ )) حديث صحيح رواه الترمذي.

لذا يتوجب على الإنسان شكر الله عليها،  وقد كَانَ سيد الشاكرين  رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ قَالَ: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِنَا )) الدعاء للطبراني  ج 1 ص 280.

ولأهمية الماء يأتى ضمن إستراتيجية العالم، بل يتنبأ الخبراء: "أن الحرب العالمية القادمة هي حرب مياه"؛ وكلنا لا ننسى إستراتيجية إسرائيل في التمدد من الخليج إلى المحيط ومن البحر الأبيض إلى منابيع النيل.

وما جاء  انفصال الجنوب إلاّ ضمن هذه الأهداف، رغم وجود أهداف أخري دينية وسياسية أدت إلى ذلك.

ويحظى السودان بكميات كبيرة من المياه يمكن أن تمثل المخزون الإستراتيجي للعالم، حيث تتساقط الأمطار فيه  أكثر من ألف مليار لتر مكعب سنوياً.

بالإضافة إلى موارده السطحية التى تشمل نهر النيل وروافده، ويزخر كذلك بالمياه الجوفية التى تغطي 50% من مساحته وأهمها خزانات الحجر الرملي النوبي والتي تقدر مساحتها بـ28% من مساحة السودان.

ورغم هذه المياه المتعددة والمتنوعة المصادر إلاّ أن السودان يشهد أزمة حقيقية لمشاكل المياه، وخاصة عاصمة البلاد التى تجري من تحتها الأنهار، وتهطل من فوقها الأمطار، إلى درجة تسببها في الخسائر وتدميرها للآثار.

ومع ذلك يعاني كثير من الناس في الحصول على الماء، فمنهم انتفخت أوداجه جرّاء سحبه للماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، ومنهم من لم تغمض عينه ليلاً، فتجده ينام في الموصلات أو في المكتب أو اعتذر عن العمل.

كما حصل لي قبل أيام، اتصلت بي الطبيبة في الصباح الباكر قائلة: لا استطيع أن آتي للمركز الصحي. ولما سألتها عن سبب اعتذارها قالت: "إني مساهرة مع الماء!!! فلم أذق النوم طيلة الليل".

ولإلقاء نظرة فاحصة حول هذه المشكلة التى أدت لغياب أو هروب كثيرين عن العمل مما يعطل عجلة الإنتاج والتنمية؛ تتعدد الأسباب وتتنوع، فمنها ما هو سلوكي وإداري وسياسي وديني أيضاً، ربما استغرب القارئ من ما هو ديني وتعجب!!

وربما قال قائل كل شئ يربط بالدين؟؟ نعم، لا نقول ذلك الكلام هراء أو تحميل الدين ما لا يحتمل، ولا نقول ضرباً من الخيال، بل هو الواقع وربط الدين بالحياة، فلم يدع الدين أمرا فيه مصلحة للعبادة في الدنيا والآخرة إلا أتى به ونبأه عليه.

قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) الجن: 16؛ أي: لو استقاموا على طريقة الهدى، وملَّة الإسلام، اعتقادًا، وقولاً، وعملاً، لأسقيناهم ماءً كثيرًا.

قال سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) نوح: 10 – 12.

ويقول سبحانه عن نبيِّه هود عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) هود: 52.

كذلك من الأسباب ما هو سلوكي؛ أي سلوك الإنسان، فتجد الإسراف في استخدام المياه، ابتداء من عبادة الوضوء، حيث تجد الناس يسرفون في الوضوء رغم النهي عن الإسراف فيه.

بل عدَّ بعض الفقهاء الإسراف من مكروهات الوضوء كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اغتسل اغتسل بالقليل، وإذا توضأ توضأ بالنزر اليسير.

فعن أنس رضي الله عنه قال: (( كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد, ويتوضأ بالمد )( والمد ملء اليدين المتوسطتين.

ومن مظاهر الإسراف غسيل السيارات حيث تغسل بكميات كبيرة من الماء النقي الصالح للشرب، ولو نظرنا إلى  كثير من الدول المتقدمة نجدهم يكتفون بالهواء لتنظيف السيارات بدلاً من الماء.

وأما عن غسيل المنازل فحدِّث ولا حرج في حين يمكن أن يمسح البلاط أو السراميك مسحاً بدل أن تُهدر كميات كبيرة من المياه.

وكذلك تجد الإسراف في تخزين المياه، حيث يغفل كثير من الناس عن إغلاق المياه فيمتلئ الخزان حتى يسيل وادياً من الماء.

فهذه من بعض مظاهر الإسراف والتبذير في المياه، والتى يمكن حلها في الاستخدام الأمثل للماء.

ومن أسباب أزمة المياه وجود نوع من الأشجار التى تستهلك كميات كبيرة من الماء مثل شجر الدمس التى سورت بها كثير من المنازل والحدائق.

والغريب أن هذه الشجرة وزعت وغرست من قبل جهات رسمية فلم يُجْرَ أي اختبار حولها، واستدرك الأمر لما علم أن هذه الشجرة تستهلك كميات كبيرة من الماء.

بل تقوم باعتراض خطوط المياه وتتسبب في تصدع المباني، بعد ذلك تم الإعلان للقضاء على هذه الشجرة.

وتذكرني هذه الشجرة بشجرة المسكيت التى أتى بها المستعمر – أقصد المحتل- وشجع على غرسها باسم مصدات الرياح نكاية بهذا البلد، وأخيراً اكتُشف أنها تقضى على الماء.

وأما الأسباب المتعلقة بإدارة المياه فتتمثل في غياب الإستراتجية لإدارة المياه كما لا توجد خطة مستقبلية، فهي إدارة أزمة في كل الأوقات، تفتقر للحلول الجذرية، ولو قدر أن وُجدت لديهم خطة تظل حبيسة الملفات والأدراج.

بالرغم من وجود الحاجة الماسة لذلك مع تدفق آلاف من المواطنين إلى العاصمة كل يوم، إما هروباً من الحرب أو رغبة في التعليم أو العلاج دون وجود تنمية أو توسعة متوازية تستوعب هذه الأعداد الكبيرة.

ومما يزيد الأمر سوءاً غياب المسؤولية تجاه المواطن الذي يقوم بسداد فاتورة المياه مقرونة بالكهرباء، بغض النظر عن وجود الماء أو عدمه !!..

ويدعو الأمر إلى إلاستغراب فالذي اكتشف هذا الاختراع  الرائع كون تحصيل رسوم المياه إلكترونياً، هذا العبقري غاب عنه أن يجد حلاً أو خطة استراتجية لمشكل المياه التى تعاني منها البلاد، واستمرت لسنوات وسنوات وستستمر إلى ما شاء الله.

فهذه ليست إثارة، أو تهييجاً، بل نريد الإصلاح ما استطعنا، فهي دعوة للـتأمل والتدبر والمحاسبة؛ فالكل عليه أن يقوم بدوره وواجبه.

وعلى المواطن ترشيد المياه، وعلى الدولة السعى الجاد لإيجاد الحلول ليس من أجل الفوز في الانتخابات، وإنما من أجل (من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل).