الإشكالات البنيوية: سقطت المعارضة السودانية، في أكبر امتحان عملي.. فقد حملت إليها الاحتجاجات الأخيرة، فرصة على طبق من ذِهب، لتقود الموجة الشعبية باتجاه ما تصبو إليه من تغيير للنظام.. ولكنها فضلت الانزواء في الأيام الأولى، تاركة الاحتجاجات بغير توجيه، لتسيطر عليها مجموعات الفوضى والتخريب، التي حولتها من احتجاجات مشروعة، إلى عمليات نهب وتدمير، أعطت النظام […]
الإشكالات البنيوية:
سقطت المعارضة السودانية، في أكبر امتحان عملي..
فقد حملت إليها الاحتجاجات الأخيرة، فرصة على طبق من ذِهب، لتقود الموجة الشعبية باتجاه ما تصبو إليه من تغيير للنظام..
ولكنها فضلت الانزواء في الأيام الأولى، تاركة الاحتجاجات بغير توجيه، لتسيطر عليها مجموعات الفوضى والتخريب، التي حولتها من احتجاجات مشروعة، إلى عمليات نهب وتدمير، أعطت النظام المبرر الكافي لاستخدام العنف المفرط في قمعها.
هذا الفشل يرجع إلى الإشكالات البنيوية، في تركيبة الكيانات السياسية التي تشكل المعارضة، إشكالات تجعلها غير قادرة على استيعاب المتغيرات، والتعامل بالديناميكية المطلوبة مع الحدث.
أحزاب اليمين السوداني التأريخية، التي انتحت ناحية معارضة النظام القائم في الخرطوم؛ الأمة والاتحادي الديمقراطي، والمؤتمر الشعبي.
تتشابه أوضاعها كثيراً من حيث ضعف التأثير، وعدم القدرة على تطوير أساليبها..
ورؤيتها المتأرجحة تجاه النظام، وبقية تشكيلات المعارضة.. ونحو بعضها البعض..
ولكن القاسم المشترك هو أن الناس يشعرون بأنها لم تعد تصلح لأن تكون بديلاً للنظام!.
بالنسبة للحزبين التقليديين الكبيرين، فإن أدق ما يمكن أن يوصفا به، هو العلاقة المتأرجحة مع النظام..
فلا هما يتحملان موقف المعارضة بكل تبعاتها..ولا هما يثبتان على موقف تصالحي مع النظام!!..
ورغم أن المواقف المعلنة للحزبين، هما معارضة النظام، إلا أن لديهما دائماً كثيراً من خطوط الرجعة، والتلاقي..
فزعيما الحزبين دفعا بنجليهما؛ عبد الرحمن الصادق المهدي، وجعفر الصادق محمد عثمان الميرغني، إلى عمق النظام، في منصبي مساعدي رئيس الجمهورية.
وهذا الأمر شكل مجمل الانتقادات التي وجهت لحزب الأمة والاتحادي، من داخلهما ومن خارجهما، وأدى في كثير من الأحيان، إلى تصدعات داخل كلا من الحزبين، وفي أقل الأحوال خروج قيادات فاعلة.
تتسم فاعلية الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، في هذه الفترة، بالجمود، وضعف التأثير، ووصوله إلى ما يشبه حالة الغياب عن مسرح الحدث.. بعكس حزب الأمة، الذي يبدو أكثر فاعلية، وحضوراً على مسرح الأحداث..
إلا أنه ظهور مصحوب بالاضطراب، وتبني المواقف المتناقضة.
فهو يدعو إلى ضرورة ذهاب النظام، ولكنه في نفس الوقت يمد معه جسور الحوار، ويرفض سيناريو الثورة الشعبية، كما يرفض سيناريو التغيير بالقوة!!..
وهو يتفهم القرارات الاقتصادية الأخيرة، فنياً، ويرفضها سياسياً!!.
وكلا الحزبين أثرت فيه الانشقاقات ، التصدعات التنظيمية بدرجة كبيرة، ففي الوقت الذي انقسم فيه الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى أكثر من ستة فصائل، بعضها لاذ بالتحالف مع الحكومة، مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي المسجل، بزعامة جلال يوسف الدقير..
وبعضها آثر البقاء في خانة المعارضة، مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي (الموحد)، بينما ظل الحزب الاتحادي (الأصل) يحافظ على موقفه الهلامي من النظام..
أما حزب الأمة، فقد قسمته الانشطارات التنظيمية إلى عشرة فصائل حزبية، ابتلع النظام نسبة كبيرة منها، وبقيت البقية في خانة المعارضة..
وهذه الفصائل إجمالاً هي؛ الأمة القومي بقيادة السيد/ الصادق المهديّ، – الأمة القيادة الجماعية بقيادة الدكتور الصادق الهادي المهديّ – الأمة الإصلاح والتجديد بقيادة السيد/ مبارك الفاضل – حزب الأمة القيادة الجماعية بقيادة د. الصادق الهادي المهدي – الأمة الإسلامي بقيادة السيد/ والي الدين الهادي المهديّ – الأمة الوطني بقيادة السيد/ عبدالله على مسار – الأمة الفيدرالي بقيادة السيد/ بابكر محمد نهار – الأمة الإصلاح والتنمية بقيادة السيد/ الزهاوي إبراهيم مالك – حزب الأمة الإنتفاضة بقيادة السيد/ محمد أحمد الأرباب – حزب الأمة التيار العام بقيادة السيد/ آدم موسى مادبو.
ومما لاشك فيه أن هذه التصدعات التنظيمية قد أثرت كثيراً في قدرات الحزبين على الحشد وتعبئة الأنصار والمؤيدين، وتزعزع ولاء الطائفة التي تسند كلا منهما؛ (الختمية، والأنصار)!!..
وتقلصت مساحة الرهبة التي كان النظام يوليهما إياها..
لم تفلح محاولات رأب الصدع في إعادة تجميع الفصائل المتفرقة مرة أخرى، لأن كل محاولة كانت تصطدم بعوائق كبيرة، أبرزها، تعنت القيادات التأريخية، وإصرارها على ممارسة دكتاتورية تنظيمية، وإقصاء حزبي متعمد..
وعلى سبيل المثال يعترض محمد عثمان الميرغني، زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، مساعي تجميع فصائل الحركة الاتحادية، بحجة أنه الأصل، وعلى الجميع أن يتوب إليه..
أما الصادق المهدي، فيتشبث بما يسميه قرارات أجهزة الحزب، ويعتبرها شرطاً لقبول التائبين العادين!!..
والنتيجة أن مزيداً من التصدعات ضربت حزب الأمة بسبب تمرير الصادق المهدي لآرائه تحت ستار قرارت أجهزة الحزب، متجاهلاً رؤى قيادات مؤثرة..
حزب الأمة: تغيير النظام.. أم إسقاطه؟
الإشكالية الرئيسة في موافق حزب الأمة، هي التردد والضبابية التي تسودها، فعلى صعيد القوى المعارضة، دائماً ما يتبني الحزب مواقفاً تؤدي إلى إضعاف ما يُتفق عليه، بعد أن يكون الحزب قد شارك في ذلك الاتفاق عبر ممثليه..
ويظهر ذلك جلياً في وثيقة البديل الديمقراطي، وخطة المائة يوم، ووثيقة الفجر الجديد!!.
والواقع أن رؤية الحزب تجاه النظام الحاكم ليست واضحة، ولهذا وصفه الترابي، بأنه (يصبح مع المعارضة، ويمسي مع النظام)..
والحقيقة أنه من الصعب القطع برؤية ثابتة للحزب، فالحزب يتحدث عن إسقاط النظام، ويبني تحالفاته مع الكيانات المعارضة على هذا الأساس، ولكن رئيس الحزب السيد الصادق المهدي، كثيراً من يصرح بأنه (يفضل العمل علي تغيير النظام وليس إسقاطه)!!.
ولهذا يرى كثير من المحللين أن حزب الأمة ظل يقدم خدمات جليلة للنظام، بإضعاف مواقف معارضيه، وتفتيت إجماعاتهم..
خاصة أنه رغم كل التصدعات التي أصابته، ما زال هو الكيان الأكبر وذو الشعبية الأوسع في ساحة المعارضة السودانية..
وهو الذي استطاع أن يجمع أكبر حشد معارض، لم تفلح المعارضة خلال سنوات طويلة جمعه..حيث استطاع أن يحشد في شعبان الماضي عشرة آلاف شخص في ميدان الخليفة بأم درمان، لتدشين ما أسماه بحملة الحزب لإقامة نظام جديد!!..
وتدشين حركة تمرد السودانية.
المؤتمر الشعبي: كيان أضعفه الصراع:
أما حزب المؤتمر الشعبي فهو من أكثر أحزاب المعارضة السياسية، التي تتبنى خطاً متشدداً ضد النظام، متأثراً بطبيعة ميلاده الناجم عن أحداث 1999م ومذكرة العشرة، وقرارات رمضان، التي أدت إلى الإطاحة بالترابي خارج بنية النظام، وانقسام الكيان الحاكم إلى حزبين، المؤتمر الوطني الحاكم.. والمؤتمر الشعبي المعارض.
الغبن السياسي رسم تاريخ العلاقة مع النظام، التي بدأ بالصدام العنيف، وتحريك أحداث دارفور، ومحاولات الإطاحة بالنظام عسكرياً، من جانب الشعبي، وحملات الاعتقال، والمحاكمات الطويلة، من جانب النظام لمنسوبي الشعبي، ثم هدأت شيئاً ما، بدخول الشعبي في تحالفات المعارضة، إعلان توبته من ميراث الدولة الإنقاذية.
ولكن خلال تلك الفترة فقد الشعبي كثيراً من عضويته، منذ الإيام الأولى، إما بسبب عدم قدرة بعض الأعضاء عن الاستمرار بعيداً عن بريق السلطة التي ظلوا يتمتعون بها عقداً من الزمان، وإما بسبب القمع الشديد ، والضربات المتلاحقة، التي وجهت لأنصار الترابي، وبالإضافة إلى حملات التشهير، ونشر الغسيل الوسخ، خاصة فيما يتعلق بضلالات الترابي وانحرافاته العقدية..
والبعض الآخر بسبب المواقف المتطرفة للشعبي، والصبغة الجهوية، خاصة فيما يتعلق بقضية دارفور، والمحاولات الانقلابية..
وتوقف قسم آخر عن العمل تماماً، وهو القسم الأكبر، بسبب اشتداد وتيرة الصراع، والأساليب السيئة التي استخدمت فيه من قبل الطرفين.
هذا بجانب أن حركات دارفور المسلحة أخذت قسطاً وافراً من عضوية الشعبي إليها..
والمحصلة أن الضعف أصاب كيان المؤتمر الشعبي، وعضويته التي أرهقت بالضربات والاعتقالات، والتشريد من العمل..ولكن صوته الإعلامي، بوصفه كياناً معارضاً، له رموز تاريخية، ظل قوياً، وواضحاً.
هجرة القيادات إلى الوطني:
ورغم تجاوزه لتلك الصدمات، واستقراره، كواحد من مكونات العمل السياسي المعارضة في السودان، إلا أن الحزب ظل يعاني من نزيف العضوية، وظلت موجة (هجرة القيادات إلى الوطني)، ملمحاً ملازماً للحزب.
فعلى مدى السنوات قفلت أسماء لامعة كثيرة راجعة من المؤتمر الشعبي إلى المؤتمر الوطني، ففي حومة أجواء الانقسام في الأيام الأولى، تردد أن كثير من القيادات الشبابية التي تحسب الآن إلى جانب المؤتمر الوطني، كانت تقف إلى جانب الترابي، مثل حاج ماجد محمد أحمد، وحتى مصطفى عثمان إسماعيل..
وحين استقرت الأوضاع، وفُرزت الصفوف بين الكيانين، انخرطت في رحلة العودة، قيادات أخرى، مثل المحامي محمد الحسن الأمين، وبدر الدين طه (معتمد العاصمة سابقاً)، ومؤخراً الحاج آدم، الذي كان أحد قادة المحاولات الانقلابية، وأعلن اسمه في الصحف موسوماً بـ (المتهم الهارب)..
لينتهي بالأمر أخيراً إلى القصر الجمهوري، نائباً لرئيس الجمهورية!!.
اضطراب الموقف من خطط المعارضة:
على الرغم من المؤتمر الشعبي هو كيان يحرص على المشاركة بفاعلية في كل تحالفات المعارضة، إلا أنه في الفترة الأخيرة، بدا واضحاً اختلاف الرؤى داخل الحزب، حول كثير من القضايا..
وعلى صعيد المعارضة، يعمل الأمين السياسي للحزب، كمال عمر بفاعلية داخل تحالف المعارضة، ويسوق لخطة المائة يوم، بينما تواجه تلك الخطة انتقادات كبيرة داخل الحزب، وبحسب ما نقله موقع سودان سفاري، بتاريخ 3 يوليو 2013م فقد هاجم الأمين السياسي لولاية الخرطوم بالشعبي محمد آدم عيساوي خطة المائة يوم ، وقال إن المشروع يشهد انقسامًا بشأنه حتى داخل المؤتمر الشعبي.
فيما ينتقد محمد الأمين خليفة أمين اللامركزية بالحزب، خطة المائة يوم، ويصفها بأن توقيت إعلانها كان خاطئًا وأن تصريحات قادة التحالف بدعمهم ومساندتهم للجبهة الثورية قول مرفوض من كثير من جماهير الشعب السوداني.
بل إن زعيم الحزب د.الترابي، يطرح رؤية جديدة للهدف من خطة المائة يوم، غير التي توافق عليها تحالف المعارضة، حيث نقل نفس الموقع عن الترابي على لسان كمال عمر دعوته (لإعلان أن خطة المائة يوم لتنسيق المواقف بين تحالف المعارضة وليست لإسقاط الحكومة السودانية) .
من الملاحظ أن اقتران حزب المؤتمر الشعبي بالتحالفات مع القوى العلمانية، جعله يمضي بعيداً عن الرؤى الإسلامية فيما يتعلق بالدولة، التي كانت تشكل عمقه التأريخي، فالأمين السياسي كمال عمر يوجه تعميمًا لعضوية الحزب وقيادات المناطق بعدم ترديد الشعارات الإسلامية والهتافات الداعية لإسلامية الدولة.
وبرر ذلك في اجتماع خاص ومغلق بدار المؤتمر الشعبي بحضور عدد من أمناء الأمانات وقيادات الحزب للتنوير بالتطورات السياسية في مشروع المائة يوم الذي تطرحه المعارضة ممثلي الحزب بتجنُّب تلك الهتافات لعدم استفزاز عضوية أحزاب التحالف والقوى العلمانية المناصرة للمؤتمر الشعبي. (موقع سودان سفاري الأربعاء – 03 يوليو).
وفي مؤتمر صحفي بالمركز العام للحزب، وصف كمال عمر ميثاق الفجر الإسلامي، الذي أصدرته القوى الإسلامية المشاركة في جبهة الدستور الإسلامي، وهي غالبها معارضة لتوجهات النظام، وصفه بأنه يعقد الأزمات وأسست بغرض إلغاء الآخر، مبيناً أنه يعبر عن حالة خواء فكري في منظومة الحكم.
هذا مع العلم بأن الميثاق يوجه انتقادات لبنية النظام، والمعارضة العلمانية على السواء، ويدعو إلى تأسيس الدولة على قاعدة إسلامية صحيحة.
غياب الرؤية للبديل:
وأخيراً يمكن القول إن مشروع المعارضة السودانية في هذه المرحلة بالذات، هو مشروع يعاني أمراضاً معقدة، وضعفاً حاداً، السبب فيه غياب الرؤية الواضحة للمشروع البديل لنظام الإنقاذ..
بجانب عدم توافر اتفاق على المواقف وخطط العمل بين العناصر الحزبية المكونة لتحالفات المعارضة.. بالإضافة إلى الإشكالات البنيوية في الداخل التنظيمي لتلك الأحزاب.
وهذا أمر جعل النظام الحاكم يهون من شأن الدور السياسي للمعارضة، في مقابل إعلاء شأن الجانب الأمني والعسكري المتعلق بالمجموعات المسلحة..
وهذا أثر سلباً على حقوق المواطن السوداني، حيث لا يعبأ النظام كثيراً في سياساته القاسية التي يتحمل النصيب الأكبر منها المواطن السوداني، لا يعبأ كثيراً بما يمكن أن يحدث، لأنه يعلم ضعف قدرات المعارضة السياسية على قيادة الغضب الشعبي وتوجيهه!!..
وليس أدل على ذلك من فشل المعارضة في توجيه احتجاجات الأيام الماضية التي جاءت رداً على القرارات الاقتصادية، وهي الاحتجاجات الأعنف والأوسع منذ وصول الإنقاذ إلى سدة الحكم في الثلاثين من يونيو 1989م.