المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

أبيي .. ملف أطفأ سخونته جليد اقتصاد الدولتين!!

أبيي .. ملف أطفأ سخونته جليد اقتصاد الدولتين!!

مع احتداد الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها دولتا السودان المنفصلتان، تزداد الحاجة، لديهما إلى تكامل اقتصادي، مع ما يستلزمه من علاقات طيبة..

هذا ما تأكد لحكومتي البلدين، بعد نزاعات وصلت إلى حد الحرب والاقتتال.. وحاولا صياغة هذه المتأكد فيما عُرف بـ(اتفاق التعاون المشترك) الذي وقعاه في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وهو في ذاته اتفاق مثير للجدل.

ولكن إفرازات (ملف الانفصال) الذي تمت إدارته بصورة سيئة وشديدة الاستهتار، تظل معوقاً أساسياً لكل جهد يبذل في سبيل بناء علاقات طبيعية، خلق تكامل اقتصادي..

وتمثلت تلك الإفرازات في الثغرات التي حملتها اتفاقية نيفاشا، التي أسست للانفصال، وما صحبها من بروتوكولات، مثل بروتوكول أبيي، بالإضافة إلى الثغرات الناجمة عن التراخي في تنفيذ المطلوبات العملية لأجراء استفتاء تقرير المصير، وعدم حسمها في جدولة زمنية مناسبة؛ من ذلك قضية ترسيم الحدود، والنفط، وبالإضافة إلى ديون السودان الخارجية..

ولم يكن منطقياً، أن يوقع الطرفان اتفاقاً للتعاون المشترك، يتضمن بنوداً في غاية الجرأة والتعجل، مثل اتفاقيات الحريات الأربع، وفتح المعابر الحدودية، بين دولتين لم تُبنى الثقة الكافية بينهما، ولم تخفت بينهما نذر الحرب، وما زال كل منهما يحتفظ بأدوات الصراع، متمثلة في خطوط الدعم المفتوحة مع المعارضة المسلحة ضد الآخر!!.. والأهم من ذلك كله لم تغلق كل الملفات الخلافية المفتوحة بينهما!!.

ولهذا تعرض الاتفاق للإحباط أكثر من مرة بسبب توتر العلاقات، التي وصلت إلى الحرب المباشرة، في هجليج، وغير المباشر بدعم الجنوب لمليشيات الجبهة الثورية في جنوب كردفان، ودعم السودان للمليشيات المتمردة على حكومة الجنوب بسلاح الجو تارة، وبالإسناد اللوجستي تارات أخرى.. ولكنه في كل مرة عندما تخفت حدة التوتر، تهرع الدولتان إلى الحوار، يعود ليخرج مجدداً، في تأكيد واضح لتلك الحاجة إلى التكامل، بل تأكيد واضح للخطأ التاريخي بإقرار حق الانفصال!!.

أبيي.. أكبر الملفات المفتوحة:

أهم تلك الملفات التي تتصدر المشهد الآن، رغم الهدوء النسبي الذي يسود علاقات البلدين، هو ملف استفتاء أبيي..

وهو أكثر الملفات إثارة للجدل، منذ أن حشره المبعوث الأمريكي الأسبق، السيناتور دانفورث، إلى المتفاوضين في نيفاشا، في شكل مقترح مفصل، تحت مسمى (بروتوكول أبيي)، وقال للوفدين المتفاوضين (خذوه كما هو أو اتركوه)!!..

ورغم أن أبيي لم تكن بحاجة إلى بروتوكول منفصل، فقد حُسم أمرها بوضوح في اتفاقية ميشاكوس الإطارية، التي تضمنت مادة عن الحدود، نصت بوضوح شديد، على أن الحدود بين الشمال والجنوب، هي حدود (1/1/1956م)، إلا أن وفد حكومة السودان المفاوض، كما يقول المحلل السياسي السوداني أ.د.الطيب زين العابدين، (استسلم للتهديد الأمريكي، فقبل بالبروتوكول رغم مخالفته الصريحة لمادة الحدود)..

والأسوأ من ذلك أن هذا الوفد لم يكترث للنص الخطير المضمن بالبرتوكول، الذي يقول بصورة مواربة إن منطقة أبيي هي ملك لعشائر دينكا نقوك التسعة الذين حولتهم الإدارة البريطانية في عام 1905 من مديرية بحر الغزال في الجنوب إلى مديرية كردفان في الشمال!!..

ولكن البروتوكول يؤسس مرة أخرى للإشكال، حين يعطي الحق في تقرير مصير المنطقة للسكان المقيمين عبر استفتاء يتم تنظيمه.. وهو الأمر الذي فتح الباب للتفسيرات المختلفة لمعنى (المقيمين)، التي أصبحت أساساً للخلاف!.

حاولت الحكومة السودانية التحلل من الخطأ التاريخي لوفدها المفاوض، الذي كان على رأسه النائب الأول علي عثمان محمد طه، بالطعن في تقرير لجنة ترسيم حدود أبيي، التي تجاوزت التفويض الممنوح لها..

ومضى الملف الخلافي في سلسلة من التطورات، وصلت إلى الاقتتال، بين قبيلة المسيرية، كبرى القبائل العربية التي تقطن المنطقة، وبين الحركة الشعبية وجيش الجنوب، وبلغت حدتها بتدخل الجيش السوداني عملياً وسيطرته على المنطقة.. مما دفع بالطرفين إلى المسارعة بالتوافق على ما سُمي بخارطة الطريق، التي انتهت في آخر محطاتها إلى باحة محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي أقرت بتجاوز الخبراء لتفويضهم، وأنقصت المساحة التي حددوها إلى النصف، أخرجت منها حقول هجيليج النفطية..

وهناك بدأ فصل جديد من فصول القضية، حيث انحصر الخلاف في (من هم المقيمون بالمنطقة الذين يحق لهم التصويت في استفتاء تقرير مصير أبيي؟) ..

وبمعنى أخر (هل يدخل عرب المسيرية الرحّل ضمن من يحق لهم التصويت أم لا؟!)..ورغم كونهم كبرى القبائل العربية، وأصحاب الحق التاريخي في أبيي، بحكم  أنهم أول من طرقت أقدامهم المنطقة، إلا أن حكومة الجنوب، أصرت على عدم اعتبارهم سكاناً مقيمين، بدعوى أن إقامتهم موسمية وليست دائمة، وأن مصطلح مقيمين يعني الإقامة الدائمة!!.. وهذا ما رفضه المسيرية، ورفضته الحكومة السودانية!!.

الآلية الإفريقية تدخل في الخط:

انتقل النزاع من مستواه الدولي، إلى المستوى الإقليمي، حيث كون الاتحاد الإفريقي لجنة لتقديم مقترح للحل، برئاسة رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو امبيكي، عُرفت بالآلية الإفريقية رفيعة المستوى، بدأت عملها بالالتقاء بأطراف المشكلة، وانتهت إلى كتابة مقترح، وعرضه على الأطراف، ثم تقديمه إلى مجلس السلم والأمن الإفريقي، الذي أجازه بالإجماع، رغم رفض السودان المبدئي له!!.

يقوم المقترح على ضرورة إجراء استفتاء في أبيي، وحدد له شهر أكتوبر 2013.. ولكن المشكلة كانت في إقراره التوصيف الذي يحدد سكان المنطقة المقيمين، بـ(الإقامة الدائمة) هو ما يتطابق مع التفسير الجنوبي، وهو يعني إخراج قبيلة المسيرية من حق التصويت!!.. وهو ما لم يقبله المسيرية، ولم تجد حكومة السودان بدّاً من رفضه!!..

وكان للسودان حجة، في أن المداولات بينه وبين الجنوب، وبين الآلية الإفريقية، توصلت إلى توافق، على أن الاستفتاء لا يتم إلا بعد اتفاق رئيسي الدولتين، وأنه يجب أن تسبقه قيام المؤسسات الإدارية في أبيي!!

ومع تعقد المشكلة، اضطر الاتحاد الإفريقية للتعامل بتراخي في تطبيق القرار، لعلمه أنه غير ممكن التطبيق إذا لم يحظ بقبول الطرفين!!.. وهو ما اعتبره الساسة الجنوبيون تراخياً وتراجعاً من الاتحاد الإفريقي، وقالوا إنه محك لاختبار جدية الاتحاد وقدرته على حل القضايا الإفريقية!!.

اندفاع جنوبي:

تأسيساً على الفكرة السابقة، اعتبر الساسة الجنوبيون، ومن خلفهم حكومتهم، إلى الإعلان عن عزمهم إقامة الاستفتاء في موعده، حتى لو كان من جانب واحد.. ومنح سلفاكير العاملين بالدولة من أبناء أبيي إجازة مفتوحة للمشاركة في الترتيب لإجراء الاستفتاء.. وكان على رأس اللجنة التي تم تكوينها لتنظيم الاستفتاء، القيادي الجنوبي لوكا بيونق.

ولكن سلفاكير اضطر لتغيير موقفه، بعد إعلان الاتحاد الإفريقي رفضه لقيام استفتاء من جانب واحد، فأعلن أنه لن يعترف بنتيجة الاستفتاء.. ولكنه مع ذلك لم يتخذ أي إجراء لإيقاف عملية الاستفتاء التي أجريت بالفعل من قبل الدينكا، وأُخرجت بنتيجة مسرحية، هي  (99.9%) لصالح الانضمام لجنوب السودان!!.

ورغم أن الدينكا سلموا حكومة الجنوب نتيجة الاستفتاء، وتلقوا وعوداً بعرضها على برلمان الجنوب..

إلا أنه عملياً في ظل الرفض الإقليمي للاستفتاء، ورفض السودان، بالإضافة إلى ردات فعل المسيرية، التي تجعل الخيارات أمامهم مفتوحة؛ من ضمنها القيام باستفتاء مماثل، هو ما كانوا قد شرعوا فيه بالفعل، أو القتال!..كل ذلك يجعل سلفاكير لا يجد أمامه بدا من المضي في الاتساق مع الموقف الإقليمي، وعدم إثارة مشكلة بأي إعلان متهور!!..

الظروف الاقتصادية تدخل ملف أبيي الثلاجة:

يعاني الجنيه الجنوبي انهياراً سريعاً في قيمته، وإن كان أقل قليلاً مما يعانيه الجنيه السوداني!!.. وترتفع معدلات التضخم بصورة مريعة في الدولتين.. الأمر الذي يضع اقتصاد البلدين على حافة الانهيار.. خاصة مع ضعف الإنتاج النقدي لدى كل منهما..

هذا بالإضافة إلى الإشكالات السياسية الداخلية التي تعاني منها الحزبان الحاكمان في الدولتين!!..

كل تلك المعطيات تدعو إلى تخدير الملفات الخلافية، في سبيل محاولة الوصول إلى تفاهمات حول القضايا الاقتصادية.. فالجنوب يحتاج إلى عائدات نفطه التي تأثرت كثيراً بتوقف علميات الضخ، بسبب الخلافات مع السودان..

والسودان يحتاج إلى الاستفادة من كل قرش توفره رسوم عبور النفط الجنوبي عبر أراضيه، للتقدم خطوة في طريق الخروج من أزمته الاقتصادية!!.

وجنوب السودان يحتاج إلى السلع الضرورية التي تصله من السودان عبر المعابر الحدودية.. والسودان يحتاج إلى إنعاش تجارة الحدود، للحصول على مزيد من الجبايات والرسوم..

سلسلة من الاحتياجات ترجح أن ملف أبيي سوف يدفع به في الغالب إلى الثلاجة، ريثما يسترد النظامان أنفاسهما.. خاصة أن عاصفة التغييرات الداخلية في جوبا، أطاحت بكثير من العناصر المتشددة ضد الشمال من سدة الحكم في الجنوب، أمثال باقان أموم، ودينق ألور.. إلخ.. مما يعني توفر فرصة لسلفاكير للعمل في هدوء