المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

جنوب السودان.. واقتراب السيناريو الكيني

جنوب السودان.. واقتراب السيناريو الكيني

لعل فشل طرفي الصراع في جنوب السودان في حسمه لصالح أي منهما خلال الفترة الماضية يؤشر لطول أمد هذا الصراع في أحدث دولة في العالم.

فكل من الرئيس الجنوبي سليفا كير ونائبه السابق ورياك مشار لم يستطيعا إلحاق الهزيمة بالضربة القاضية بمنافسه حيث استمر النزال بينهما بنظام النقاط طوال الأشهر الماضية.

وهو ما ظهر جلياً بإحكام قوات مشار سيطرتها علي مدينة الملكال عاصمة ولاية الوحدة الغنية بالنفط قبل أن تستعيد قوات الحكومة السيطرة علي عدة مناطق في المدينة دون أن تنجح في طرد قوات التمرد من بعض حقول النفط.

بشكل أثر بالسلب علي أنتاج الجنوب من النفط الذي تراجع إلي ما دون156الف برميل في اليوم بعدد أن تجاوز حاجز 300 الف برميل بشكل يهدد بكارثة اقتصادية في الجنوب الذي يعتمد ميزان مدفوعاته المتداعي بشكل كامل علي موارده النفطية.

تطهير عرقي

ولعل ما يفاقم الصراع في الجنوب أنه يتم علي خلفية عرقية – قبائلية بشكل يزيده تعقيداً فالأمر لم يقتصر علي كونه خلافاً سياسياً بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار بل أن الأمر قد أخذ بعدا أضخم بتصاعد الصراع بين قبيلتي الدينكا نقوك التي ينتمي إليها كير والنوير التي ينحدر منها نائبه السابق.

لاسيما في العاصمة جوبا التي شهدت حالة تقترب من التصفية العرقية حيث قامت الدينكا بطرد آلاف من أبناء النوير من العاصمة جوبا مما عمق من الفجوة بين الطرفين وصعب من محاولات إعادة تطبيع العلاقات بينهما في ظل مؤشرات قوية علي استمرار الصراع لفترة ليست بالقصيرة بين الخصمين اللدودين .

وزاد من تعقيد الأزمة دخول أوغندا بقوة علي خط الأزمة عبر انحيازها التام للقوات الحكومية وهو ما ظهر بشكل قوي في معارك "الملكال" الأخيرة.

حيث نجحت قوات مشار في إسقاط طائرة تابعة للقوات الجوية الأوغندية مما أكد ضلوع كمبالا في الصراع بشكل واضح لا يقبل معه أي تشكيك في تأييدها المفتوح لسلفا كير خصوصاً أن موسيفيني قد بني موقفه علي معايير قبلية وعرقية في ظل الامتداد الجغرافي لقبائل الدينكا في الأراضي الأوغندية.

بل أن تأمين قواته الطريق التجاري بين جوبا وكمبالا قد حوله للاعب أساسي في الصراع بشكل أشعل مخاوف سليفا كير من أرتهان مستقبله السياسي واستقراره بلاده علي الدعم الأوغندي.

ضوء أخضر أوغندي

ومن هناك ينبغي التأكيد أن الدعم الأوغندي اللا محدود لكير لم يكن لاعتبارات قبلية فقط رغم أهميتها البالغة بل جاء كذلك في سياق ارتباط خصمه رياك مشار بصلات تاريخية و وثيقة مع جيش الرب وهو دعم دفع حاكم جوبا لتبني مواقف متشددة في المباحثات التي جرت في أديس أبابا.

مما أدي لفشلها ومعها جميع الوساطات فضلاً عن خرقه لوقف إطلاق النار بضوء أخضر أوغندي مبدداً جميع الأجواء الإيجابية التي أضفها تنفيذه لوعود سابقة بالإفراج عن المعتقلين من رموز الحركة الشعبية ونقلهم لكينيا المجاورة بل أن هذه الممارسات زادت الأمر تعقيداً.

خصوصاً أن مغامرة كير في الملكال لم يكتب لها النجاح بل علي العكس أسهمت في تحوله للطرف الأضعف في المعادلة و رفع سقف طموحات خصمه بشكل كبير مما يجبره مستقبلاً علي تقديم تنازلات مؤلمة لتحجيم حالة غضب مكتوم من الوسطاء لعدم احترامه لوقف إطلاق النار تارة وفشله في حسم الصراع تارة أخري مما حطم صورته كرجل جنوب السودان القوي.

بل سارت الأمور علي العكس تماماً حيث بات مشار بات للأطراف الدولية كعنصر أساسي في الساحة الجنوبية حيث يري أن فشل كير من ورائه موسيفني في إلحاق الهزيمة به سيعيد رسم خارطة الجنوب من جديد وبل سينهي هيمنة خصمه وأنصاره علي المشهد.

وبل سيعزز من نفوذ الجناح المعارض لحكومة جوبا داخل الجنوب خصوصاً أن إطلاق سراح رموز الحركة الشعبية سيساهم في تقوية موقفه في التفاوض بل يدفع قوي إقليمية للرهان علي هذا المحور الجديد والكف علي أن تلقي بثقلها خلف نظام كير الذي يقترب من التداعي وهي رسالة يعتقد أن مشار يواجهه إلي قوي تبدو محايدة في الصراع مثل إثيوبيا والسودان.

حياد لن يطول

وما يعزز هذا الأمر أن هناك قناعة حالياً في الخرطوم أن تصاعد الصراع في الجنوب قد يكون له تأثير ايجابي علي الصراع مع معارضيها الشماليين خصوصاً الجبهة الثورية حيث أن عجز كير عن بسط سيطرته علي أراضي الجنوب سيدفعه لمعاودة خياراته والكف عن توفير ملاذ آمن لمتمردي الشمال.

في ظل حياد شمالي زاد من الضغوط علي كير لقطع اتصالاته مع الجبهة الثورية وقطاع الشمال في الحركة الشعبية خصوصاً أن مناطق التماس بين الشمال والجنوب قد شهدت تورط المتمردين.

خصوصاً حركة العدل والمساواة قد لجأت لعمليات سلب ونهب أثارت استياء الحكومة السودانية مما دفعها لتكثيف قصفها علي مناطق خاضعة لسيطرة المتمردين في دارفور.

وذهبت تقارير إلي أن حياد الخرطوم في الصراع بين سلفا كير ومشار قد لا يستمر طويلاً فالخرطوم التي نأت بنفسها لحسابات خاصة عن الانخراط في الصراع.

وإن كان البعض يعتبر موقفها دعماً غير مباشر لرئيس جنوب السودان لن يكون بمقدورها الاستمرار علي نفس الوتيرة لاسيما إذا شعرت بقدرة أحد الطرفين علي حسم الصراع فهي ستحاول إبقاء النوافذ مفتوحة مع الطرفين خصوصاً أن دعمها لأحدهما يحمل مخاطرة بالغة في حالة تحقيق أحد الطرفين انتصاراً حاسماً علي الآخر.

في ظل ارتباط الخرطوم في السابق وتحديداً في تسعينات القرن الماضي بصلات قوية مع مشار أبان انشقاقه علي جون جارانج وانضمامه لحكومة البشير حينذاك وشغله منصباً تنفيذياً رفيعاً مما يعزز من أمكانية فتح النوافذ معه في إذا بدت إشارة علي تبنيه زمام المبادرة وإنهاء حالة الضباب السائدة حالياً.

تقاسم السلطة

وتفتح حالة الضباب باب التكهنات حول الأجواء الذي يمكن في سياقها الوصول لتسوية للأزمة التي توشك أن تصل بالكيان الوليد لحرب أهلية شاملة متمثلاً في إمكانية تطبيق السيناريو الكيني أو الزيمبابوي.

حيث يمكن إسناد منصب رئيس الوزراء لرياك مشار كتسوية لاقتسام السلطة مع كير باعتبارها السبيل الوحيد لتجاوز المواجهة التي تهدد بانهيار الجنوب تحت قاعدة لا فائز ولا مهزوم.

في غياب أي مؤشر لقدرة أي طرف علي الهيمنة فيما لن تقبل قوي إقليمية أن يواجه حلفاؤها الهزيمة بالضربة القاضية بل يفضل الجميع أن تخرج نتيجة المباراة بين كير ومشار بالتعادل وتفتح البلاد لتدشين شراكة وطنية تضمن الاستقرار الهش.

ولكن هذا العجز عن الحسم يطرح تساؤلاً يتمثل في قدرة القوي الإقليمية في فرض تسوية تقضي بتقاسم السلطة لاسيما أن هناك خلافات قوية بين دول الجوار حول الحفاظ علي نفوذها في الجنوب والوقوف حائلاً دون خروجها وحلفائها خاليي الوفاض من هذه البقعة الساخنة من المنطقة.

وهي ما قد يفضي لتدويل المواجهة ودخول القوي الكبري علي خط الأزمة عبر مجلس الأمن بعد إخفاق الاتحاد الإفريقي وشركاء الإيجاد عن إيجاد هذه التسوية أو فرضها في ظل عجز الطرفين عن حسم الصراع، وتصاعد المخاوف من تداعيات سلبية للصراع علي دول الجوار قد تفضي لاشتعال حرب إقليمية ذات طابع عرقي وقبلي بشكل يصعب معه السيطرة عليها.

وهو ما سيفرض هذا السيناريو لمدة ليست بالقصيرة قبل أن تظهر تغييرات علي المشهد تنهي الثنائية وتؤشر لسيد واحد في العاصمة جوبا.

المصدر: الإسلام اليوم