المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

بين الإيمان الحكمي والإيمان الحقيقي

بين الإيمان الحكمي والإيمان الحقيقي

 

بين الإيمان الحكمي والإيمان الحقيقي :

إذا كان الإيمان هوالتصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان ،فإن العباد لاسبيل لهم من ذلك للحكم على الآخرين إلا بما ظهر منهم نطقاً وعملاً ، وهذا هو الإيمان الحكمي الذي تجري على أساسه الأحكام في قضاء الدنيا ، ولا نؤمر بالبحث والتنقيب فيما وراء ذلك لقول النبي r :(( إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم )) رواه البخاري ومسلم * قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : " فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان وهذا كله بالنظر إلى ماعند الله تعالى ، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط ، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا " –ابن حجر- فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1 ، وقال ابن تيمية – رحمه الله – : " لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة " –ابن تيمية-مجموع الفتاوى ج7 ص210- ؛لأن معرفة ذلك على الحقيقة إنما هو موكول إلى الله  تعالى وحده الذي يعلم ما في الصدور وهذا الثاني هو الايمان الحقيقي .

             وقد فرق الله U بين الإيمانين : ففي سورة النساء قال تعالى : } وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ.[ -النساء:25- فقوله تعالى :} مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [هو الايمان الحكمي } وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ [هذا هو الايمان الحقيقي ، وقال تعالى في سورة الممتحنة في معرض أمره للمؤمنين أن يمتحنوا المهاجرات إلى دار الإسلام: } يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواإِذَاجَاءكُمُالْمُؤْمِنَاتُمُهَاجِرَاتٍفَامْتَحِنُوهُنَّاللَّهُأَعْلَمُبِإِيمَانِهِنَّفَإِنْعَلِمْتُمُوهُنَّمُؤْمِنَاتٍفَلَاتَرْجِعُوهُنَّإِلَىالْكُفَّارِ[الممتحنة:9- ففرق بين الايمان الحقيقي : } اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [ والايمان الحكمي: } فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [ مع أن الأصل في الايمان أنه يشمل القلب واللسان معاً , ولا يتخلف إلا في المنافقين  كما قال تعالى عنهم يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [[1].

  1. ورود اسم الإيمان في القرآن على عدة أوجه:

 ولهذا أيضاً لم يرد إسم الايمان في القرآن على وجه واحد بل على أوجه منها:

الأول : بمعنى إقرار اللسان كما قال تعالى } ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [[2] أي آمنوا باللسان وكفروا بالجنان ، ومثله قوله تعالى }:  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [3][ وقوله تعالى } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ [4].

الثاني: إيمان يخالطه شرك ويلابسه كما في قول تعالى }وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُون [[5] فهم مؤمنون موحدون توحيد الربوبية ، مشركون في توحيد الألوهية والأسماء والصفات .

وقد جعل ابن الجوزي[6] الإذعان للحق على سبيل التصديق وجهاً مستقلاً أطلق عليه الإيمان الشرعي وهو ما جمع الأركان الثلاثة المذكورة وهي :الإقرار والإعتقاد والعمل بمقتضى ذلك ومثل  لذلك بقوله تعالى : } وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [7][ ".[8]

  • إنّ المقصود من ذكر الفرق بين هذين النوعين من الايمان- الحكمي والحقيقي – عند الحديث عن الهداية إلى الإيمان هو أنه لا بد من الإهتمام الشديد بإيمان القلب ،والسعي لتحقيق الايمان الحقيقي الآخذ بمجامع القلب واللسان والجوارح وهذا الذي ينظر إليه الله تعالى ابتداءً كما في حديث أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[9]وهو الذي يثيب عليه سبحانه ويجازي كما قال تعالى: } فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [[10]،وكذلك قول النبي r لسعد بن ابي وقاص t لما قال له : لم تعط فلان وهو مؤمن ، فقال النبي r :(( أو مسلم )) هذا الحديث يشير إلى أنه لم يحقق مقام الايمان إنما هو في مقام الاسلام الظاهر" [11]. إنّ  هذا الإيمان الحقيقي هو مصدر الإلتزام بالإستقامة وغيرها من الأخلاق الكريمة يقول ابن تيمية :" من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أنّ الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والانابة إليه ، والتوكل عليه والاخلاص له ، وفي سلامة القلوب من الرياء والكبر ، والعجب والرحمة للخلق ،والنصح لهم ونحو ذلك من الاخـــلاق الايمانية ومصداق هذا قوله e: (( أكمل المؤمنين ايماناً أحسنهم خلقاً ))[12] .

 


3 ) المائدة : 41

4) المنافقون :3

[3] ) النساء : 137 

[4] )  المائدة :69

[5] ) يوسف : 106

[6] ) عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي التيمي البغدادي. أبو الفرج, جمال الدين, يتصل نسبه بأبي بكر الصديق. إمام عصره في الحديث والوعظ.توفي سنة 597  البداية والنهاية 13 / 20،28،9.

[7] )البقرة :25.

[8] ) (ابن الجوزي) أبوالفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد " نزهة الاعين النواظر في علم الوجوه والنظائر " تحقيق / محمد عبدالكريم الراضي  ، ط/ مؤسسة الرسالة _بيروت _ 1405ه ، ص 146

[9] ) رواه مسلم في( كتاب البر والصلة والآداب ) برقم (2564) .

[10] ) الفتح : (18) .

[11] )  ابن رجب الحنبلي  : جامع العلوم والحكم  ص 110

[12] )أبوداود (3916)،الترمذي(928).