المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة

حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة

الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي [حفظه الله ]

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:
الإيمان -كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة وروته كتب العقيدة مسنداً إلى أكثر علماء الأمة- هو قول وعمل، يزيد وينقص.
وهذه العبارة جامعة مانعة لا يحتاج معها إلى غيرها، ولكن نحتاج إلى شرحها وتفسيرها، وممن نقل الإجماع على هذه الكلمة الإمام الشافعي في الأم ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ، والإمام أحمد في كتاب الإيمان ، وهو غير موجود الآن مستقلاً؛ لكنه ضمن مسند الخلال .

وممن نقل الإجماع أيضاً الإمام البخاري ، وله كلمة عظيمة جامعة تغني عن كثير من الأقوال في هذا المضمار؛ قال: "رويت عن أكثر من ألف شيخ ولم أرو إلا عمن يقول: الإيمان قول وعمل" وفي بعض الروايات يقول: "ولم أرو عمن يقول: الإيمان قول"، فالإمام البخاري رحمه الله كان من أشد الناس اهتماماً في هذه المسألة كعادة أهل السنة في عصره، فلا غرابة في موقفه أو موقف الإمام أحمد رضي الله عنهما وأمثالهم في هذه الشدة على المرجئة ؛ لأنهم نقلوا ذلك عن الأئمة الأجلاء عن: ابن أبي شيبة ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الله بن المبارك ، فهؤلاء وأمثالهم من أئمة الإسلام وأعلام الهدى، كان موقفهم من أشد المواقف في مسألة الإرجاء، فالإمام البخاري رحمه الله أخذ ذلك عنهم، فكان من حرصه على الرواية ألاَّ يأخذ ذلك إلاَّ عمن يقول: (الإيمان قول وعمل).

فلم يكن أحد من شيوخه يتهم بالإرجاء -وإن كان في أثناء السند قد يوجد من هو متهم بالإرجاء- ولم يكن يجلس في حلقة أحد من المرجئة ؛ فلا يعني قول الإمام البخاري رحمه الله أنه لم يأخذ العلم إلا عمن يقول: (الإيمان قول وعمل)؛ أنه لا يوجد في أسانيد الإمام البخاري أو مسلم -وهو تلميذه في هذا الشأن- من اتهم بالإرجاء؛ بل إن أكثر التهم الموجهة إلى الرواة هي الإرجاء.
وبعض أئمة المرجئة الكبار لهم روايات في الصحيحين وغيرهما، خاصة أئمة الكوفة ، وهناك كلمة مشهورة للإمام أحمد رحمه الله، والواقع يصدقها، قال: (إنه لو تركت الرواية عن المرجئة لتركت الرواية عن عامة أهل الكوفة ، ولو تركت الرواية عن القدرية لتركت الرواية عن عامة أهل البصرة )؛ لأن القول بالقدر انتشر في البصرة والقول بالإرجاء انتشر في الكوفة ، فعمت البلوى حتى سرت إلى علماء وأئمة ثقات أجلاء كبار عباد وثقات وصادقين في نقلهم؛ فلذلك تؤخذ عنهم الرواية وإن كانت الشبهة قد انقدحت فيهم، لكن الإمام البخاري نفسه لم يجلس إلى أحد من المرجئة .

فالمقصود أن الإجماع قد انعقد على أن الإيمان قول وعمل، وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى من علماء الكوفة وغيرهم جموعاً غفيرة جداً؛ فقد ذكر ما يقارب مائتي رجل ممن يقولون: الإيمان قول وعمل.. كما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان .
ويعقب شيخ الإسلام رحمه الله على ذلك في كتاب الإيمان فيقول: (وأكثر من ذكر أهل الكوفة وأهل العراق ؛ لأن الإرجاء ظهر عندهم)، أما أهل المدينة على سبيل المثال، فلم يظهر فيهم هذا المذهب، بل حورب أشد المحاربة، وأما في الشام فيقول الإمام الأوزاعي رحمه الله كما نقله عنه اللالكائي بسنده: (وقد كان أهل الشام في راحة وفي معزل عن هذه البدعة حتى قدم بها إلينا بعض أهل العراق )، يعني: أنها نقلت من العراق لكنها كانت أخف، وفي مصر وغرب العالم الإسلامي كانت أيضاً قليلة.
وأكثر ما انتشر الإرجاء في البيئة التي ظهرت فيها الخوارج ، وفي هذا عبرة… والخلاصة أن إجماع العلماء المعتد بهم والموثوق بعلمهم قد انعقد على أن الإيمان قول وعمل، وممن نقل ذلك الإجماع أيضاً ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد والحافظ ابن كثير عند آيات الإيمان من أول سورة البقرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم عند شرح حديث جبريل عليه السلام.
إذاً: لا شك أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والتعبير بأن الإيمان قول وعمل أفضل من التعبير بأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان؛ لأن أفضل الكلام بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو كلام السلف ، والسلف قالوا: الإيمان قول وعمل.
ما معنى قولنا: الإيمان قول وعمل؟ وما الذي يندرج تحت هذه الكلمة؟

معنى قولنا: الإيمان قول وعمل:
الإيمان (قول وعمل) هذه العبارة تنقسم إلى أربعة أقسام: فالقول ينقسم إلى قسمين: قول اللسان، وقول القلب، والعمل كذلك ينقسم على قسمين: عمل القلب، وعمل الجوارح.
فأما قول القلب: فمعناه إقراره وتصديقه واعتقاده؛ مثل: أن يقول الإنسان في قلبه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يقر بها في قلبه، ومثل: أن يقر بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أقر بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما عدا ذلك فهو تابع له؛ لأن أعظم ما جاء به هو التوحيد ومنه الشهادتان، ثم الأعمال.
ولا يمكن لأحد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأقر بصدقه؛ سواء أظهر ذلك الإقرار على اللسان أو لم يظهر، وسواءً آمن الإنسان على الحقيقة أو أظهر ذلك بلسانه ولم يؤمن على الحقيقة، فقول القلب هو الركن الأول من أركان الإيمان.
وأما قول اللسان فمعناه أن يقول الإنسان بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يشترط لفظ الشهادتين، بل يكفي أي لفظ يدل على المقصود، ثم يُعلَّم بعد ذلك الشهادتين وغيرها، فإذا قالها ضمناً أو لفظاً، ثبت له حكم الإسلام.

فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى قوم من العرب يدعوهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، لأنهم كانوا يسمعون قريشاً تقول: محمد والصباة، فقالوا: صبأنا.. صبأنا.. يستعيذون من القتل ويقصدون (أسلمنا)، ولم يحسنوا التعبير، فقتلهم خالد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد }.
فمن عبر بما يدل على الإسلام، فإنه يقبل منه، ويكف عنه السيف، ويعصم دمه وماله، ثم يعلم الشهادتين، ثم يعلم ما بعدها من الأحكام.
ولو قالها بالإشارة أيضاً فإنه يقبل منه؛ فقد روى اللالكائي أن عمر رضي الله عنه قال: [لو أن المسلمين حاصروا أهل حصن، فخرج منهم رجل، فأخرج يده، فرفعها إلى السماء، فقتله رجل، لقتلته به ] لأن من أشار بهذه الإشارة يكف عنه السيف، ويعلم بعد ذلك التوحيد وحقيقته.
قاعدة "من لم يقر بالشهادتين، فإنه ليس بمسلم ولا مؤمن، ولا يأخذ أحكام الإيمان " ورد الشبهات الواردة فيها
أما من لم يقر بالشهادتين فإنه ليس بمسلم، لكن الأشاعرة يقولون: (من عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه، ورآه وصدقه ثم مات، فإنه يكون مسلماً، فإن قصر في عدم النطق بالشهادتين كان عاصياً).
وممن قال ذلك وانتصر له : الغزالي في الإحياء وشرحه الزبيدي شرحاً وافياً، وأكثر كتبهم على أنه إذا صدق بقلبه نجا عند الله.
فما صحة هذا القول في ميزان الشرع؟
القاعدة في هذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من لم يقر بالشهادتين، فإنه ليس بمسلم ولا مؤمن، ولا يأخذ أحكام الإيمان)، فالإقرار بالشهادتين واجب بإجماع المسلمين، وبه وحده يدخل الإنسان في الإسلام والإيمان؛ فهو واجب لتحقيق أن يكون مسلماً، فلابد من الإقرار بالشهادتين، وإن لم يقر بها لم ينفعه تصديقه أو إقراره بالقلب.
ومن الأدلة على أن معرفة الحق بالقلب مع عدم الإقرار باللسان لا ينفع صاحبه مطلقاً -وهو دليل واضح ومعروف ومتفق عليه عند أهل السنة قاطبة، ولم يخالف فيه إلا الرافضة ولا يعتد بخلافهم- قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس هناك شك في أن أبا طالب كان مصدقاً غاية التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نبي قطعاً، وإلاَّ فهل يقف معه المواقف، ويحاصر معه في الشعب، ويتحمل كل الأذى، ويضحي كل التضحيات مع من يظن كذبه؟! لا يمكن ذلك؛ فالنفوس تأباه، كل الشواهد تدل على أن أبا طالب كان مقراً ومصدقاً غاية التصديق بأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه على الحق، ومن شعره المنسوب إليه:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
لكنه لم يفصح بلسانه عما كان يختلج في داخله من الحق، وذلك خشية الملامة، حتى إنه عند موته قد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله ينطق بها وقوله له: (يا عم قل: لا إله إلا الله .. كلمة أحاج لك بها عند الله) إلا أنه لم يفصح بلسانه عن ذلك الحق خشية أن يقال: ترك ملة عبد المطلب : إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
إذاً: قول القلب مع انتفاء قول اللسان وامتناعه لا ينفع صاحبه بشيء.

وهناك اعتراض يعترض به بعض مشايخ الأشاعرة وأمثالهم -وهم كثير في الأمة- يقولون: هل تثبتون إيمان الأبكم والأخرس الذي لا يستطيع أن يتكلم؟ فنقول: نعم. فيقولون: كيف تثبتون إيمانه وهو لم يقر بالشهادتين؟ ويبنون على ذلك أن النطق ركن قد يسقط؛ كما سقط عن الأبكم واكتفي منه بالإقرار بالقلب.
وشبهة أخرى، يقولون: لو أن إنساناً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى آياته، فصدقه، فأراد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فمات من وقته، أتقولون: إن هذا يدخل النار؟
فنرد على الشبهة الأولى: بأننا نكتفي منه بأي وسيلة نعرف بها إيمانه، ما دام عاجزاً عن الإتيان بالنطق؛ فالركن يسقط عن المعذور، وهذا شيء واضح.
ونرد على الشبهة الثانية، فنقول: إننا في أحكام الدنيا نحتاج إلى الإقرار بالشهادتين لإجراء الأحكام الظاهرة عليه، وكونه عند الله سبحانه وتعالى مؤمناً؛ لأنه قدر أن يموت فجأة، فهذا عند الله، أما نحن في الدنيا فلا نعده مؤمناً. وبمعنى آخر: كوننا في الدنيا لم نعتبر هذا الإنسان مؤمناً لا يغير من الحقيقة شيئاً إن كان عند الله تعالى مؤمناً حقيقة وعجز عن القول، فلا يضره حكمنا عليه بشيء، لكن يضرنا أن نجري عليه أحكام المسلم بغير بينة.

وأيضاً: فإن الرجل في الوقت الذي آمن فيه لم يكن هناك وقت موسع لينطق بالشهادة، فمن كان وقته مضيقاً فيحكم له بذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لأنه كان ينوي أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فمات، وليس كلامنا في حالات نادرة ولا في حالات افتراضية، ونصوص الشرع وكلام الأئمة وقواعد العلم عموماً إنما تبني على العام الغالب، وكذلك أي علم من العلوم، فإنه ينبني على الأسس والأصول والقواعد العامة، وليس على الشواذ.
ولو أننا لا نصحح أي قاعدة لها شواذ، لما صحت قاعدة في الدنيا تقريباً، فلابد أن يستثنى ويشذ من القاعدة بعض أفرادها، وبالذات قواعد الشرع.
فائدة الاستثناء في القواعد الشرعية.

وهنا فائدة وهي: أن الاستثناء من أعظم الفوارق بين مذهب أهل السنة والجماعة وبين مذاهب أهل الكلام ، وأن علم الكلام لا يصلح أن نأخذ منه ديننا؛ لأنه رتب العقيدة ترتيباً عقلياً على القواعد المنطقية والقواعد الرياضية، ولا يمكنك أن تبني قاعدة منطقية أو قاعدة رياضية فيها استثناء، فلا تسمى هذه قاعدة في علم الرياضيات ما دام لها استثناءً وأنها لا تصدق أحياناً، فالذي لا يصدق مرة في حكم العقل يمكن ألا يصدق مرات كثيرة.
فشتان ما بين القواعد الشرعية والقواعد العقلية التي يسمونها منطقية أو رياضية.
مثلاً: قاعدة أن الماء يتبخر بالحرارة، فلو جاء أحد العلماء وأثبت أن الماء لا يتبخر بالحرارة لكانت القاعدة خطأ، ومن القواعد الفلكية المعروفة أن كل كوكب له مدار، فلو جاء شخص بعد مائة سنة أو مائتي سنة واكتشف أن هناك كوكباً لا يدور بطلت النظرية، فلا يقال: إن هذه النظرية يستثنى منها كذا، فالأصل في الأحكام العقلية ألا يكون فيها استثناء وهذا بخلاف الأحكام الشرعية.
ومن الخلط والخطأ الذي يقع من بعض الأصوليين أن بعضهم يؤصل قاعدة، فإذا وجد حديثاً يخالفها، فإنه يرد الحديث، ويقول: هذا حديث آحاد مخالف للأصول الكلية!
وهذا من بعض الأصوليين خطأ وخلل في عقولهم؛ لأنهم ظنوا أنه ما دامت المسألة قد ثبتت بالقاعدة فما خالفها فهو باطل! وهذا غير صحيح.
فمثلاً: من القواعد الفقهية المقررة: أن اليقين لا يزول بالشك، وهي قاعدة صحيحة في الطهارات والأحكام، فنحن نطبقها، لكننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحكام بنى الحكم ورتبه على أمر مظنون، مثل حديث الرجل الذي خطب امرأة، فجاءت من تقول له: إنها قد أرضعتهما، فحاول الرجل أن يجد له مخرجاً فقال له صلى الله عليه وسلم {كيف وقد قيل؟! } ما دام قد قيل فقد انتهى الأمر؛ مع أننا لم نتأكد ولم نجزم.
إذاً: الشرع قواعده ليست كالقواعد العقلية التي لا يدخلها الاستثناء، وإذا دخلها الاستثناء بطلت القاعدة، ويكفي أن تأتي بمثال لكي تبطلها.
أما الشرع والدين، فالله سبحانه وتعالى جعله أوسع من ذلك: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
فمن فضل الله وحكمته وسعة ورحمته أن القواعد الشرعية تقبل الاستثناء فهي قواعد مرنة، فتجد هناك قواعد قطعية وتطبق على آلاف الحالات، ثم في الوقت نفسه تجد أنه يخرج عنها أمر من الأمور، وهذا الذي يخرج عنها لا يعارضها، بل نقول: إنه يستثنى من تلك القاعدة، والحكم يبقى على عمومه فيما عدا الحالة المستثناة.
فقولهم: إن الأبكم أو الأخرس الذي آمن فمات ولم ينطق بالشهادتين مؤمن.

نقول: نحن لا نتكلم عن الحالات النادرة أو الحالات الاستثنائية أو الشاذة، بل نتكلم عن الحالات الأصلية الأساسية العامة، ولا معارضة بين الحالات العامة وبين ما قد يثبت له الحكم استثناءً، إنما المعارضة تكون في القواعد العقلية والكلامية، أما القواعد الشرعية، وكما أنه لا تعارض بين كون القيام ركناً من أركان الصلاة، وبين أن المعذور ليس عليه قيام، فكذلك لا تناقض بين قولنا: إن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، وقولنا: إن المسبوق إذا أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، لأن هذه الحالة لا تدخل ضمن حديث: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } لأن وقتها قد فات.

الإقرار باللسان وحده لا يكفي للإيمان:
من لم يأت بركن الإقرار باللسان أو الإقرار بالقلب، فهو كافر، ولا يحكم له بالإيمان، وقد ذكرنا بعض الأمثلة على من لم يأت بالإقرار باللسان.
وهناك من أقروا باللسان، وليسوا بمؤمنين عند الله سبحانه وتعالى؛ كالمنافقين الذين حكى الله عنهم الإقرار بألسنتهم في قوله تعالى: قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] وقال في آخر سورة التوبة التي فضحتهم وزلزلتهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] هذا بعد أن ذكر أنواع النفاق: ومنهم، ومنهم، ومنهم، ثم ذكر أنواع المؤمنين وأصنافهم، والسابقين الأولين، وذكر الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وذكر المرجين لأمر الله، وذكر الذين خُلِّفوا، فخاطب الجميع كلهم بخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، ولذلك اشترط لتوبة المنافق الذي يقول (لا إله إلا الله) الصدق والإخلاص، بمعنى أن يتوب من النفاق، وأن يصدق ويخلص دينه لله: وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النساء:146] إذاً: لابد من الصدق والإخلاص.
الرد على الكرامية القائلين بأن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط"
أما الكرامية أتباع محمد بن كرام ، فإنهم يزعمون أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، مستدلين على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أحكام الإسلام الظاهرة لكل من أقر وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بلسانه وكف عنهم وعدهم مؤمنين.
وهذا الذي قالوه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من الناس الإقرار باللسان صحيح، لكن ما استنتجوه من ذلك غلط فاحش؛ فقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى أحكام الإسلام على كل من أظهر الشهادتين بلسانه هو حق، لكن هذا ليس دليلاً على أنه حكم لهم بالإيمان باطناً وحقيقة، فهناك فرق بينهما.
فنقول: ماذا تريد يـابن كرام ؟
إن كنت تقصد بالإيمان الإيمان الحقيقي الذي ينجو به صاحبه من النار ويستحق به دخول الجنة، إما ابتداءً كمن سلم من الكبائر، أو بعد دخول النار لمن شاء الله تبارك وتعالى له أن يعذب بها، لكنه في العموم يستحق الجنة، إن كان هذا الإيمان هو قصدك، فهذا لا يكون بمجرد الإقرار باللسان، وإن كنت تقصد مجرد إجراء الأحكام الظاهرة، فنعم، لكن كلامنا هو في الإيمان على الحقيقة، وليس في الإيمان الظاهر وإجراء الأحكام.
فالمنافقون لم ينفعهم الإقرار باللسان؛ لأنهم لم يكونوا مصدقين بقلوبهم مخلصين في ذلك القول لله سبحانه وتعالى؛ فإن الصدق شرط أساسي من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فلابد أن يقولها صادقاً من قلبه، وكذلك الإخلاص؛ فلابد أن يقولها خالصاً من قلبه، أما إذا قالها الإنسان كما قالها فرعون حين أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فلو قالها في مثل هذه الحالة، لم ينفعه الإيمان، وهذه مسألة أخرى، وهي انتهاء وقت التكليف وخروج وقت الاختيار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر } وتوبة البشر جميعاً لها حد تنتهي إليه كما أن توبة الفرد تنتهي بالغرغرة.
فالإنسانية كلها باب التوبة مفتوح لها إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وأما الفرد في ذاته فمدة عمره إلى أن يغرغر، هي وقت مسموح فيه بالتوبة، فإذا رأى الهلاك فلا توبة له حينئذ؛ قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:85].
أبعد أن رأى البأس قال: آمنت؟! آلآن؟! فهل هذا إيمان بالغيب؟! إن هذا الإقرار في هذه الحالة ليس إيماناً بالغيب، وإنما هو إيمان بالمحسوس المشاهد.
فإذا رأى العبد ملائكة العذاب يأتون لنزع روحه، فقال: أسلمت وعلمت أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، لم ينفعه ذلك؛ لأنه الآن لم يؤمن بالغيب؛ بل آمن بشيء مشاهد مرئي، وكلمة (الإيمان) شرعاً معناها: التصديق بالشيء على الغيب، أما ما يراه الإنسان أمامه، فهذا لا يحتاج إلى أن يقال له: آمن به، كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن ابن عربي وقد كان يظن أنه هو الله -تعالى الله عن ذلك- وأن الله حل فيه، فلما حضرته الوفاة قال:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمناً واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وهذا آخر ما قاله ثم مات، كان يعتقد أنه الله، أو أن الله حل فيـه، فلما رأى ملائكة العذاب -نسأل الله العفو والعافية- أيقن أنه كان في غرور وفي أضغاث أحلام.
فلا ينفع العبد إيمانه أو إقراره حال الاحتضار بعد معاينة اليقين؛ فهذا فرعون لما غرق، وجاءته ملائكة العذاب، قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فما ينفعك الآن يا فرعون أن تكون من المسلمين: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس:91] هذا استفهام استنكاري بمعنى: ليس هذا وقت الإيمان، إنما وقته من قبل ذلك؛ حين رأيت البينات، أما الآن فقد رأيت العذاب نفسه.
أولم تر البينات؟! أولم يرك الله سبحانه وتعالى آيات عظيمة عجيبة على يد موسى عليه السلام؟
لقد أراك الله آيات جعلت السحرة ينقلبون في لحظة من قولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ [الشعراء:44] ومن إقسامهم بعزة فرعون، إلى قولهم: وَالَّذِي فَطَرَنَا [طه:72] في لحظة كفروا بفرعون ولم يعودوا يحلفون به ولا بعزته، وإنما آمنوا بالله وأقسموا بالله سبحانه وتعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
فهذان الركنان -الإقرار باللسان والإذعان بالقلب- متلازمان، فمن جاء بالإقرار بالقلب وحده لا يُعد مؤمناً، ومن جاء بالإقرار باللسان وحده لا يعد مؤمناً، هذا في الحقيقة لا في إجراء الأحكام الظاهرة على من جاء بالإيمان بالقلب وحده، فنحن لا نعلم ولا نرى ما في القلوب، لكن نقول: إذا قالها باللسانُ؛ فإنه يلزم بالأحكام، فإذا امتنع عن الصلاة مثلاً، فهو مرتد وتارك لدينه ومفارق للجماعة.
منقول من موقع الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي)